المحتويات
مقدمة
صحيح أن معظم الباحثين والدارسين يجمعون على أن هزيمة المغرب في معركتي “إيسلي” ضد فرنسا سنة 1844م، وضد اسبانيا في “حرب تطوان” سنة 1860م، شكلتا لحظتين مفصليتين في تاريخ المغرب، في علاقته بالدول الأوروبية، خاصة فرنسا، حيث انتزع قناع الهيبة الذي كان يحمله المغرب، غير أن هذا لا يستوجب تناسي حقيقة أن بلاد المغرب الأقصى كانت بقعة جغرافية بالكاد تُعرف، خاصة منطقة الريف وجبالة. ولعل ما يعلل صحة هذا الادعاء وصف الرحالة البلجيكي “جيل لوكليرك” (Jules Leclerq) في كتابه “من موكادور إلى بسكرة رحلات داخل المغرب والجزائر” للمغرب على أنه مرور فوري من التوحش إلى الحضارة: “حين نغادر المغرب للدخول للجزائر، يبدو وكأننا نمر على الفور من التوحش إلى الحضارة”[1]. ولعل نفس السبب (ألا وهو الجهل بالمغرب) كان دافعا وراء اهتمام الرحالة “شارل دو فوكو” (Charles de Foucauld) الحصري في كتابه “التعرف على المغرب” بزيارة المناطق المجهولة: “لم يكن دو فوكو يهتم بالمقام في المدن المعروفة التي سبق أن كتب عنها كفاس وتطوان. وإنما كان يهمه بالدرجة الأولى زيارة المناطق المجهولة التي لم تسلك بعد من قبل الأوربيين مهما بلغت وعورتها وخطورتها، والتعرف على سكان البادية في السهول والجبال ومدى نشاطهم وإنتاجهم وعلاقاتهم بالمخزن”[2]. وفي نفس المنحى، يذهب “مولييراس” (Auguste Mouliéras)- وهو موضوع هذا المقال– إلى الاهتمام باكتشاف المغرب المجهول: “ونحن نعلم بأن المغرب لازال إلى حدود اليوم، أرضا مجهولة تقريبا”[3]. وبالتالي، لم تكن هاتينا لحربين – حسب الأستاذ محمد حجي – سوى “فرصة اغتنمها الأوربيون للتعرف على هذه البلاد التي ظلت متمنعة عنهم طوال قرون، وطالما اشرأبت أعناقهم للاستحواذ على خيراتها”[4]. وهكذا، فُتح الباب على مصراعيه أمام البعثات العلمية الاستكشافية، التي سيغلب عليها الطابع الاستخباراتي الهادف لدراسة المجتمع المغربي بطريقة ممنهجة. لهذا، كان من الضروري توظيف الدراسات الاجتماعية في الغزو الاستعماري، والتي يعد “مولييراس” نموذجا لها.
الأسس المنهجية والمعرفية لكتاب “المغرب المجهول”
إن أول سؤال يجب طرحه، حين يتم التعامل مع أطروحة “المغرب المجهول”، هو: ضمن أي صنف معرفي يندرج هذا الكتاب؟.
يميز الأستاذ حسن رشيق في كتابه “القريب والبعيد – قرن من الأنثروبولوجيا في المغرب” بين ثلاثة مراحل من تاريخ الأنثروبولوجيا في المغرب، الأولى “ما قبل الكولونيالية”، الثانية “المرحلة الكولونيالية”، وأخيرا “المرحلة ما بعد الكولونيالية”، بحيث يندرج كتاب “مولييراس” ضمن المرحلة ما قبل الكولونيالية[5]، وتحديدا ضمن سلسلة الأبحاث الاجتماعية التي أشرف على تنظيمها الحاكم العام “كامبون” في الجزائر[6]. غير أنه “ومن وجهة نظر سوسيولوجيا المعرفة فإن “التمييز لا يعني الانفصال”، وأن أهم ما ميز المرحلة ما قبل الكولونيالية هو “المعرفة” الملتبسة ب “الاستكشاف” (exploration) (“استكشاف المغرب”)”[7]، وهو صراحة من مفارقات الخطاب الاثنوغرافي لتلك المرحلة، أنه يجمع ما بين الصرامة العلمية والمصلحة السياسية للوطن الأم، لذلك ف”مولييراس” لا يخفي أن الدافع من وراء انجاز هذا الكتاب هو معرفة الجار الذي يتشاركه الحدود وإدراجه داخل مجال التأثير الفرنسي.
انطلاقا من هذا الهدف المزدوج، سيحاول “مولييراس” اقناعنا بأهمية العمل الذي قام به، انطلاقا من ثلاثة حجج يعتبرها دامغة وحاسمة[8]:
- اعتماده على مخبر، وهو”محمد بن الطيب”، الذي كان يدعي أن له معرفة عميقة بالمغرب.
- اعتماده على منهج المقارنة، بغية تجنب أي لبس أو لغط لروايات لا أساس لها من الصحة، عن طريق المقارنة بين ما يتلقاه من الدرويش مع أقوال وروايات السكان الذين يتواجدون بوهران.
