المحتويات
توطئة
سأعمل من خلال هذه الورقة على تقديم كتاب الأستاذ سعيد البهالي الموسوم ب “إضاءات حول الكتابة التاريخية عند الأستاذ الباحث ابراهيم اكريدية”، تجمع بين التقريظ أحيانا والقراءة الموازية والنقدية أحيانا أخرى، وقد اخترت أن يكون تناولي وفق خطوات منهجية سأستهلها بمحاولة لجس نبض ما يسمى بالنص الموازي من خلال بعض عتبات المؤلف، وهو مصطلح من نحث الناقد الفرنسي البنيوي جيرار جينيت، يحيل على العتبات التي تصادف المتلقي وهو يهم بولوج عالم النص.
عتبات الكتاب
وتبقى العناوين العنصر الأول من عناصر النص الموازي، التي تؤدي عادة وظائف مختلفة ومتنوعة حسب اختيارات الكاتب، فقد تكون شفافة مباشرة واضحة تختزل المضمون وتكثفه ما أمكن، وقد تتعدى ذلك إلى وظيفة ولعبة استفزاز القارئ وجعله يعيش نوعا من القلق الفكري تدفعه إلى طرح التساؤل تلو الآخر نتيجة لما يصاحبها من الغرابة والغموض وفعل الترميز والإيحاء. وأعتقد أن البهالي قد اختار عنوانا من الصنف الأول، فلا تجد صعوبة كبيرة في إدراك مدى التطابق بينه وبين أهم محاور النص، ولذلك اختاره عنوانا طويلا دالا مكثفا ومختزلا ومرشدا لأهم محاور الكتاب، إلا أنه مفعم –في الوقت نفسه- ببعض الغموض الناجم عن عمق وقوة بعض المفاهيم والمصطلحات الواردة فيه من قبيل: إضاءات، الكتابة التاريخية، منهجية البحث والتنقيب.
أما فيما يخص عتبة الغلاف؛ فهو -كما نعلم- ليس حلية يلبسها المؤلف بطريقة عبثية، وليس لعبا بالألوان والأشكال بغير مقصدية، بل هو خطاب دال مفكر فيه، يراهن عليه المؤلف لبعث رسائل خاصة، باعتباره واجهة الكتاب ودليله، فيساهم بذلك في تشكيل انطباع القارئ المبدئي ويحدد أفق انتظاره الأولي، الذي سرعان ما يتوسع أو يتقلص مع تقدمه في تقليب الصفحات. انتقى الأستاذ سعيد البهالي غلافا تتساوق فيه الألوان والأشكال والأبعاد الأيقونية والخطية فتشي بإيحاءات دلالية بؤرتها أننا أمام شخصية غزيرة الإنتاج متنوعة الاهتمام التاريخي، ولا أدل على ذلك عملية “الروميكس” التي أجراها على مجموعة من الصور المتداخلة في فضاء الغلاف التي تمثل بدورها أغلفة لنماذج من كتب ومؤلفات الأستاذ ابراهيم كريدية، تلتقي في موضوع الكتابة التاريخية المحلية حول أسفي.
وبإضافة اطلاعنا الأولي على المؤلف نستطيع أن نغامر قليلا في محاولة تحديد طبيعة هذا المنجز، فنقول أننا إزاء مؤلف يجمع بين نوع من الترجمة والسيرة الغيرية مع التركيز على الشق المعرفي والعلمي للشخصية الموضوع، وبين الطبيعة النقدية الصرفة، خاصة وأن البؤرة البحثية للكتاب تتمثل في القسم الموسوم بعنوان «إضاءات حول منهج الأستاذ كريدية في الكتابة التاريخية» وهو عنوان يدل على أن الكاتب قد استقرأ مختلف مكونات المنجز العلمي للأستاذ ابراهيم كريدية واستخرج -في ضوء ذلك- سبع معالم منهجيته في الكتابة التاريخ للأستاذ إبراهيم: البساطة في الأسلوب، الموضوعية، اعتماد الرواية الشفوية، الاستعمال المكثف للوثيقة المكتوبة، التواضع العلمي، البحث الميداني، التصميم الجيد والدقة في اختيار العناوين، توظيف الصورة التاريخية.
