توطئة

الكتاب مبادرة فردية من الأديب والمؤرخ والعلامة محمد بن مصطفى بوجندار للجواب عن سؤال وضَعَـتْهُ بلدية الرباط تستفسر عن “قُضاة المدينة” وتواريخهم وتراجمهم ومن قضى نحبه منهم ومن بَقي، وطبع الكتاب سنة 1918 وصار في متناول القراء ودائرة المراقبة المدنية لسلطات الاحتلال الفرنسي

أراد السيد بوجندار تقديم خدمة يتقرب بها لما سماه “وطني العزيز الـمقدّس ومنصبه القضائي الـمقدّس”[1] بهذا العمل الترجمي الذي يميل للسجع في الكتابة على غرار المؤلفين الإخباريين القدامى، مع اعتماد لغة أصيلة مُحكَمة البناء والمعنى.

أما الكاتب فهو مثقف ومؤرخ ومؤلف غزير الإنتاج، ينحدر من أصول عائلة كبيرة توطنت في الساقية الحمراء، ثم انتقل فرع منها إلى الرباط، وفيها كان مولده سنة 1889، عمل في الصحافة والترجمة والتدريس، من أهم أعماله “مقدمة الفتح في تاريخ رباط الفتح”[2]، و”الاغتباط في تراجم علماء الرباط”[3] الصادر سنة 2013، والذي ترجم فيه لأزيد من 300 شخصية علمية وأدبية وفكرية رباطية، وكتيب صغير بعنوان “ذكْر ختم البخاري”، وكتاب “فتْح المعجم من لامية العجم” وغيرها. وتوفيَ الرجل في عمْر الشباب سنة 1926، رحمه الله.

لمحات عن تاريخ القضاء بالرباط

يَسرد الكتابُ مسار تطوّر العمران في الرباط منذ عهد السلطان يعقوب المنصور الموحدي بانيها الأول ، مرورا بتوطّن الجاليات الأندلسية بعد حروب الاسترداد في الجزيرة الإيبرية، عروجا على مرحلة المرينيين وما عرفته من هجرات بشرية من شالة إلى رباط الفتح، حتى أضحت حينَها “راقية في أوْج العمران والرفاهية، تَجرّ ذيول التقدم على كثير من المدن المغربية”[4]، وانتشرت الحركة العلمية بها، ونشطت بقدوم لفيف من العلماء والقضاة والفقهاء والأدباء، وتطورت بذلك مهنة القضاء بتولّي أعلام كبار لها، عبر تعاقُب القرون والدُّوَل.

الانبساط في ذكْر تراجم قُضاة الرباط

سلَك السيد بوجندار في الكتاب مسلَكَ الإيجاز والاختصار، وقُصارى ما يُوردُه في شأن السِّير الذاتية للقضاة؛ ذِكْرُه لترجمتهم العلمية، وولايتهم القضائية، وتواريخ وفياتهم، مع ترتيبهم “بحَسَب أزمان ولاياتهم وتاريخها”[5]، سواء أكان القاضي الـمترجَم له رباطيَ المولد والأصل، أو وافدا عليها، الأهَم بالنسبة للمؤلِّفِ أن يكون المُترَجم له قد تولّى مهمة القضاء في مدينة رباط الفتح.

وهو وإن أكّد لنا على فكرة غياب أسامي قضاة المدينة قبل القرن السادس الهجري، الحادي عشر الميلادي؛ فلكَون المدينة تأسّست متأخرة عن نظيراتها فاس ومراكش ومكناس وتازة وسبتة وغيرها، ومع ذلك؛ فإنه ينتزع لنا من صُلْب معلومات ضئيلة جدا؛ معطياتٍ عن أوائل قُضاة الثّغر الرباطي، وهما محمد بن حَوْط الله وأبي العباس السجلماسي، ثم يواصل المسيرة مُترجِما لــ 31 قاضيا، إلى مرحلة الحماية الفرنسية.

