توطئة

ابن الزيات التادلي، فقيه وأديب وقاض، من الأعلام الذي قدموا خدمة جليلة للبحث التاريخي في المغرب وخاصة ما تعلق بالتاريخ الديني والثقافي والإجتماعي للمغرب من خلال اعتكافه على التأليف في مجال المناقب سيما بجمعه لأخبار متصوفة من أهل مراكش وجهاتها خاصة الذين عاشوا في فترة حكم الدولة الموحدية. ويعتبر كتاب “التشوف إلى أخبار التصوف” من أشهر ما كتب التادلي في هذا الباب، وهو كتاب جمع فيه أخبار عدد غير يسير من الصلحاء وخاصة عدد من الرجال الذين تنتهي إليهم معظم الأسانيد الصوفية في المغرب.[1] وقد تجلت أهمية مؤلف التادلي في العناية التي لقيها في حياة المؤلف وبعد مماته خاصة من قبل مؤلفي عدد من فهارس الأعلام ومؤلفي كتب التراجم والمناقب، وفي محاولة التأليف على منواله من قبل عدد من المؤلفين الذين ألفوا في حول أخبار الصلحاء والزهاد في المغرب.

وعلى الرغم من اهتمام وتتبع التادلي لأخبار أهل الصلاح والزهد، فإنه لم تتوفر معطيات تدل على اتخاذه شيخا أو صحب أحد الشيوخ صحبة إرادة، غير أن التادلي وصف الكرامات وصف موقن ووضع أشعارا على أحوال وضعا ينم على تواجد وتخمر.[2] وإذا كان التادلي تصوف أو خالط رجال التصوف فقد ظل آخذا بمسلك الاعتدال في أمره.[3]

التادلي.. النسب والنشأة

هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمان التادلي المعروف بابن الزيات. وسمي بالتادلي نسبة إلى سهل تادلة الواقع في المجال الجغرافي بين مدينتي مراكش ومكناس. وكانت قاعدة السهل هي مدينة “داي”، وهي من المدن المندرسة والمشهورة عند الجغرافيين. ويبدو أن أسرة التادلي في وقت ما كانت تسكن مدينة داي، لكنها اضطرت إلى الرحيل عنها نتيجة فتنة (واقعة داي) شهدتها المنطقة أواخر العقد السادس من القرن السادس الهجري (559هـ) أي السنة الموالية لوفاة الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي، وهي الفتنة التي لا تتوفر معطيات عن طبيعتها، والتي أدت إلى تشتيت كثير من ساكنة المنطقة. ويرجح أن ولادة التادلي كانت بمنطقة “ركونة” بناحية من نواحي ركَراكَة الواقعة حاليا نواحي مدينة الصويرة، بعد أن رحل إليها والده من سهل تادلة.[4]

ابن الزيات التادلي.. التكوين العلمي

دخل ابن الزيات التادلي مدينة مراكش للتعليم، وقد سكن الجانب الشرقي منها، وفيها حفظ القرآن على يدي شيخ هو الآخر من تادلا وهو أبو زكرياء يحيى بن أبي محمد مع الله (ت.614هـ). ويظهر أن التادلي له روابط وثيقة مع منطقة ركَراكَة المعروفة بكثرة صلحائها، وفيها كان ينعقد ملتقى أو موسم رباط شاكر الذي خرج إليه التادلي أكثر من مرة. كما أن التادلي كان قاضيا بركَراكَة والتي توفي فيها ودفن بها عام 627هـ/1230م[5]. ويؤكد المؤرخ أحمد التوفيق في مقدمة تحقيق كتاب “التشوف..” أنه ليس هناك ما يؤكد ظن أدولف فور الذي كتب في دائرة المعارف الإسلامية أن جثمان التادلي نقل إلى مراكش وأن التادلي الذي تنسب إليه القبة القائمة خارج باب الخميس بمراكش هو صاحب “التشوف..”[6].