محتويات الكتاب
لنتقدم قليلا، ونحاول أن نكشف مقصدية الكاتب من خلال سبر أغوار مؤلفه، فنقول، سعى الكاتب سعيد البهالي من خلال منجزه -في اعتقادنا- أساسا إلي تحقيق عدة مآرب، نوجزها كما يلي:
- أولا: تثمين فعل الكتابة التاريخية المحلية بآسفي وما إليه، وبيان أن الأمر ليس ظاهرة جديدة ابتدأت مع الأستاذ ابراهيم اكريدية، بقدر كونها صيرورة قديمة انطلقت مع عدد من المؤرخين والجغرافيين تعود إلى حوالي ألف سنة على الأقل، تواصلت واكتملت وصارت أكثر نضجا مع بدايات القرن العشرين على يد كل من: الفقيه بن محمد الصبيحي السلاوي، والفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني، قبل أن يواصل المشوار آخرون من قبيل: الطيب عمارة، عبد الرحمان بن الشيخ، وأحمد بوشارب، وعلال ركوك، وعبد اللطيف الشادلي، ومحمد السعدي الرجراجي وغيرهم. ويعد ابراهيم اكريدية امتدادا لهذه الجهود وتتويجا لها، ومؤسسا لمرحلة نضج أكبر لمشروع الكتابة التاريخية المحلية بطريقة علمية ومؤسساتية قاصدة، لذلك أطلق عليه عنوانا دالا على ذلك: “ذ. إبراهيم كريدية جوهرة ضمن عقد فريد ممن أرخوا لمدينة أسفي”، وأجزم أن الأستاذ سعيد البهالي سيكون ممن سيحملون المشعل في السنوات المقبلة بحول الله.
- ثانيا: سعى الكاتب في أكثر من موضع من المؤلف بطريق مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى، إلى التأكيد على ثنائية عجيبة بالنسبة لشخصية ابراهيم كريدية، الباحث/الحامل لقضية أسفي. فهو من جهة، باحث يتوسل بكل الأدوات المعرفية والمنهجية الأساسية والضرورية للكتابة التاريخية بمختلف ألوانها وأشكالها، لا يألو جهدا في الاغتراف من المناسب منها لكل بحث، لذلك وصفه الباحث بأنه امتلك ناصية البحث التاريخي، وهو من جهة أخرى، آسفي يحمل قضية المدينة بين جنباته أينما حل وارتحل، شغوف بها وبكل ما يتعلق بها، مهموم ومتألم لحالها وما تلاقيه من جفاء وجحود وسوء تقدير وخاصة من أهلها. وسأسوق مقطعا من الكتاب يعبر عن ذلك بوضوح عندما كتب:
«آسفي ليست مجرد مدينة ذات أبعاد فيزيائية وإحداثيات جغرافية فقط، بل هي حلة وجدانية أيضا، مدينة تسكنه ويسكنها، هي مدينة تحيا وتتنفس وتتألم.» (ص12)، أو ما سماه الباحث “بالحب الوثني” تجاه هذه المدينة، وهي استعارة وظفها كريدية نفسه، إشارة منه إلى تعلقه الكبير بكل ما هو أسفي.
- ثالثا: إبراز معالم المشروع التاريخي و التراثي الذي يشتغل عليه الأستاذ إبراهيم، منبها أن غايته الكبرى كانت رغبته في التأسيس لكتابة تاريخ آسفي وباديتها عبدة، وإغناء الخزانة التاريخية المحلية والوطنية بالجديد والمفيد من البحوث والدراسات، وذكر الباحث في هذا الصدد بعض أركان هذا المشروع من بينها:
– إنجاز ما يقارب المائة مؤلف في مختلف القضايا التاريخية والتراثية والعمرانية والحضارية والفنية والاجتماعية والاقتصادية لمدينة أسفي وباديتها.
– تنظيم ندوات علمية حول قضايا تهم أسفي.
– إنجاز أطالس تاريخية عن مواقع وآثار وعائلات وأعلام أسفي.
– مشروع إنجاز 30 فلما وثائقيا،أنجز منها واحد حول محمية الغزلان بسيدي شيكر.
– تأطير وتنظيم عدد محاضرات وندوات واللقاءات الثقافية والفكرية؟
– تأسيس وإدارة جمعية أسفي للبحث في التراث الديني و التاريخي والفني (تأسست سنة 2000).
– إصدار مجلة “الهدف” ثم”أسفو”.
– تقديم المساعدة للطلبة و الباحثين في تاريخ آسفي.