- قدرة الكتاب على العرض والاختبار، وهي التي يعتبرها “مولييراس” حجة حاسمة، والتي يعبر عنها بقوله: “افتحوا هذا الكتاب وأوقفوا أي ريفي التقيتم به، متعلما كان أو جاهلا، اقرؤوا عليه الجزء المتعلق بقبيلته وبالمنطقة التي يعرفها؛ وسيكون جوابه ورد فعله بمثابة إدانة لي أو إثبات لما قلته.”[9]
فعلى الرغم من أن “مولييراس” لم تطأ قدمه أرض المغرب، على غرار أعمال أخرى لرحالة اثنوغرافيين، الذين قاموا بزيارة فعلية للمغرب، مثل “شارل دوفوكو” و”ماكنزي” (Donald Mackenzie)؛ إلا أنه عمد على تسخير مخبر من منطقة “القبائل” الجزائرية اسمه “محمد بن الطيب” الملقب بالدرويش، هذا الطالب الذي قال عنه “مولييراس” بأن تعرفه عليه كان بفضل العناية الإلهية[10]. الشيء الذي يجعل هذا العمل نموذجا للدراسات في تطبيقها للمنهج الاثنوغرافي “عن بعد”.
لقد وجه “أوجست مولييراس” نقدا لاذعا لواضعي الخرائط والجغرافيين، الذين لا يقومون بنقد المعلومات السابقة، مكتفين بالنقل من بعضهم البعض. حيث يرى “مولييراس” أنه لاختراق المغرب من الداخل واكتشاف أبعد زواياه، لا بد من التسلح بسلاحين لا غنى عنهما:
- أولا، معرفة اللغات المحلية: تحديدا اللغة العربية الكلاسيكية، واللغة الأمازيغية، ومعرفة اللغة الدارجة، حيث يشدد “مولييراس” على ضرورة تعلم اللغة العربية، (لذلك ف ”مولييراس” يرد سبب الجهل بهذا البلد إلى سبب وحيد وهو عدم معرفة اللغة العربية)، والأمازيغية من أجل تسهيل عملية التواصل والتفاهم مع السكان، ويؤكد “مولييراس” على هذا الأمر، فيقول “إن السفر إلى بلد نجهل لغته معناه السفر مثل الأصم-الأبكم “، يصرح “مولييراس” أنه لم يتردد على ربط علاقات وصداقات مع عرب وأمازيغ، جاهلين ومتعلمين، من أجل معرفة بلدهم وما يفكرون فيه.
- ثانيا، المعرفة الشاملة بالدين الإسلامي: أن تكون له معرفة شاملة عن القرآن الكريم، وأن يتم حفظه عن ظهر قلب، وقراءته بقواعده، إضافة على ضرورة أن تكون للمرء دراية بالسيرة النبوية وأخبار الصحابة، ومعرفة عناصر من التشريع الإسلامي وإمامة الناس والمشاركة في الجنائز وقراءة بعض الآيات القرآنية والأمداح النبوية بمعية الفقهاء[11].
خلاصة
يتضح هذا التداخل بين المعرفي والايديولوجي في كتابات “مولييراس” حول المجتمع المغربي، بحيث كان الهدف الأساسي، هو جعل الاستعمار استعمارا ذي أساس علمي، لإضفاء الصدقية والمشروعية عليه، متفاديا بذلك تكرار لتجربة احتلال الجزائر، من خلال توظيف مختلف العلوم في شقيها الطبيعي والاجتماعي، في عملية احتلال المغرب، لذلك “فعندما اتضحت النوايا الاستعمارية، توجه الباحثون الفرنسيون لمسح القطر المغربي بشكل منهجي مهتمين بأرضه وسكانه وخيراته، ورافق ذلك تحسين واضح في قيمة الدراسات الاستعمارية بحيث أصبح الإلمام بشؤون البلاد أشمل وأعمق”[12]، و “مولييراس”، بصفته رجل علم بامتياز، كان يحلم بأن يكشف خبايا وأسرار هذا البلد، ليقدمه على طبق من ذهب لوطنه الأم فرنسا.
المراجع
[1] جيل، لوكليرك، من موكادور إلى بسكرة، رحلات داخل المغرب والجزائر، ترجمة. بوشعيب الساوري، مراجعة: الطاهر لكنيزي، منشورات الجمل، بغداد –بيروت 2016، ص13،14.[2] شارل دو فوكو، التعرف على المغرب 1883 – 1884، ترجمة. المختار بلعربي، دار الثقافة، الدار البيضاء 1999، ص 5.
[3] أوجست مولييراس، المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1، ترجمة. د. عز الدين الخطابي، منشورات تفراز ن اءريف – المغرب 2007، ص.14
[4] شارل دو فوكو، التعرف على المغرب 1883 – 1884، مرجع سابق، ص5.
[5] يحيى بن الوليد، "القريب والبعيد -مئة عام من الأنثروبولوجيا في المغرب حسن رشيق"، العدد 8 أبريل 2014، ص.161.
[6] عبد الصمد الديالمي، "ملامح تطور السوسيولوجيا في المغرب"، بحث منشور ضمن كتاب جماعي، نحو علم اجتماع عربي، علم الاجتماع والمشكلات العربية الراهنة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت/يناير1988، ص.291.
[7] يحيى بن الوليد، "القريب والبعيد -مئة عام من الأنثروبولوجيا في المغرب حسن رشيق"، مرجع سابق، ص.161.
[8] أوجست مولييراس، المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1، مرجع سابق، ص. 10.
[9] أوجست مولييراس، المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1، مرجع سابق، ص. 207.
[10] أوجست مولييراس، المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1، مرجع سابق، ص. 19.
[11] أوجست مولييراس، المغرب المجهول، اكتشاف الريف ج 1، مرجع سابق، ص. 14،15.
[12] مجموعة من الباحثين، البحث في تاريخ المغرب حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط 1989، سلسلة ندوات ومناظرات رقم14، ص.12.