توطئة

إدريس الأكبر أو إدريس الأول؛ مؤسس إحدى الإمارات الأولى بالمغرب بعد الفتح الإسلامي. كما يعتبر من الشخصيات التاريخية التي ساهمت بحظ وافر في تشكيل تاريخ المغرب الأقصى ومنحه هوية خاصة ومستقلة عن المشرق العربي. ورغم الاختلافات بين المؤرخين والإخباريين حول مساره وظروف انتقاله من المشرق إلى المغرب وتأسيس الإمارة الإدريسية، فإن سيرة حياته جديرة بالدراسة والقراءة بالنظر إلى الأثر الذي تركه في تاريخ المغرب الديني والثقافي والسياسي، وخاصة في ترسيخ أسس الدولة المغربية، وطبعها بطابع خاص، وهو الطابع الذي ما تزال بعض عناصره مستمرة إلى يومنا هذا، خصوصا ما تعلق منها بالأساس الشريف والانتساب لآل البيت كأسس للحكم القائم، وتحقيق حلم آل البيت في بعث الخلافة العلوية.

نسبه ونشأته

إدريس الأول، هو إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السِّبط بن علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص). أما أمه فهي عاتكة بن الحارث ابن خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة المخزومي. فهو إذن، قرشي من الأبوين، ومنزلته رفيعة في الأسرة العلوية[1]. وقد كان أبوه عبد الله شيخ زمانه، روى عنه الإمام مالك، وله من الإخوة خمسة رجال وهم: محمد النفس الزكية، وإبراهيم، وموسى، ويحيى، وسليمان[2].

إدريس بن عبد الله.. المنفى المغربي

بعد قيام الخلافة العباسية عام 132هـ/750م، نشب نزاع كبير بين هؤلاء وأبناء عمهم العلويون حول الأحقية في الخلافة الإسلامية. بحيث اعتبر العلويون أنفسهم الأحق ولهم الأسبقية في تولي منصب الخلافة. وقد كان من نتائج ذلك أن ثار العلويون ضد الحكم العباسي حيث ثار محمد بن عبد الله بن الحسن (محمد النفس الزكية) بالمدينة المنورة، وهي الثورة التي تمكن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور من القضاء عليها سنة 145هـ/762م. كما أجهض الثورة التي قادها أخوه ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة في نفس السنة.[3]

وفي سنة 169هـ/786م ثار العلويون مرة أخرى بقيادة الحسين بن علي بن الحسن المثلث بمنطقة فخ نواحي مكة المكرمة. وهي الثورة التي تم القضاء عليها من طرف الخليفة العباسي الهادي ابن المهدي في معركة فخ المشهورة والتي قتل فيها عدد كبير من العلويين. وقد نجا من هذه المعركة إدريس بن عبد الله الكامل عم قائد الثورة الحسن بن علي، وأخو محمد النفس الزكية، وتمكن من الفرار من مطاردة العباسيين.

وبسبب اضطهاد العباسيين للعلويين ولإدريس بن عبد الله الكامل، اتجه هذا الأخير غربا. بالنظر إلى بعده عن مركز الخلافة العباسية وتحوله إلى ملجأ المعارضين للحكم العباسي كما هو الشأن للخوارج، الذين أسسوا قبل ذلك إمارتين في منطقة الشمال الإفريقي؛ إمارة بنو رستم في تاهرت وإمارة بنو مدرار في سجلماسة.

وبعد محطة مصر التجأ إدريس بن عبد الله إلى المغرب صحبة مولاه راشد المغربي بعد أن حصل على مساعدة والي مصر علي بن سليمان الهاشمي، وأفلت من مراقبة الشرطة العباسية. وبعد رحلة طويلة، لا نملك معطيات تفصيلية حول مسارها وتفاصيلها، وصل إلى المغرب الأقصى، فتوجه أولا إلى مدينة طنجة، باعتبارها إحدى الحواضر الكبرى بالمغرب. وبعد التعرف على أحوال البلاد سياسيا واجتماعيا، والتواصل مع الساكنة المحلية ومع زعماء القبائل، بمساعدة مولاه راشد، بدأ بنشر دعوته وإبلاغ رغبته في أن ينصره أهل المغرب ضد العباسيين وأخذ ثأر العلويين،[4] واسترداد حق آل البيت وأحقية أبناء علي بالخلافة.