- رابعا: سعى الكاتب بشكل حثيث كذلك لإبراز مدى التنوع الكبير في المداخل العلمية وأدوات البحث التي استعان بها الأستاذ كريدية في الكتابه التاريخية؛ الأمر الذي مكنه من تناول موضوعات مختلفة يعز على غيره من الباحثين الجمع بين بعضا فقط، ومن ذلك نجد تأليفه وبحثه في: تاريخ الأحداث، والتاريخ الاجتماعي والثقافي بشقيه المادي واللامادي والحضاري للمنطقة من خلال الإتكاء على أدوات أنثروبولوجية وأركيلوجية، وعبر المزج بين الوثيقة التاريخية والرواية الشفهية.
- خامسا: إظهار التحرر الفكري الذي ميز شخصية الباحث كريدية ونجاحه في إبعاد الخلفيات والأحكام المسبقة التي قد تسقطه في الانتقائية والإقصائية والذاتية والتعسف…، ويتجلى ذلك بوضوح من خلال جملة من المؤشرات الموضوعاتية والمنهجية:
– رغبته القوية في التوثيق وتحري الموضوعية عن طريق استحضار وتوظيف الوثيقة التاريخية وتقليبها على أوجه متعددة قصد الاقتراب أكثر من حقيقتها ودلالتها التاريخية، وغياب التسرع في استصدار الاستنتاجات.
– التنويع في الموضوعات: تاريخ الأحداث من حقب مختلفة، تاريخ الأعلام على تعدد مشاربهم، اهتمامه اللافت بالتراث الثقافي والتاريخ الاجتماعي الحضري والقبلي.
– دراسة تاريخ الوجود اليهودي بأسفي بكثير من الإنصاف والموضوعية.
– الانفتاح على المناطق المجاورة دون عصبية وبكثير من العلمية مثل دكالة، احمر، الشياظمة.
خاتمة
أختم هذه القراءة المتواضعة ببعض الملاحظات العامة التي خرجت بها من قراءتي للمؤلف قيد الدراسة، والتي سأستهلها بإطلاق عنوان أراه مناسبا لهذا العمل ويكشف عن جوهره من الجانب القيمي والأخلاقي، يتعلق الأمر بعنوان: “الوفاء لأهل الوفاء”، فالأستاذ كريدية يمثل الوفاء الثاني في العنوان، الأول في الزمان، والنابع من ذاته المحتقنة بالتاريخ المجيد لحاضرة المحيط، نحو واقع أقل إشراقا، حيث لا يتوانى في التعبير عن حبه الوثني وعشقه وهيامه الصوفي بها، ووفي حمل همومها وقضيتها في حله وترحاله، بينما يمثل الأستاذ البهالي الوفاء الأول في العنوان، الثاني في الزمان؛ وهو لعمري وفاء وأي وفاء، فهو بهذا العمل يشكل استثناء في الواقع الذي نعرفه ونعيشه، ومن الحالات النادرة التي يؤلف فيها باحث كتابا تعريفيا نقديا بهذا الحجم يتسم بالعمق والدقة وليس السطحية والتعويم، يؤلفه عن باحث آخر دون أن يكون مبعث ذلك مصالح أو مآرب غير مصلحة المدينة وأهلها وخدمة خالصة للمسألة المعرفية العلمية في شقها التاريخي، بل وأكثر من ذلك ترافع بكل قوة من أجل تخليد ذكرى الرجل وهو حي يرزق من خلال إطلاق اسمه على الخزانة البلدية اعزيب الدرعي.
بينما تحيل الملاحظة الثانية على براعة الكاتب سعيد البهالي في المزج بين عدة ثنائيات يبدو بعضها متقابلا، ونضرب لذلك أمثلة؛ من قبيل نجاحه في المزج بين الذاتية والموضوعية في آن واحد، فرغم اعترافه منذ البداية بالتحيز العاطفي والمعرفي للشخصية الموضوع، فإن ذلك لم يمنعه من التوسل بالمناسب من الأدوات من استقراء أعمال الأستاذ كريدية واستنباط أبرز خصائصها التاريخية والتيمية والمنهجية والأسلوبية. ومن تلك الثنائيات أيضا نجد: ثنائية القيمي مع المعرفي، البساطة مع الدقة والعمق…
أهنئ مرة أخرى الأستاذ سعيد على مبادرته ومساهمته في بعث روح الوفاء لأهل الوفاء نحو شخصية فذة قلما يجود التاريخ بنظير لها، ومن المؤكد أن تجربة إحياء الاعتزاز بأسفي التاريخ والثقافة، سيسهم بالتأكيد في تبوئها المكانة التي تستحقها، كما أن الأمر يقتضي التحول من كريدية الفرد إلى ما يشبه الحالة العامة لأبناء حاضرة المحيط الذين يسكنون حب هذه البقعة ويهمهم هاجس خدمتها.