بين يدي التقديم

على مدى قرون، ظل الفقهاء محط اتهام من لدن خصوم ألداء ممن ألبسوهم تهما شكّلت موضوع معارك فكرية وخصومات أدبية، خفتت حينا واضطرمت أحيانا أخرى، ومن أشهر التهم التي تمّ الترويج لها: ضعف حاستهم الأدبية وذائقتهم الشعرية، لأن عواطفهم المتحجرة ولغتهم المتخشبة لا تسعفهم في مجاراة النظم، ولا في إبداع الصور الشعرية الشفيفة… وأما التهمة الثانية: فمعاداتهم للفلسفة وحرية التفكير الذي يمنعهم منه عكوفهم على النص، واحتكارهم الحقيقة، ومعاداتهم للخيال والإبداع…

وقد تصدى لفضح زيف التهمة الأولى أعلام نذكر من المعاصرين العلامة الفقيه عبد الله گـنون خاصة في كتابيه: “أدب الفقهاء” و “النبوغ المغربي“، وتصدى للتهمة الثانية أعلام فقهاء فلاسفة نذكر من القدماء ابن رشد باعتباره أوّل مَن حاول الملاءمة ما بين الحكمة والشريعة وخاصة في كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، ومن المحدثين نذكر الأمين بوخبزة الذي حاول ردّ حقيقة العلاقة بين الفقهاء والفلاسفة وإن كان في زمن ومكان مخصوصين في كتابه “الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي في القرنين السادس والسابع جدلية القبول والرفض” وهو موضوع هذا التقديم.    

تقديم الكاتب

الأستاذ الأمين بوخبزة من وجوه الفكر والدعوة والعمل الاجتماعي والخيري بالمغرب، ولد يوم 9 رجب 1375ه / 21 فبراير 1956م، حاصل على الإجازة في الفلسفة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، والماجستير في العقيدة والفكر من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، درّس على مدى سنوات العقيدة والفكر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان. عُرف بنشاطه الدعوي والتربوي والاجتماعي والإنساني والإغاثي، فهو عضو مؤسس لحركة التوحيد والإصلاح المغربية، وعضو مؤسس لجمعية الإمام الشاطبي لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه، وعضو مؤسس لجمعية الرحمة للعناية بالمرضى المعوزين ودعم مؤسسات الصحة العمومية، وعضو مؤسس لجمعية مهد البراءة للعناية بالأطفال، وعضو مؤسس لحزب العدالة والتنمية وأحد أعضاء فريقه الرلماني على مدى سنوات.

تقديم الكتاب

صدر كتاب “الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي في القرنين السادس والسابع جدلية القبول والرفض” في طبعته الأولى سنة 2021 عن مطبعة شمس برنت بسلا، ضمن سلسلة رسائل جامعية التي يصدرها قسم الإنتاج العلمي والفكري لحركة التوحيد والإصلاح. والكتاب في الأصل، رسالة لنيل الماجستير (دبلوم الدراسات العليا) تقدم بها الأستاذ الأمين بوخبزة لقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1986 تحت إشراف الدكتور عبد اللطيف محمد العبد. وكتب مقدمة الكتاب الأستاذ المقرئ الإدريسي أبو زيد.

الكتاب في 273 صفحة، وهو من مقدمة، وثلاثة أبواب، وسبعة فصول، وعشرين مبحثا. حاول من خلالها الباحث الكشف عن كون الفقهاء ليسوا جميعا كما وصفهم خصومهم وخاصة المستشرقين وتلامذتهم من المتفلسفة العلمانيين، بل إن بعض هؤلاء الفقهاء كان لهم من النظر العميق والكسب المقدّر في مجال الفلسفة ما تشهد به مصنفاتهم إلى اليوم، كما كان آخرون منغلقين متعسفين يستقوون بالحكام لأجل التنكيل بخصومهم سياسيين كانوا أو فلاسفة أو حتى فقهاء. وعلى عادتنا، فإن هذا التقديم المجمل، لن يصرفنا عن عرض محتوى الكتاب بنوع من التفصيل.