وفي الرسالة/وثيقة، التي نشرها العلامة علال الفاسي، والتي نقلها عن مخطوط يمني، والتي وجهها إديس بن عبد الله الكامل إلى سكان المغرب الأقصى، تتبين مراميه وغايته من لجوءه إلى المغرب. ومن ذلك قوله: “وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقا وغربا، وأظهروا الفساد وامتلأت الأرض ظلما وجورا، فليس للناس ملجأ ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء، فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بحق المظلومين من ذرية البنيئين، فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين، ونصر الله مع النيئين”[5]. وفي موضع آخر في الرسالة، قال: “واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم، وأنا المظلوم الملهوف، الطريد الشريد، الخائف الموتور الذي كثر واتره، وقل ناصره، وقتل إخوته، وأبوه وجده، وأهلوه، فأجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله”[6].

بيعة المولى إدريس

ذكرت بعض المصادر التاريخية أن إدريس بن عبد الله سار إلى المغرب داعيا في البداية لأخيه يحيى ابن عبد الله الذي قتل في سجن هارون الرشيد، فلما علم بمقتل أخيه دعا إلى نفسه. وقد لبثت جملة من القبائل الأمازيغية دعوته، والتفت حوله، بالنظر إلى انتمائه إلى آل البيت، وإعلانه الثورة ضد الخلافة العباسية والرغبة في الاستقلال بالمغرب. ونتيجة الاتفاق بين إدريس بن عبد الله وزعيم قبيلة أوربة إسحاق محمد بن عبد الحميد الأوربي، استقر إدريس بن عبد الله بمدينة وليلي، حيث تمت مبايعته يوم الجمعة 04 رمضان عام 172هـ/06 فبراير 789م. وقد كانت قبيلة أَوْرَبَة أول قبيلة بايعته، ثم تلتها قبائل زناتة، بالإضافة إلى قبائل زواغة وزواوة ولماية وسدراته وغياثة ونفزة ومكناسة وغمارة..[7].

وشكلت مبايعة إدريس بن عبد الله الكامل على القيام بالشأن السياسي لهذه القبائل نقطة تحول كبيرة في تاريخ المغرب، “لأنه يرمز إلى قيام الدولة المغربية المستقلة لأول مرة في حياة البلاد، بحيث كانت الدولة الإدريسية بما خلفته من تقاليد ونظم لتسيير البلاد أول صورة لدولة حقيقية في المغرب تكيف المعطيات البشرية المحلية مع تعاليم الإسلام وتراثه السياسي”[8].

تأسيس الإمارة الإدريسية

بعد مبايعته سارع إدريس الأول إلى تأسيس جيش قبلي مكون من قبائل زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة، فتحرك لإلحاق أقاليم مغربية أخرى بإمارته الوليدة. فاستولى على شالة، ثم سائر بلاد تامسنا وتادلا. وفي سنة 173هـ خرج في حركة عسكرية أخرى إلى حصون فندلاوة وحصون مديونة وبهلولة وقلاع غياثة وبلاد فازاز (الأطلس المتوسط). وفي أواخر نفس السنة توجه بجيشه صوب الجهة الشرقية من المغرب الأقصى، فألحق مدينة تلمسان والتي كانت تحت حكم أميرها محمد بن خزر بن صولات المغراوي. وهكذا أصبحت مملكته تضم مناطق مهمة من المغرب تمتد من تامسنا غربا إلى تلمسان شرقا مرورا بتادلا والأطلس المتوسط.[9] كما عرفت هذه المرحلة تأسيس مدينة فاس التي أصبحت عاصمة الدولة الوليدة.