لقي التادلي في مسار تكوينه العلمي عددا من العلماء والشيوخ، كعبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري (ت.612هـ)  المحدث الحافظ والشاعر والنحوي مؤدب محمد الناصر بن يعقوب المنصور الموحدي، ومحمد بن عبد العزيز بن خلف اللبلي (ت.601ه) حافظ اللغات والتواريخ والأشعار والذي نقله المنصور الموحدي وأنزله للتدريس في جامعه الأعظم بمراكش. كما أخذ عن أحد أقطاب اللغة العربية بمراكش في ذلك العصر وهو العلامة عيسى بن عبد العزيز الكَزولي، وعن أحمد بن بقي الأموي القرطبي (ت. 625هـ) والذي ولي بمراكش خطتي القضاء والمظالم والكتابة العليا. وقد انعكس التقاؤه وتلقيه عن هؤلاء الشيوخ على تكوينه الذي تميز بالمتانة في اللغة العربية، وهو ما يظهر في أسلوبه “الجاحظي” الملموس في مقدمة كتابه المشهور “التشوف إلى رجال التصوف”. بل إن علو كعبه في العربية مكنه من وضع الشرح الذي لم يصل إلينا لمقامات الحريري، وقد وصف الشرح من قبل الحضرمي الذي ينقل عنه أحمد بابا التنبكتي وصفه بأنه “شرح نبيل”، وأهله ذلك أيضا لتولي القضاء، وشجعه على جمع أخبار الأولياء والتصنيف في تراجم الفضلاء والأصفياء.[7]

رحلته في التشوف إلى رجال التصوف

بدأ اهتمام التادلي بالتصوف وبرجال التصوف ابتداء من بداية العقد الأخير في القرن السادس الهجري، حيث كانت تلك الفترة نقطة تحول في حياته، وما يؤكد ذلك هو ما ذكره عن أبي عمران موسى ابن إسحاق الوريكي (ت 992هـ) بقوله: “ما رأيته قط إلا ووعظني بحاله وحقر الدنيا في عيني (…) وإذا بتّ معه في جمع من المريدين لم يأكل إلا آخر الناس”[8]. وفي نفس العام زار أبو العباس الحباب، وفي العام الموالي خرج لزيارة الحليم الأيلاني، وزار الصالحة العجوز منية نزيلة محلته. كما ذكر أن محمد بن عبد الله الصنهاجي (ت 599هـ) كان يفضي إليه بسره، وأنه خرج في شهر رمضان من عام 603هـ مع “جماعة من الفضلاء” إلى رباط شاكر وأقاموا به ليلة سبعة وعشرين.[9]

مؤلفات ابن الزيات

نسبت للتادلي أربعة كتب أحدها عن صلحاء المغرب (المنتخب المغرب في ذكر بعض صلحاء المغرب) من غير كتابه المشهور “التشوف”، أما الكتاب الثاني فهو شرح لمقامات الحريري (نهاية المقامات في دراية المقامات) لكن لم يعرف له وجود. أما الكتابان المعروفان للتادلي فهما: “التشوف إلى رجال التصوف” وقد ألفه عام 617هـ/1220م. وجمع فيه بالرواية المسندة أخبار مائتين وسبعة وسبعين (277) من الرجال المعتقد فيهم الصلاح، من أهل المغرب، وخاصة من جهات: أغمات ومراكش ونواحيهما، وغيرها من المناطق؛ كدكالة، وركَراكَة، وتادلا، وهسكورة، وسجلماسة، وفاس، ومكناس، وسلا، وسبتة، ودرعة، وسوس، وتلمسان، وبجاية. منهم المشاهير ومنهم المغمورون، ومنهم تسعة عشر من المجاهيل. أما المؤلف الرابع المعروف للتادلي فهو رسالته في أخبار الشيخ أبي العباس السبتي أحد الرجال السبعة بمراكش[10].

المراجع
[1] أنظر: مقدمة تحقيق كتاب "التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي"، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كليةالآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط1، 1984، ص 05.
[2] أحمد التوفيق، معلمة المغرب، ج6، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1992، ص 2012.
[3] التادلي ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي (مقدمة التحقيق)، مرجع سابق، ص 23.
[4] أحمد التوفيق، معلمة المغرب، ج6، مرجع سابق، ص 2011.
[5] أحمد التوفيق، معلمة المغرب، ج6، مرجع سابق، ص 2012.
[6] التادلي ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي (مقدمة التحقيق)، مرجع سابق، ص 24.
[7] التادلي ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي (مقدمة التحقيق)، مرجع سابق، ص 10-11.
[8] التدلي ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كليةالآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط1، 1984، ص 298.
[9] التادلي ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي (مقدمة التحقيق)، مرجع سابق، ص 22.
[10] التادلي ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي (مقدمة التحقيق)، مرجع سابق، ص 11-13.