المحتويات
توطئة
أدبيات المقاومة هي مجموعة فرعية من الإنتاج الأدبي والذي هو نشاط اجتماعي سياسي يشارك في صراع ضد الأيديولوجيات السائدة. وتُظهر لنا أدبيات المقاومة نضال الكاتب، وهو ظاهرة عالمية، ويهدف إلى تحدي القاعدة وتحدي الممارسات الثقافية؛ وبالتالي منح الأمل.
إن تاريخ أدب المقاومة هو شهادة على قوة الكلمة في الدعوة إلى التغيير، وتحدي القمع، والحفاظ على الذاكرة الجماعية. وعبر سياقات تاريخية مختلفة، كان الأدب بمثابة أداة فعالة للتعبير عن المظالم، واستعادة الهوية، وحشد الدعم لحركات المقاومة. ويحمل دلالات التعبئة، واستشعار المواطنين وشحذ عزائمهم عبر الإيحاءات الفنية والمحسنات البديعية والكلمات والعبارات البليغة والصور الموحية، لخوض غمار الكفاح الوطني وخدمة الرسالة الوطنية.
والرواية كجنس أدبي، يندرج ضمن أدب المقاومة، وتعد من أقوى أشكال التعبير الأدبي عن تجربة المقاومة، لتنوع روافدها التعبيرية والفنية، ولرحابة مساحتها الزمانية وفضاءاتها المكانية مما يفسح أمامها مجالاً واسعا للتعبير عن الأحداث الكبرى والمفصلية في حياة الأفراد والشعوب. (مقدمة الرواية، ص: 5)
وقد عكفت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير على إبراز الاجتهادات والإبداعات الفكرية والبحثية والتثقيفية التي تجود بها قرائح المبدعين من دارسين وباحثين وروائيين في كافة صنوف وجوانب البحوث التاريخية والدراسات الأدبية من شعر ومسرح وقصة ورواية. لاستحضار الملاحم النضالية والبطولية وروائع الكفاح الوطني التي تزخر بها الأمجاد التاريخية الوطنية التليدة التي هي مفخرة الأجيال المتعاقبة التواقة للمزيد من المعرفة الإنسانية الثقافة الروحية والأخلاقية، بما ينهض ويرقى برسالة تربية النشء على روح وقيم طنية الخالصة والمواطنة الإيجابية. (مقدمة الرواية، ص5)
وتندرج في هذا الإطار رواية «لا تبكي يا أمي سوف أعود يوم يعود” للباحث المقاوم أحمد السباعي الإدريسي. وهو عمل روائي استند على التاريخ من أجل نقل صورة عن محطة مفصلية من فترة الحماية الفرنسية المغرب عبر سرد درامي مؤثر للأحداث لا يخلو أحيانا من التحليق في أجواء الأدب والفن والخيال والمستملحات والنكتة المسلية.
إطلالة على الرواية
لقد اختار المبدع أحمد السباعي الإدريسي، حدث نفي السلطان الشرعي سيدي محمد بن يوسف والأسرة الملكية، موضوعا لروايته. ومعروف أن هذا النفي كان بداية لشرارة مستجدة، دفعت بعموم الشعب المغربي إلى استنكارها والوقوف في وجهها. فجاءت ثورة الملك والشعب، تطالب بإرجاع بن يوسف إلى عرشه، ومهاجمة الدمية بن عرفة الذي اختاره الاستعمار الفرنسي ضدا على الإرادة الشعبية، وتعرض لمحاولة الاغتيال من طرف المجاهد علال بن عبد الله الذي ضحى بنفسه من أجل استقلال المغرب، ودافع عن الشرعية والمشروعية التاريخية وعودة السلطان من المنفى إلى عرشه وشعبه.
