بين يدي التقديم

اختار المغاربة منذ ما يزيد على اثني عشر قرنا المذهب المالكي، إضافة إلى اختيارات تمثلت في العقيدة الأشعرية، والتصوف الجنيدي، وقراءة القرآن الكريم برواية ورش عن نافع. وقد ظلت هذه الاختيارات إلى يومنا هذا، شعارا من شعارات الدولة المغربية، وصورة من صور الوحدة المذهبية الدينية والأصالة الحضارية. واشتغل المغاربة سلاطين وعلماء على الحفاظ عليها والدعوة إليها. وقد تصدت كتابات وتصانيف منذ عهود سابقة لهذه الاختيارات مجتمعة أو آحادا، في مجلدات أو رسائل قصار، ولعل كتاب “الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب” للدكتور أحمد الريسوني من آخر ما صنف في هذا المجال، وهو موضوع هذا التقديم.

تقديم الكاتب

الفقيه العلامة المقاصدي الدكتور أحمد بن عبد السلام الريسوني، من مواليد سنة 1953م بقرية أولاد سلطان بإقليم العرائش، شمال المملكة المغربية. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بمدينة القصر الكبير، وحصل فيها على شهادة الباكلوريا في الآداب العصرية. ثم التحق بكلية الحقوق (شعبة العلوم القانونية) لسنة واحدة ثم غادرها إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية (شعبة الفلسفة) لسنة واحدة أيضا، ليستقر على التحصيل بكلية الشريعة بجامعة القرويين بفاس، ومنها حصل على الإجازة سنة 1978م. ليتم دراساته العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة محمد الخامس) بالرباط، والتي حصل منها على:
• شهادة الدراسات الجامعية العليا سنة 1986م.
• دبلوم الدراسات العليا (ماجستير) في مقاصد الشريعة سنة 1989م.
• دكتوراه الدولة في أصول الفقه سنة 1992م.
تقلب الدكتور أحمد الريسوني في وظائف عديدة منها: محرر قضائي بوزارة العدل (1973 ـ 1978) ثم رئيس القسم الإداري بالمحكمة الابتدائية بمدينة سوق أربعاء الغرب (1976/1977). ثم غادر قطاع العدل للعمل بسلك التعليم الثانوي الأصيل بثانوية الإمام مالك بمدينة مكناس (1978 ـ 1984). وعمل أستاذا لعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة محمد الخامس، وبدار الحديث الحسنية ـ بالرباط، (1986 إلى سنة 2006. وعمل أستاذا زائرا بجامعة زايد بالإمارات العربية، وبجامعة حمد بن خليفة بقطر، وبكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر. اختير “خبيرا أولا” لدى مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، منذ 2006 في مشروع معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية). ثم عين نائبا لمدير المشروع… ثم مديرا له إلى نهايته سنة 2012.
فضلا عن عدد من المهام في عدد من المؤسسات والهيآت العلمية والأكاديمية والدعوية بالمغرب وخارجه.

عرف الدكتور أحمد الريسوني بغزارة إنتاجه، ونذكر منها: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (ترجم إلى الفارسية، والأردية، والإنجليزية، والبوسنية – نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية – من أعلام الفكر المقاصدي – مدخل إلى مقاصد الشريعة – الفكر المقاصدي قواعده وفوائده – الاجتهاد: النص والمصلحة والواقع -الأمة هي الأصل – التعدد التنظيمي للحركة الإسلامية ما له وما عليه – ما قل ودل، ومضات ونبضات (مجموعة مقالات) – الوقف الإسلامي، مجالاته وأبعاده (نشرته منظمة الإيسيسكو وترجم إلى الإنجليزية والفرنسية) – الشورى في معركة البناء (ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية) – الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية (ترجم إلى الفرنسية والألمانية) – محاضرات في مقاصد الشريعة – الفكر الإسلامي وقضايانا السياسية المعاصرة – أبحاث في الميدان – مراجعات ومدافعات (مجموعة مقالات) – علال الفاسي عالما ومفكرا – فقه الثورة مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي – بحوث عديدة ضمن موسوعة (معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية) – التجديد والتجويد، تجديد الدين وتجويد التدين – التجديد الأصولي، نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه (تأليف جماعي) – القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة – الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف – دراسات في الأخلاق – معجم المصطلحات المقاصدية (تأليف جماعي) – علم أصول الفقه في ضوء مقاصده -المختصر الأصولي – الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب – مقصد السلام في شريعة الإسلام – قواعد المقاصد.

وله بحوث كثيرة منشورة في مجلات علمية، وضمن أعمال الندوات والمؤتمرات، ومقالات في صحف ومواقع إلكترونية.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في طبعته الأولى عن دار الكلمة سنة 2018 في سفر واحد من 224 صفحة، وهو من مقدمة وقسمين، تحت كل قسم فصول ومباحث، ثم الخاتمة.

أشار الدكتور أحمد الريسوني في تقديم الكتاب إلى أن الإسلام له امتدادان، الأول زمني والثاني مكاني، الامتداد الزمني تمثله أربعة عشر قرنا منذ البعثة النبوية إلى اليوم، في حين يمثل الامتداد المكاني رقعة الإسلام التي تغطي عددا من البلدان والقارات. ويرى أن الإسلام حافظ على وحدته بسبب القرآن الكريم، والتزام المسلمين بمذاهب فقهية وعقدية وسلوكية. ودعا إلى أن البحث في هذه المذاهب يجب أن ينصب على جوانب الاتفاق بينها. ثم بسط غرضه من هذا البحث، وحدده في أمور ثلاثة:

  • النظر في هذه المذاهب من حيث أسباب انتشارها وقبولها.
  • النظر في انحصار هذه المذاهب وكيف حصل ذلك.
  • النظر في مواقف علماء المسلمين ودعاة المسلمين اليوم، من هذه المذاهب والاختيارات الثمانية.