مذهب المولى إدريس

كثيرا ما تحدثت بعض الكتابات المعاصرة حول كون مذهب إدريس الأول كان المذهب السني والمالكي[10]، لكن المعطيات التاريخية لا تسعف في تأكيد الأمر، وذلك لكون المذهب السني لم يكن موجودا في عهده إلا كممارسة عملية وليس كمذهب، حيث لم يتم صياغته بشكل نهائي كمذهب له قواعد وأحكام إلا ابتداء من عصر الأشعري وتلامذته، ابتداء من القرن الثالث الهجري. كما أن دخول المذهب المالكي إلى المغرب لم يصاف فترة المولى إدريس الأول بل فترة لائحة لا تقل عن قرن كامل[11].

كما أن كثيرا من المعطيات التاريخية تفيد أن إدريس بن عبد الله الكامل وإخوته نشأوا في بيئة زيدية، وأن سلوكه وثورته على العباسيين كانت وفق أحد مبادئ الزيدية الذي يقول بأن الإمامة هي حق لمن قدر عليها من العلويين. وقد كان والده عبد الله بن الحسن وعمه الحسن بن الحسن قد اعتنقا مذهب الزيدية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نفس المذهب الذي اعتنقه إدريس وإخوته[12]. وذهب العلامة علال الفاسي إلى كون إدريس الأول زيديا من الوجهة السياسية فقط، لأن الزيدية يقولون أن الإمامة باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص.[13]

اغتيال إدريس الأول

بسبب المخاوف التي أثارتها التحركات العسكرية لإدريس الأول، وخاصة على الأطراف الغربية للدولة العباسية؛ مصر وإفريقية على وجه الخصوص، قرر الخليفة العباسي هارون الرشيد التخلص من المولى إدريس. فقد حاول هذا الأخير الحصول على رضى أهل مصر فبعث إليهم برسالة يدعوهم فيها إلى الالتفاف حول آل البيت. وقد أثبتت تحركات الأدارسة بالمغرب لهارون الرشيد بأن هؤلاء لا يفكرون فقط في تكوين دولة مستقلة بالمغرب إنما يخططون لتوحيد الخلافة الإسلامية كلها تحت قيادتهم[14]. فبعد تحقيق حلم إقامة دولة مستقلة عن دار الخلافة بالمشرق “صار إدريس الأكبر يفكر في تحقيق مخطط دعوته، إمتدادا نحو افريقية الأغلبية ثم مصر، كبداية لتوحيد العالم الإسلامي تحت خلافة علوية بديلا عن العباسيين”[15].

وبسبب صعوبة توجيه جيش من العراق أو افريقية إلى المغرب، عزم الخليفة هارون الرشيد على اغتيال إدريس الأول بمساعدة واليه على إفريقية إبراهيم بن الأغلب، وهو تم له عن طريق السم عام 177هـ/793م. وقد تولى مولاه راشد الوصاية على العرش وذلك في انتظار وضع كنزة الأوربية لمولودها.

المراجع
[1] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1989، ص 261.
[2] الفاسي علال، المولى ادريس الأكبر: وثيقة تاريخية عن دعوته لم تنشر قط..، صمن: الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي-الرباط، 1988، ص 13.
[3] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 261.
[4] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 261.
[5] الفاسي علال، المولى ادريس الأكبر: وثيقة تاريخية عن دعوته لم تنشر قط..، مرجع سابق، ص 21.
[6] الفاسي علال، المولى ادريس الأكبر: وثيقة تاريخية عن دعوته لم تنشر قط..، مرجع سابق، ص 22.
[7] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 262.
[8] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 262.
[9] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 262.
[10] أنظر: الفاسي علال، المولى ادريس الأكبر: وثيقة تاريخية عن دعوته لم تنشر قط..، مرجع سابق، ص 24 -25.
[11] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 262-263.
[12] زنيبر محمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 263.
[13] الفاسي علال، المولى ادريس الأكبر: وثيقة تاريخية عن دعوته لم تنشر قط..، مرجع سابق، ص 27-28.
[14] التازي عبد الهادي، ادريس الأكبر، فاتح المغرب: وثيقة تاريخية عن دعوته لم تنشر..، ضمن: الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي-الرباط، 1988، ص 49-50.
[15] المنوني محمد، الإمام ادريس الأول من خلال سيرته وأهداف دعوته، ضمن: الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، مطبوعات الجمعية المغربية للتضامن الإسلامي-الرباط، 1988، ص 63-64.