انتقى المؤلف أبطال روايته من النساء، وعلى رأسهن أمينة بطلة روايته، وهي الشخصية المحورية في صناعة دراما الأحداث، كفدائية واعية بأبعاد التضحية من أجل الوطن والعرش. نهلت من المنابع التربوية للتعليم الحر يومئذ بمدينة مكناس حيث تدور مختلف وقائع الرواية التي اقترنت بيوم 20 غشت 1953م . (مقدمة الرواية ص 6)
ولو أن أحداث الرواية ركزت على البطلة أمينة، فإن شخصيات أخرى متعددة تكمل سيناريو الأحداث، وتسمى فى المفهوم الأدبى للرواية بالشخصيات المساعدة أو الثانوية، وعلى رأسها طافكا الأمازيغية، ونينا الألمانية وزهرة ولطيفة.. وغير هن من النسوة اللائي بدونهن لن يكتمل بناء الرواية.
إن الوسط الذي ترعرعت فيه أمينة أهلها لتكون مناضلة ومنافحة ومكافحة رضعت الإباء من أسرتها، وقد سهل الله على أمينة طريق الرشاد، وهيأ لها أسباب الوداد حتى ألفت قلوب صويحباتها على حب الوطن وملك البلاد محمد بن يوسف حبيب الفؤاد والمدافع على حقوق العباد في ربوع البلاد موطن الأبوة والأخوة، وبلد ذوي الحجة من علماء وأدباء وأصحاب القباب والكرامات والمجاهدين الأباة الذين فضلوا الموت على الحياة ليعيش المغرب أرضا وشعبا في حلل الحرية والكرامة والبهجة ما دامت الأرض والسماوات.
أمينة فدائية مجاهدة تربت في أحضان أسرة ميسورة الحال، إذ كان أبوها بزازا وكانت أمها ربة بيت حاذقة متواضعة بشوشة. لها أخوات ثلاث هي رابعهن، لذلك كانوا يسمونها “رابعة العدوية” لما تتصف به من تواضع وحب الخير للبشر قاطبة. كان أخوها الوحيد في الأسرة يسميها لؤلؤة الأسرة إذ كانت بيضاء ذات شعر أسود أثيث، كما أنها كانت بدورها تحب والديها وأخواتها وأخيها حبا جما.
بدأت دراستها بمدرسة النهضة الإسلامية التي فتحت أبوابها كمدرسة حرة بالمال الخاص لجلالة السلطان محمد ابن يوسف. ورضعت من ثدي أمها الحنان والذكاء والوطنية الحقة، أما أبوها فقد غرس في قلبها حب الدين واللغة العربية الفصحى. ولما دخلت المدرسة التي هي بالنسبة لوطنيين مركز إشعاع للثقافة والوطنية شربت من معينها ماء الحب المتين والتضحية النفس والنفيس والإخلاص للوطن والسلطان. (مقدمة المؤلف، ص: 11)
لم تتقبل أمينة الفعل الإجرامي الذي قام به “كَيوم”، المقيم العام الفرنسي، حيث نفى السلطان محمد بن يوسف يوم عيد الأضحى الموافق ل 20 غشت 1953م، إلى جزيرة كورسيكا، مما دفع أمينة للانخراط في خلية فدائية بحي سيدي عمرو الحسيني بمكناس.
قامت أمينة بعدة عمليات فدائية في أحياء المدينة والقرى المجاورة لها، إلى أن ألقي عليها القبض، فسيقت إلى السجن ثابتة الجنان باسمة الثغر مرتاحة البال وهي تردد: “عاش المغرب، عاش محمد بن يوسف، يسقط الاستعمار، وأعوان الاستعمار، ولعنة الله على كل من خان وطنه وشعبه والقادة المخلصين لله والوطن والسلطان”.
استغلت أمينة تواجدها في السجن المدني بمكناس فاستطاعت بذكائها وهي بداخل قاعة فسيحة أن تراود عددا من المحكوم عليهن بالسجن جزاء لما قمن به من أعمال رآها الاستعمار مخالفة لقوانينه وشريعته التي يوهم بها السذج من أبناء المغرب لكي يقال عنه أنه يطبق بنود الحماية وأحكام الدين الإسلامي. (مقدمة المؤلف، ص: 12)
بعد أيام قليلة استطاعت أمينة أن تملك الزمام فتعرفت على عدد لا يستهان به من النساء من مختلف الأعمار، منهن البريئات والمذنبات والوطنيات المخلصات لله والوطن والسلطان محمد بن يوسف بن الحسن الأول. فأكدت لهن أنه الملك المخلص للشعب والفدائى الأول النموذجى والمثالى الذى ضحى بثروته وعرشه من أجل استقلال وطنه وحرية شعبه، وأمله في الله كان كبيرا أن يعود إلى وطنه وشعبه ووثيقة الاستقلال فى يده.
