المحتويات
النبوغ المغربي الرياضياتي في العصرين المرابطي والموحدي
ستُساهم الهجرات الأندلسية في وضع ركائز انطلاقة ناجحة لعلوم الرياضيات بالمغرب، بظهور اسم مالك بن وهيب كألمع فقيه وقاضي ومستشار علمي للسلطان علي بن يوسف بن تاشفين[1]، عَنِيَ بهذا العلم وبرع فيه. بالتزامن مع ما شهده علم الجبر والحساب ونظرية العدد من صحوة مع رموز العصر الموحِّدي: أبو بكر الحصّار المتوفّى سنة 1200 صاحبُ ”البيان والتذكار في عِلم مسائل الغُبار“، و”الكامل في صناعة العدد“، و“الكتاب الصغير“، والعلاّمة ابن الياسمين الفاسي المتوفّى في 1204، مؤلِّفُ ”رَجز في الجبر“، و”تلقيح الأفكار“، وقد برع أكثر في الهندسة والمنطق والتّنجيم والحساب.
من جهته؛ أبدع ابن المنعم العَبْدري في كتابه ”فقه الحساب“ فرعا جديدا في الرياضيات العربية يُسمّيه العلماء المختصّون “التحليل التآلُفي”، أيْ عدد الكلمات التي يمكِن تكوينها من حروف أبجدية في العربية مع اعتبار الحركات والسّواكن.
استمرَّت ولادة النبوغ الرياضياتي المغربي إلى القرن السابع عشر، مع ظهور محمد بن سليمان الروداني نَجم المصنّفات الفلكية ورائد المختَـرَعات الوَقتية المتوفى سنة 1683، الذي سبق وذكرنا بعضا من مؤلَّفاته في مقال سابق.
وربما يُطرَح التساؤل عن سِرّ توجُّه العلماء المغاربة للرياضيات وعلم الحساب؟ رغم ما نعانيه من معطياتٍ عن تراجم الأعلام الـمبرَّزين في هذا الميدان، وقِلة الالتفات إلى مخطوطاتهم وترجماتها التي صدرت عن العبرية واللاتينية منذ القرن الخامس عشر.
إنّ الغالب في ميل العلماء صوب هذا الفرع من العلوم العقلية كونُهما يُعينان في التعرف على الفرائض الشرعية والسنن الدينية، وباعتبارهما عِلمان جَليلان مُرتبِطان بحاجة الناس الدنيوية.
أعلام مرحلة ازدهار العلوم الفلكية بالمغرب
سنرى ازدهار هذين العلمين، لاسيما الفلك المغربي الذي تأسَّف ابن خلدون أنّه في “الإسلام لَم يَقَع به عناية إلا القليل (..)، وهذه الهيئة صناعة شَريفة، وليس على ما يُفْهَمُ من المشهور أنّها تُعطي صورة السماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة..”[2]، علما أنّ فترات الازدهار لم تهتم بالفلك النظري، وإنما استفردت المدرسة المغربية بنشاط علمي فلكي في القرنين 11 – 12، في مجالات الأرصاد والحسابات وصناعة الآلات الفلكية.