  • أبو محمد بن حوط الله الأنصاري (تــ 612 هـ): القاضي السابق في إشبيلية وقرطبة ومُرسية ثم سبتة المغربية وسلا، ولّاه يعقوب المنصور الموحدي قضاء العُدوَتين و”استمَر قاضيا عليهما نحو الثلاث سنين، حتى توفي المنصور وجاء ولده الناصر فنَقَله إلى قضاء ميورقة”، وذلك أواخر القرن السادس. وبذلك يكون هذا الرجل في طليعة القضاة الذين أشْرفوا على هذه الـخِطّة في الرباط، وهي مدينة بِكْـر زمن الموحدين.
  • أبو العباس السجماسي: أُسنِدت إليه خِطة القضاء في كل من فاس ومكناس وسلا والرباط، وكان “نافذ الكلمة عند الحاكم والمحكوم والأمير والمأمور”[6]، أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، ودامَ في مهمته القضائية بحاضرة الرباط لعشرينَ سنةً.
  • أبو عبد الله مْرينو: قُرطبي الأصل، ومن أعلام الفُتيا والقضاء في الطّور الأخير من عمر الدولة السعدية، ولي قضاء الرباط مدة 19 سنة.
  • أبو عبد الله البوعناني: من بيوتات آل عِنان “الشهير بالعلم والنسب (..) تقدّمت لهم صَدْر الدولة العلوية ولايات، خصوصا خطة القضاء، فقد تداولها عدد منهم”[7]، أُسنِدت إلى البوعناني مهمة قاضي المدينة المذكورة سنة 1120 هجرية، وأدركته الوفاة بمدينة تطوان.
  • مْحَمد مرينو: كان في ثغر الرباط “من خاصة الفقهاء وأخصّ الوُجهاء”، وقد تَـمَّ ترشيحه لقضاء الرباط بأمْر عامّة الرباطيين كما أكد ذلك المؤرخ الضُّعَيف الرباطي، وذلك عام 1156 هجرية، ثم عُزِل عن المنصب زَمن السلطان الـمُستضيء بن إسماعيل العلوي (1738م-1740م)، هذا؛ ولم يُدقق الكاتب جيدا في تاريخ وفاة هذا القاضي.
  • أبو عبد الله كْراشكوا: ابن بيت رباطي أصيل ومشهور بالعلم والفضل، تلقّى العلم على شيخ الرباط في وقته علي العكاري، وقد وَلِيَ قضاء الرباط بعد سنة 1738م.
  • أبو عيسى مْرينو: أشرف على القضاء بالمدينة المذكورة زمن الفتة التي أعقَبت عزل السلطان مولاي عبد الله، وتوفي رحمه الله لثلاث سنين خَلت من عَزْله.
  • أبو علي الغربي: الدكالي أصلا والرباطي مَنشئا، مارس مهامه كقاضي الرباط بضعة أشهر سنة 1186 هجرية.
  • أبو عبد الله الفيلالي: بقي بدوره في القضاء ثلاثة أشهر بعد عزْل الغربي السابق الذِّكر.
  • أبو حفص بن العروصي: دَرس أصول الفقه والفتيا والقضاء في فاس ثم طنجة، لَم يتوصّل للكاتب إلى تحديد تاريخ دقيق لتَولية العروصي قضاء الرباط.
  • أبو عبد الله القُسطنطيني: قاضي الرباط الأشهر وخطيب مسجدها الأعظم في القرن الثالث عشر الهجري، كما ولي ذات المهمة في حاضرتي فاس ومكناس، وتَصَدّر للقضاء بدْء من سنة 1201 هجرية، وتوفيَ بعدها بسبع سنوات، ودفن في مكناس.
  • أبو الحجاج البوعناني: “سليل الأئمة الأعلام والقُضاة الكرام، ولي قضاء فاس وهو ابن عشرين سنة”[8]، زمن السلطان مولاي عبد الله العلوي، الذي فَوَّضَ له في أمر القضاة والنُّظّار والـمحتسِبين، ثم نقَله إلى قضاء مكناس، وبَعدها الرباط، إلى أن توفي سنة 1206ه.
  • أبو عبد الله التلمساني: كان “من أمْثَلِ العدول في نَعْته، وأفضل القُضاة في وقته”[9]، تَولى القضاء سنة واحدة بمدينة الرباط.
  • أبو محمد البَنَاني: توطّنت أسرته مدينة الرباط زمن السلطان مولاي إسماعيل، وفيها وُلِد، وتولى قضاءها سنة 1209م ثم عُزل عنها.
  • أبو عبد الله الغربي: وليَ قضاء الرباط على عهد المولى سليمان، ثم على دكالة بطلب من السلطان نفسه. ورغم تهديده بالعزل؛ إلا أنه بقي في منصبه القضائي بمدينة الرباط أربعة أعوام.
  • أبو العباس الـحُكْمِي: “قاضي العُدوَتين وحاكم الأمّتَين”[10]كما حلّاه صاحب الكتاب، وقد مكَث في ولايته خمسة أعوام.
  • أبو عبد الله بن جلون: ذي الأصول الفاسية، رَشّحه المولى سليمان لقضاء الرباط، وبقي في منصبه إلى أن توفيَ أواخر عام 1234 هجرية.
  • أبو عبد الله عاشور: أهَّلَـتْه مشاركته الكبيرة في علوم كثيرة إلى تولّي منصب قاضي الرباط زمن حكم المولى سليمان أيضا، وكان “من العلماء العاملين والقُضاة الناسكين”[11]، ولم يستمرّ في منصبه إلا بضعة أشهر، لِـما كان عليه “من الشّدة والصرامة في الأحكام”[12]، وانتقل إلى مراكش متوليا فيها مهمة قاض مرة أخرى.
  • أبو محمد الحكْمي:كان من القضاة النبلاء، أشْرَف على الجهاز القضائي لسنة واحدة في رباط الفتح، ثم كُلّفَ بقضاء مكناسة الزيتون.
  • محمد الطيب بَسير: أُسنِدت إليه “خطة القضاء فتحَمّلَ أعباءها على أكمل ما يُرام لا تأخذه في الله لَومة لَوّام ولا جُرأة مِـقدام”[13]، وقضى زُهاء خمسين عاما قاضيا متنقلا بين الرباط ومكناس، ثّم أعفِي لكِبَـر سِنّه.
  • أبو زيد البريبري: كان من “أمْثَل قُضاة الوقت الـمتحرّين للعدل” على حد تعبير الناصري صاحب الاستقصا“، وليَ قضاء الرباط لعشرين سنة إلى أنْ اعتزل منها من تلقاء نفسه، وتَشبّث بحقه في التقاعد، وبقي في عُزلته إلى وافته المنية عام 1293 هجرية.
  • محمد بن إبراهيم أبزّار: دامت ولايته القضائية – بالنيابة – في الرباط حوالي سبع سنين.
  • أحمد ملين: وليَ قضاء الرباط فكان “متشبّثا لدى النقض والإبرام، من أهل الـجِدّ والصرامة في الأحكام”[14]، عَيّنَه فيه السلطان الحسن الأول رحمه الله.
  • أحمد دِنِية: من بيت رباطي أثيل في المجد والعلم، أخَذ الإجازات من جِلة المشايخ في وقته، ومن بينهم مؤرّخ العُدوتين أبو العباس أحمد الناصري عام 1313 هجرية، وبَعدها بثلاثة أعوام وليَ قضاء الرباط.
  • أبو حامد البْطَاوْري: زاول مهمة كاتب في ديوان النائب السلطاني بطنجة، احترف فيها أصول التحرير والتواصل والكتابة، وسافر إلى إسبانيا وفرنسا وإنجلترا في إطار مهام دبلوماسية، وكلَّفه الأمير رشيد بن عبد الرحمن بن هشام بمهمة أستاذ رسمي لأولاده، وولّاه في نفس المنصب السلطان الحسن الأول. تولّى قضاء الرباط بظهير سلطاني عام 1323 هجرية، واستمَر فيه عشرة أعوام إلى أن أحيلَ على الـمعاش.
  • أبو العباس البَـناني: “فَخر الرباط الـهُمام، [المرموق] من الكلّ بعين الاحترام والإكرام”[15]، كان يُشْرف على خُطب المناسبات الدينية في الرباط التي يحضرها السلطان مولاي يوسف (تــ 1927)، وقد طُلِبَ منه تَوَلّي منصب قاضي الجماعة في فاس ولكنه اعتذر، وقاضي الرباط وامتَنع، ثم أخيراً تولاها على مضَض لخمْس سنين.
  • محمد بن عبد السلام الرُّندي: عُين عضوا بمجلس الاستئناف الشرعي في الرباط، ثم قاضيا بالنيابة، فقاضيا رسميا بدْءً من سنة 1333 هجرية.