  • المقدمة: وفيها يضعنا المؤلف في سياق تأليف الكتاب، الذي أرجعه إلى الإجماع غير المعلن “عند بعض الأساتذة على إدانة موقف علماء الإسلام وفقهائه من الفكر الفلسفي، ووصمهم بكل نقيصة، والإصرار على اعتبار هذا الموقف عندهم دليلا على تزمتهم وضيق أفقهم الفكري (…) حتى استقر أن سدنة الفكر الديني حيثما وجدوا في الغرب أو في الشرق، وسواء كان الدين هو الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، فموقفهم واحد من البحث العلمي وحرية الفكر”[1]. وبهذا يتضح منذ البداية أن الكتاب سيكون مرافعة من أجل” إثبات زيف الأطروحات الاستشراقية على اختلاف دوافعها وأنماطها” و”إبراز عوار هذه الإطلاقات في الأحكام وبيان نسبيتها”[2].
  • الباب الأول: (الحياة الفكرية والعلمية في الغرب الإسلامي في القرنين السادس والسابع الهجريين). وهو من فصول ثلاثة، وسبعة مباحث، خص الكاتب الفصل الأول منها للحديث عن الحركة الفكرية والثقافية في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس) مبرزا مظاهر نهضته العلمية والأدبية وأثر المذهب المالكي في توجيه هذه الحركة، ليقف في الفصل الثاني عند دخول الفكر الفلسفي اليوناني إلى المغرب والأندلس حيث عرّف بالحركة الفكرية خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، ليتوقف عند قامة من قامات الغرب الإسلامي العلمية ابن مسرّة ومدرسته في الأندلس. أما الفصل الأخير فتتبع فيه ازدهار الفلسفة المشائية على يد أبي الوليد ابن رشد باعتباره الشارح الكبير لفلسفة آرسطو، وليعرض مشروع ابن رشد للتقريب بين الدين والفلسفة، مع توصيف ما آلت إليه الفلسفة بعده، ورصد امتدادات المدرسة الرشدية في الغرب الإسلامي.
  • الباب الثاني: (موقف الفقهاء من الفكر الفلسفي مع تفصيل القول عن الدواعي والأسباب العقائدية والعلمية والسياسية). وهو من فصلين اثنين، وسبعة مباحث، عقد فيها الكاتب مقارنة بين التفكير العقلي والتفكير الفلسفي وبين العقيدة والفلسفة، كما عرض مبررات موقف الإسلام من المحاولات الفلسفية لتفسير الوجود، وناقش الموقف من محاولا التقريب بين الإسلام والفلسفة وموقف بعض الفقهاء والأدباء من الاشتغال بالفلسفة في العهدين المرابطي والموحدي وبعض المساجلات الفكرية وقتئذ.
  • أما الباب الثالث: (أثر الدراسات الاستشراقية في توجيه مواقف المحدثين من الفقهاء وأقطاب الفكر الحديث) وهو من فصلين اثنين وستة مباحث، وخصه للحديث عن الدراسات الاستشراقية وأثرها في الدعوة إلى إحياء الفكر الفلسفي، ليعرض مقارنة بين موقف بعض الفلاسفة المحدثين وموقف الفقهاء من الميتافيزيقا

أما الخاتمة، ففضح فيها “الزيف الذي استشرى في ساحتنا الثقافية، حتى صير المغالطات والشبهات الاستشراقية علما” ونوه بجهود العلماء الأعلام في التصدي للفكر الاستشراقي، مذكرا بأهم النتائج التي انتهى إليها في بحثه.

على سبيل الختم

هذا الكتاب يقدم الوجه الآخر للأستاذ الأمين بوخبزة الذي عرفه الجمهور داعية ومربيا، وناشطا اجتماعيا، ويقدّمه باحثا في الفكر وتاريخه، بعد أن احتكر طلبته هذا البعد الثالث من شخصية بوخبزة. ومن جميل الأقدار أن الكتاب رأى النور أولا، رسالة لنيل الماجستير في رحاب القاهرة، وفي أرجاء دار العلوم، وبُني صرحه من خلال ما حبلت به ردهات مكتبات مصر العامرة وخزاناتها. وإذا كان من إشارة أختم بها هذا التقديم، فهي الإشارة إلى اختيار “الغرب الإسلامي” مكانا / فضاء لهذا البحث، ولعل ذلك من شيم الرجل، ووفاء منه لأرض المغرب الحبيب وطنا، ولأرض الأندلس تاريخا وحضارة.

المراجع
[1] الأمين بوخبزة:  الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي في القرنيين السادس والسابع جدلية القبول والرفض، شمس برنت / سلا، ط 1 – 2021، ص 21.
[2] الأمين بوخبزة:  الفقهاء والفلاسفة في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص 23.