أما باقي محتوى الكتاب فهو في قسمين وخمسة فصول:

  • القسم الأول: وفصوله ثلاثة وهي: المذاهب الفقهية الأربعة – المذاهب العقدية الثلاثة – التصوف. وخصها للتعريف بهذه المذاهب وبمؤسسيها، حيث نسب كل مذهب إلى صاحبه، ثم فصّل في الجواب عن سؤال: كيف ظهرت هذه المذاهب الأربعة؟ معتبرا أن نشأة هذه المذاهب كانت تلقائية، وأن واقع الدولة وحاجيات المسلمين اقتضى فقها موحدا، وأن أئمة هذه المذاهب ومن جاء بعدهم من كبار العلماء قعّدوا قواعد وأصّلوا أصولا، الشيء الذي ساهم في تضييق شقة الاختلاف، ثم عرف بالبلدان التي انتشر بها كل مذهب، وأبرز أسباب انتشارها واستقرارها، معللا أسباب ضعف انتشار مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

وبنفس المنهج تقريبا عرض الكاتب المذاهب العقدية الكلامية الثلاثة، وأبرز دور المعتزلة في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، دون أن يغفل انتقاده الشديد لاستبدادهم السياسي، الذي ظهر في أسوأ صوره في قضية ما عرف بخلق القرآن. ثم أفاض في التعريف باتجاه الإمام أبي الحسن الأشعري الذي كان له دور في التصدي للمعتزلة، وكيف لقي هذا الاتجاه قبولا لدى عموم أهل السنة والجماعة وأهل الحديث، ثم حدد ارتباط المذاهب العقدية بالمذاهب الفقهية الأربعة، وبيّن عناصر الوفاق والاختلاف فيما بينها، مؤكدا أن العقيدة لدى هذه المذاهب الثلاثة واحدة لا تفرق فيها.

أما التصوف فخصه الكاتب بمبحثين: الأول عن أسباب ظهور التصوف، وذكر منها: ما طرأ على واقع المسلمين من تحوّلات، وما حدث في تديّنهم من فتور. أما المبحث الثاني فتناول فيه تعاريف عديدة للتصوف، مبيّنا بعض اتجاهاته وبعض رواده، مبرزا أن القرآن الكريم والسنة النبوية يجمعان بين هذه الاتجاهات. ثم لفت الانتباه إلى ما أصاب التصوف من انحراف، وخاصة التصوف الفلسفي.

  • القسم الثاني بفصلين اثنين: عرض فيه الكاتب مواقف بعض المعاصرين من مذاهب المتقدمين، ليقف عند “الحركة الوهابية”، معتبرا إياها فرقة كلامية جديدة، مؤكدا أن موقفها من المذاهب الثلاثة يغلب عليه طابع المعاداة، إلا ما كان من بعض الاستثناءات كالعلامة عبد الرحمان بن ناصر السعدي. ثم تتبّع مواقف هذه الحركة من الأشاعرة والماتريدية، وخلص إلى أنها تعادي هذين المذهبين، وشنع على بعض أعلامها شغفهم بـ”التفتيش العقدي” الذي لم يسلم منه حتى الإمام النووي رحمه الله، ثم بسط نصوصا تفضح مخالفتهم لمرجعهم الأعلى الإمام ابن تيمية رحمه الله. وتعقب موقفهم المتشنج من التصوف وأعلامه.

ولم يفت الكاتب أن يبسط موقف جمهور علماء المسلمين المعاصرين، وانتهى إلى أن موقفهم من المذاهب الثمانية هو القبول والتقدير والاحترام، مع إبداء ملاحظات تتعلق بأسباب الجمود والانحطاط، والدعوة إلى الاجتهاد. ثم ينهي حديثه بأن الحاجة اليوم ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى علم الكلام، وخاصة أمام تنامي نشاط شبكات عالمية لنشر الإلحاد ومحاربة الأديان. ويسجل الحاجة نفسها إلى التصوف، لما له من دور في نشر الإسلام في بقاع الأرض.

  • الخاتمة: وفيها قدم الكاتب خلاصات، أعاد فيها التأكيد على بعض القضايا التي وردت في الكتاب، مجددا الدعوة إلى تقريب الرؤى والمواقف بين جميع المذاهب الثمانية.

على سبيل الختم

عودنا الدكتور أحمد الريسوني على التفرد في اختيار بحوثه، وعلى شجاعته في طرح ما يؤمن به. وها هي كتاباته ومصنفاته – على اختلاف مباحثها – شاهدة على ما تميّز به هذا العلَم الفذ من وضوح في الرؤيا، وسعة في الاطلاع، وحضور وازن في القضايا المستجدة في حياة الناس وواقعهم. وكتابه «الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب» يحمل رسالة تلمّح إلى الحاجة الملحة إلى البحث في مسألة الاتفاق بين المذاهب الثمانية، مقدما ما أسماه بـ “النهج الجمهوري” لهذه المبادرة، التي نرجو أن تجد لها صدى في ربوع عالمنا الإسلامي، لنفرح يوما ما بوحدة جامعة بين المسلمين.