ختاما

إنّ هذه المجموعة من التراجم الهامة لقضاة الثغر الرباطي المحروس التي انتقيناها من أصْلِ تراجمَ ناهزت الإحدى والثلاثين شخصية رباطية؛ تَنِمّ عن ثقافة مؤلِّف الكتاب وعِلْمه بالرجال وتخلّقه بخُلُق الوفاء، ويَشهد له هذا العمل بكبير التّطَلُّع وواسع الغَوص والتَّضَلُّع، وإنْ كان في الأصل نَحى فيه مَنْـحى الاختصار المُفيد لا الشرح والتطويل الـمُسْتَفيض.

إنه كتابٌ يَصدُق في قول العلّامة مؤرخ سَلا محمد بن علي الدكالي:

كتابٌ لأخبار القُضاة حَوى لُطَفَا *** وجَمَع حُسْنًا من شمائلهم صَرْفا

لقد رقَصت أرض الرباط لفاضــل *** أشاد لهم ذكْراً يَفوح بهم عُرْفَــــــا

المراجع
[1] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، طبعة دون تاريخ، حقوق الطبع للمؤلِّف، ص 2.
[2] بوجندار أحمد: "مُقدِّمة الفتح من تاريخ رباط الفتح"، دراسة وتحقيق الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب، عن دار المذهب للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2014.
[3] بوجندار أحمد: "الاغتباط بتراجم أعلام الرباط"، تحقيق الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب، دار المذهب للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 2014.
[4] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 4.
[5] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 7.
[6] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 8.
[7] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 11.
[8] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 20.
[9] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 21.
[10] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 26.
[11] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 30.
[12] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 31.
[13] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 36.
[14] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 40.
[15] بوجندار أحمد: "تعطير البِـساط بذِكْر تراجم قُضاء الرباط"، مرجع سابق، ص 45 – 46، (بتصرّف شديد).