تقديم

رواية “سيدة الرياض العجوز” شهادة تثبت عشق فؤاد العروي لبلده المغرب؛ هذا البلد الذي يعشقه أيضا الكثيرون من الأجانب لكنهم لا يعرفون عنه الكثير وبالأخص المجال الثقافي. العروي الذي يعشق اللغة العربية وينفي انتسابه للفرونكُفونيين بالرغم من اشتغاله وكتابته بلغة موليير بحكم تخصصه، مكدا أنه يعشق العربية ولا يخدم أجندات ثقافيّة فرنسية.

تشدك الرواية بأسلوبها السلس وتسلسل الأحداث والسخرية، ودقة الوصف فيعيش القارئ رحلة مشوقة من فرنسا إلى مراكش المرابطين التي يعود بناؤها إلى العام 1070م من قبل السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، وفي وجهها الحديث تشاهد أحدث الفنادق والمولات والمسابح والمتاحف والحدائق والطرق السريعة والمطاعم والمقاهي الشعبية. مآثر المدينة المغربية التاريخية جعلتها عاصمة السياحة المغربية، ذات الإشعاع العالمي. إنها مدينة “البهجة ” برياضها الخلابة ونخيلها، كما تعتبر إحدى أهم المدن المغربية التي نالت النصيب الأوفر من المعالم التاريخية بفضل الدور الذي لعبته في العصور السابقة، خاصة وأنها كانت عاصمة للمغرب وملتقى للقوافل التجارية القادمة من جنوب الصحراء. العروي ومن خلال شخوصه وأسلوبه الحكواتي استطاع أن يرحل بالقارئ إلى عالم يجهله ولا يستوعب ثقافته ولا تقاليده، ويصدم ببعده الحضاري.

العروي شاعر يعشق الحياة

ولد فؤاد العروي سنة 1958م بمدينة وجدة عاصمة الشرق المغربي. وهو مهندس وأستاذ اقتصاد، درس بثانوية ليوطي الراقية والمتميزة، والتحق بمدرسة القناطر والطرق المعروفة بباريس واشتغل بعدها لبضع سنوات بالمكتب الشريف للفوسفاط بالمغرب، قبل أن يترك كل شيء لمعانقة مسار مدرس وكاتب. يقيم الآن بأمستردام، مدرسا للاقتصاد في جامعتها.

والعروي شاعر باللغة الهولندية، أما كتاباته باللغة الفرنسية فقد جعلته يشق مسارا روائيا وقصصيا متميزا منذ مؤلفه الأول “أسنان خبير المساحة” (1996م) الذي لقي إعجابا باهرا لدى الجمهور والنقاد وفاز من خلاله بجائزة ألبير كامو للاكتشاف، وقد اختير ضمن قائمة من الكتاب المرشحين ضمت أيضا فرانك كورتيس وج.لاتيس وماثيو ريمي. منذ ذلك الحين وكتاباته تعيده إلى طفولته، إلى وطنه وتاريخه، لكنه يستمتع وهو يغذي الواقع بالمتخيل، ليمحو الحدود بين السيرة الذاتية والخيال.

كما توج  بجائزة غونكور لسنة 2013م عن مجموعة قصصه “القضية الغريبة لسروال داسوكين” (دار “جوليار)، وقد قدمت إليه الجائزة في احتفال كبير بمدينة ستراسبورغ الفرنسية، حضره أعضاء أكاديمية غونكور ومن بينهم الطاهر بنجلون وبول كونستانت. تسلم فؤاد الجائزة من طرف عمدة ستراسبورغ رولاند رايس الذي عبر عن فخره بـ”العمل المميز والأسلوب المبدع” الذي تحتضن تكريمه مدينته منذ 2001م، في إطار الأحداث الهامة لمهرجانها الثقافي “المكتبات المثالية”.

المترجم سعيد بلمبخوت

سعيد بلمبخوت كاتب ومترجم مغربي، من مواليد 1959م، ببن معاشو، له العديد من الروايات والقصص والترجمات المنشورة، يقيم في إقليم الجديدة في المغرب. ترجم رواية “الحضارة أمي”، لإدريس الشرايبي (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة إبداعات عالمية، الكويت 2014). صدرت له رواية بالفرنسية تحت عنوان “Les lauriers d’Isabelle” (عن دار اديليفر- باريس، 2016م)، وصدرت له مجموعة قصصية بالفرنسية أيضا تحت عنوان “Moments fugaces” (عن دار اديليفر- باريس، 2016). كما صدرت له مجموعة قصصية بالعربية تحت عنوان “همس الكلمات وقصص أخرى (دار نور للنشر، ألمانيا 2017)، وترجمة لكتاب “الثورة الرقمية” (عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، الكويت). وهو عضو مؤسس لصالون مازغان للثقافة والفن بمدينة الجديدة المغربية.

 إطلالة على الرواية

اجتهد العروي في تقديم صورة إيجابية عن بلد عشقه، وآمن باختلاف الحضارات والثقافات وتلاقحها، وخلق فضاء للتعايش يحفظ لكل شعب كرامته، ويتجاوز أخطاء الماضي والنظرة الدونية، والاهتمام بالغيرية.

من خلال سرد جميل تبدأ الحكاية، هي حكاية زوج باريسي٬ سيسيل وفرانسوا٬ اللذان قررا الاستقرار بمراكش واقتناء رياض أسوة بنجوم وأثرياء العالم. الفرنسيان سيصدمان باكتشاف سيدة عجوز٬ تنزوي في غرفة بالمبنى الذي طالما حلما بامتلاكه. لا الوسيط العقاري حمودان ولا الضابط شعبان نجحا في طرد هذه العجوز التي تلزم الصمت. وحده الجار منصور٬ أستاذ جامعي٬ كان قادرا على كشف سرها. “هؤلاء النصارى جاؤوا ليعيدوا إلي ابني الطيب”٬ الذي اختطف خلال حرب الريف٬ تقول العجوز.