ومِن أنبغ علماء الفلك والفلسفة العقلانية على سبيل الاستحضار: ابن باجّة التِّجِيبي أحد الأعلام المبرّزين في الغرب الإسلامي، لمع نجمه في سرقسطة والمغرب “فبرز في الكثير من العلوم، فكان لغويا وشاعرا وموسيقيا، وفيلسوفا. ولما غزا المرابطون سرقسطة في سنة 1110م كانت شهرته قد استقرّت، بدليل أنه صار من المقرَّبين إلى حاكم سرقسطة الذي ولَّاه المرابطون، وهو ابن تفلويت، الذي كان عاملا على سرقسطة من قِبل علي بن يوسف بن تاشفين. وقيل إنه صار وزيرا لابن تفلويت هذا […]. ثم ارتحل إلى فاس، حيث نال رضا أبي بكر يحيى بن يوسف بن تاشفين وصار وزيرا له. وهناك توفي مسموما في سنة 1138م. وقيل إنَّ خصمه أبا العلاء ابن زهر، الطبيب الشهير، هو من احتال ليوضَع له السم […] مما أدى إلى وفاته”[3]. انتقَد ابن باجّة آلية فلَك التّدوير باعتبارها مع مبادئ الفيزياء الأرِسطية، ثمَّ تمّم هذه الجهود؛ ابن طفيل (تــ 1185)، وابن رشد (تــ 1198)، ونور الدين البطروجي الفلكي المغربي والقاضي المشهور “أول عالم فلكي يقدّم نظاماً فلكياً غير بطلمي كبديل لنماذج بطليموس مع الكواكب التي تحملها كرات مركزية الأرض”[4]، كان لمؤلفاته كبير التأثير على أوربا في طور نهضتها، صاغَ بدائل رياضية لفلك بطليموس واقترح أسباباً جديدة للحركات السماوية في كتابيه “الهيئة” المطبوع في البُندقية سنة 1531، و“الحياة”.[5]
ومن بعد البطروجي وابن طفيل ورِث العلم أعلامٌ مغاربة عديدون، “مَلَــؤوا الساحة الفلكية عبر تعاقب الأزمنة تنظيراً وتصنيفًا وتطبيقا، وآثارهم التي خلَّفوها أكبر دليل على نضجهم في مجال الفلك والرياضيات والهندسة، وتفاعلهم مع واقعهم تلبيةً لمتطلباته في مجال ضبط الوقت وحساب حركات الزمن. فكان من آثارهم الخالدة: “نَظْم أبي مقرع البطيوي”، من علماء القرن الثامن، وعلى هذا النظم شروح، منها “المقنع في اختصار نظم أبي مقرع”، لـمحمد بن سعيد المرغيتي 1020ه. و“روضة الأزهار في علم وقت الليل والنهار” لـــعبد الرحمن بن أبي غالب الجادري 839ه ، وهي أرجوزة من 336 بيتا طُبعت بشرح “قطف الأنوار من روضة الأزهار” لــــعبد الرحمن السوسي البوعقلي المعروف بــــــابن المفتي المتوفّى سنة 1020ه. ومنها “اليواقيت في المنتقى من علم المواقيت”، وهي أرجوزة من 412 بيتا لــــعلي بن محمد الدادسي، وهو من التراث المخطوط”[6]. كما لم يفُت العلماء المغاربة استحداث كرسيٍّ خاص بالعلوم الفلكية بجامع القرويين. وتحتفظ لنا كثير من المتاحف والمساجد في فاس ومراكش وتطوان وسلا بمآثر خالدة للأدوات الفلكية والمواد الخاصة بالحسابات الزمنية والإسطرلابات وطُرق تعامل المغاربة مع قيمة الزمن (ليله ونهاره).
وارتبط علم الفلك عند المغاربة بعلم التوقيت، فبرعوا فيه، وظلّوا يتوارثونه إلى عهد الحماية الأجنبية، ومنهم من صارَ لقبه العائلي “المؤقِّت”، وآخرهم محمد بن عبد الله المؤقِّت المراكشي المتوفى سنة 1949، صاحب المصنَّف الرائد “مجموعة اليواقيت العصرية” (صدر في طبعته الأولى سنة 1930) الذي تضمّن ستة كتُب مِن أجود ما أنتج مُثقفٌ إصلاحي بمغرب الحماية جادت أفكاره بجواهر المعارف.
إلا أنّ التراجع كان من نصيب هذه العلوم أيضا “نَتَج عن تَبَنِّي برنامج بحث فلَكي محدّد، تُحفِّزه اعتبارات ومفاهيم أرسطية بالية لم تَعُد تقدِر على مواكبة إنجازات الفلَك الرياضي العلمي”.[7]
المراجع
[1] الصلابي علي، الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة – مصر، الطبعة الأولى 2003.[2] ابن خلدون عبد الرحمن، المقدّمة، ص: 473.
[3] بدوي عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، بيروت – لبنان، ص: 11.
[4] موقع العربية: (https://bilarabiya.net/28125.html)
[5] مجلة زمان، النسخة العربية، عدد مايو 2020.
[6] مجلة المحجّة، العدد 416، "علم التوقيت بالمغرب الأقصى تراث علمي عتيد يحتاج إلى بعث وتجديد". 17 مارس 2014.
[7] إصلاح الفلك النظري في المغرب ثورة أم ثورة مُضادة؛ العلم والفكر العلمي بالغرب الإسلامي في العصر الوسيط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 94. تنسيق بناصر البعزاتي، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2001.