إن أمينة قبل أن تدخل السجن كانت تعلم أن قوى الاستعمار لم ولن تستطيع هزم شعب مخلص يقوده سلطان شريف هو محمد بن يوسف، وزعماء أحزاب، كعلال الفاسي، وأحمد بلافريج، ومحمد بن الحسن الوزاني، ومحمد المكي الناصري، وعبد الخالق الطريس، رغم ما يملكه من حوافز مادية ومعنوية. لكنها استطاعت أن تغوي وتغري أصحاب المصالح والأطماع كباشا مدينة مراكش والدائرين في فلكه، فأعمت قلوبهم وجعلت منهم بيادق وفراعنة العصر يحترفون البطش والمكر والقتل، وصيرتهم غيلانا وحيوانات ضارية تتهافت على الطعام لإسكات نداء المعدة، وسكارى وطالبي اللذة ليلبوا نداء السراب. ولم يعلموا أن الإنسان السوي الوطني الحق، بالفكر والدين والعلم يصنع نفسه، وأن المغريات المذكورة إلى زوال، وأن محبة الوطن راسخة في الأفكار، ثابتة في القلوب لا تقاس بدراهم من ورق ولا دنانير من نضار. (مقدمة المؤلف، ص: 13)
استطاعت أمينة بوعيها وتضحياتها وفدائها أن ترسم معالم شخصية يقتدى بها في ضروب النضال، وبناء المستقبل. لقد تحولت بحكم ثقافتها الواسعة إلى مرشدة ومحاضرة للأوضاع العامة في المغرب آنذاك. إلى جانب اهتمامها مع زميلاتها المثقفات داخل الزنزانة باستحضار التاريخ العربي والإسلامي القديم والحديث، لتقمن بانتقاء قصص بطولية رائعة من الرصيد التاريخي المغربي بروائعه وأعلامه من الملوك العظام والمجاهدين والمقاومين الأبرار ممن انتصبوا منارات مشرقة أضاءت الطريق والمسار التاريخي وامتد بريقها واشعاعها إلى اليوم. وقد أبرزن أدوار المرأة المغربية في صناعة الأحداث وفي الانتصار لعودة السلطان سيدي محمد بن يوسف الذي بعودته عادت أمينة إلى حضن أمها الدافي.
وعلى درب أمينة ومثيلاتها، وفي عهد الاستقلال والوحدة، واصلت المرأة المغربية نضالاتها على كافة الأصعدة وفي كافة المجالات من أجل بناء وإعلاء صروح المغرب الجديد، الحر المستقل والتواق للتنمية والتقدم.
خلاصة
يجدر القول ان هذا العمل الروائي الشيق والممتع سيتيح للقارئ رصد لوحات رائعة لحقبة من تاريخ الكفاح الوطني الذي بذل الباحث المقاوم جهدا كبيرا في بلورته مع المقومات الفنية للعمل الروائي، حيث وفق في تضمين حوارات شخصياته وأبطاله متعة السرد والتخيل وجمال اللغة وحرفية التصوير وبراعة الاستعارات والكتابات والتشبيهات وغيرها من الأدوات الجمالية.
إنه وعلى الرغم من قلة الروايات التي تناولت تيمة المقاومة، فقد كان للرواية دور كبير في إيقاظ وتشكيل الوعي الوطني إزاء حدث ما. واليوم وفي ظل زحف التحدي الثقافي الأجنبي، أصبحت الحاجة ملحة لكى تتحرك وتتحرر الأفلام لتبدع روايات تكون نبعا لا يجف من معاني وقيم الوطنية وأقباس الفداء والتضحية ودروس الإيثار ومبادئ التحرر.. روايات تكون منارات حقيقية أمام أجيالنا القادمة. (مقدمة الرواية، ص: 7\8)