كما في روايته “المرأة الأغنى في يوركشاير”٬ يراهن العروي على بنات حواء من أجل القيام باكتشافاته التاريخية٬ السوسيولوجية والأنثروبولوجية. كما لو أن المرأة٬ هذا الكيان الطافح بالأحاسيس والرغبات والطموحات اللامعبر عنها٬ أقدر من غيرها على رفع الستار عن الحقائق المنسية أو المطمورة.

يبدأ الجزء الثاني من الرواية بسيرة اختفاء الطيب وتاريخ المغرب إبان الحماية. بأسلوب أنيق وسخرية رفيعة٬ يحرك العروي شخصياته بذكاء متجها بمغزى السرد نحو تبخيس الأحكام الجاهزة التي تحول دون التعايش والتقارب بين الثقافات.

تحفل الرواية بمقاطع ساخرة تفضح سوء الفهم الصارخ للثقافة المغربية. يقول فرانسوا لزوجته٬ وهو يحتفي بانتقال الأسرة إلى المغرب: “قريبا سنصبح مغاربة أكثر من بورقيبة”. في مقطع آخر٬ يبدي الزوج الفرنسي جهلا بفرنسية الوسيط العقاري الذي يتحدث لغة فرنسية كلاسيكية٬ معتقدين بأنها أمازيغية.

وفي الجزء الثالث٬ يتنبه فرانسوا وسيسيل إلى أنهما انتقلا إلى مكان ليس به فقط جمال ومراكشيون٬ بل تاريخ أيضا.

لقد حاول العروي بطريقة ذكية وساخرة شد انتباه أولئك الوافدين الذين لا يكترثون بثقافة وتاريخ البلد الذي يرحب بهم كسياح أو مقيمين، وﻻ يخفى أن مدينة مراكش أصبحت خلال الآونة الأخيرة قبلة للأجانب، إذ اقتنى الكثير منهم عقارا أو رياضات قديمة، واستقروا بها. بالتأكيد أن سحر المدينة ومعالمها وساحاتها تبهر كل العالم، لكن كيف يتسنى للكاتب أن يدفع بقلمه أولئك الأجانب إلى معرفة كنه المعالم الحقيقية لهذا البلد المتمثلة في الثقافة والهوية والتاريخ وما إلى ذلك؟. سيعود الكاتب من جديد إلى بلده صحبة شخصياته الروائية ليحدد تلك المعالم، ليعيد قراءة التاريخ بطريقة الكتابة، ومن ثم يتعين على قرائه متابعة خطواته خطوة خطوة وهو يشير إلى التمايزات الثقافية بين المغاربة والفرنسيين، في أفق تمرير رسالة حول ضرورة فهم الآخر، وتجاوز الأفكار النمطية والأحكام المسبقة.

خاتمة

يُعدّ صاحب «المهبول» أحد أبرز الأسماء الروائية العالمية التي تكتب الرواية بنفس مختلف ووعي قويّ بتحوّلات المجتمع المغربي وتصدّعاته. بل إنّ مؤلفات من قبيل «العودة إلى كازابلانكا» و «أسنان الطوبوغرافي» و «سيدة الرياض العجوز» تُظهر النفس الساخر الذي تتميّز به كتابات العروي داخل الرواية المغاربية إلى جانب إدريس الشرايبي، والطاهر بن جلون، وعبد اللطيف اللعبي. إنّ المُثير في سيرة العروي أنّه رغم كونه درس مجال العلوم من خلال الهندسة والرياضيات، إلاّ أنّه استطاع بسرعة أنْ يجد لنفسه طريقاً مُختلفاً داخل الأوساط الروائية الفرنسية إلى جانب قامات كبيرة تطبع الثقافة الفرنسية المعاصرة برواياتها وقصصها ومسرحياتها ومتونها الفكرية. كما أنّ إيمان العروي بقيمة الأدب إلى جانب المجال العلمي الذي يشتغل داخله، يجعله يتنقّل بسهولة بين كتابة القصّة والرواية والتأليف الفكري. وهي ميزة تُحسب لفؤاد العروي تجعله يخرج من خندق الأديب المُلتحم فقط برواياته، إلى فضاء المثقف الموسوعي العارف بخبايا الثقافة ومُتخيّلها. وتأتي الكتابة بالنسبة إليه بالفرنسية، باعتبارها خطاباً يُكسّر حدود الصُوَر وسياجات الهويات المُغلقة من خلال الانفتاح على أفق لغوي مُنفتح ومُنتج. ذلك إنّ صاحب كتاب «مرافعة من أجل العرب» يعتبر بأنّ إشكالية اللغة ليس لها حل في المغرب، مادامت المناقشات تتحكّم فيها عوامل أيديولوجية وليس علمية. من هنا جاء كتابه «الدراما اللغوية المغربية» ليُدافع عن هذا التعدد اللغوي الذي يتميّز به المغرب بين العربية والأمازيغية والدارجة والفرنسية، إذْ يعتبرها موطن قوّة ونجاح. فحين ينبغي الحديث عن اللغات من الضروري أنْ تكون المُنطلقات علمية تسعى إلى الحفر في خصوصية هذه اللغات وما يُمكن أنْ تُقدّمه للناس، بدل الاحتكام إلى عوالم إيديولوجية تتمثّل في الهوية أو الدين أو القبيلة أو التاريخ.