المحتويات
مقدمة
تَندرج بعض الأحداث الكبرى من تاريخ المغرب في مقررات كُتب التاريخ، وتحضر مؤثّرة في وعينا الجماعي والفردي، رغم النقائص والأغاليط التي اكتشفنا أنها ترافق تلك النصوص، مُذ بدأنا نعِي وننفتح على مصنّفات وكتابات من مشارب ومقاربات شتّى.. وقد كان لمعركة “وادي المخازن” وقعٌ كبير علينا ونحن صغار، ولا زالت تحضُر بثِقلها كلحظة انتصار مهيب في وجداننا الحضاري وثقافتنا التاريخية. ففي مثل هذه الأيام، وبالتحديد يوم 04 غشت 1578م/30 جمادى الأولى 986ه، جرت أطوار معركة كبيرة ومصيرية في منطقة القصر الكبير (تعرف سابقا قصر عبد الكريم أو قصر كتامة)، والتي تعتبر من المعارك المصيرية في تاريخ الدولة المغربية والعالم الإسلامي بصفة عامة، والمصيرية أيضا في تاريخ العالم المسيحي ممثلة في البرتغال. ويتعلق الأمر بمعركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة.
المغرب الأقصى أرْض الأحداث العُظمى
تاريخ المغرب الأقصى حافل بالأحداث التاريخية والملاحم البطولية التي “تُطرِّز سُطورَه، وتُـتَوّج هامَتَه، وتملأ صحائفَه”[1]، وتُجدّد فينا وهَج الافتخار بلحظات الانتصار التي حقَّقها أجدادنا. وإنّ انصرام 444 سنة على حَدث معركة الملوك الثلاثة يُحَفّز القارئ على العودة إلى مصادر المرحلة ومراجع أخرى أرَّخت لها مُستنِدةً إلى أرشيفات أجنبية ورسمية – مخزنية وغيرها لتعزيز رصيد الـمعطيات عن الواقعة، مُستَلّا الـعِبر والأسئلة من بين صفحات التمجيد وعبارات الانبهار.
نُقدِّر من خلال ما أتاحته المادة الـمصدرية، وعن قناعة مصدرها وطنيةٌ أصيلة وموضوعيةٌ علمية؛ أنّ معركة وادي المخازن تتبوّأ موقع الصدارة ضمن ملاحمنا التاريخية العُظمى التي شهدتها أرض المغرب الأقصى منذ الفتح الإسلامي، وهي المعركة الوحيدة التي تستحقّ التقدير والتمجيد.
وادي المخازن.. تحرير الثغور وحماية الملة والدّين
حقَّقت المعركة التي يصفها المؤرّخانِ عبد العزيز الفشْتالي ومحمد الصغير الإفراني بــ”الغزوة الكبرى”، غايات ونتائج لم يَسبق أنْ حَقَّقتها معركة قَبلها فوق تراب المغرب، لاختلاف الظروف والسياقات، ووطأة التحديات. فالـمرابطون خاضوا عشرات المعارك التي طهَّروا بها أرض المغرب من الكيانات الإقليمية السياسية ووحدّوا المغرب الأقصى لأوّل مرة في تاريخه، وكافح الموحّدون ضد أكثر من جَبهة لتوسيع نُفوذ دولتهم لا سيما على عهد قائدهم العظيم عبد المؤمن بن علي الكومي وحفيده السلطان الـمُظفَّر يعقوب المنصور، وقادوا معارك ضارية في الداخل والخارج والأندلس، ولـم يتوانى المرينيون عن صدّ غارات خصومهم في المغرب الأوسط وأعدائهم الإيبريين فضلاً عن معاركهم الأليمة ضد أبناء عمومتهم الوطّاسيين آخِر عهْد دولتهم، إلّا أنّ السّعديين الذين استَهَلّوا توطيد دعائم مُلكهم بسلسلة من المعارك اللاهبة في سوس ودرعة وشياظمة وحاحا، تارة ضدّ الخونة وأخرى ضد القبائل المتمرِّدة وثالثة ضد البرتغاليين، وتَمكّنوا تحت قيادة الجد المؤسّس عبد الرحمن الزّيداني وولَديه السُّلطانَين الشُّجاعين أحمد الشيخ ومحمد الأعرج؛ سيكونون على موعد مع التاريخ في منطقة ظَلَّت خارج نطاق سيادَتهم لسنوات طويلة، وشاء الله أنْ لا يَحُوزوها إلاّ تحت أسنّة الخيل وتبادل البارود وصليل السيوف بعد الانتصار الكبير في معركة وادي المخازن التي كان من نتائجها:
- انتصار عظيم على أعظم مملكة في غرب البحر الأبيض المتوسط وقَتْل رمزها السياسي (الملك دون سبستيان)؛
- تحرير الثغور الـمحتلَّة وإجلاء العدو _ ما خلا سبتة ومليلية وبعض الجُزر _؛
- وقْف مَدّ الحملة الصليبية[2] التي كانت تسعى لتنصير المغرب واقتحام إفريقيا؛
- تعزيز هيْبة المغرب الدولية وتَلَقيّ السفارات والتهاني من لُدن كُبريات الدول في القارة الأوربية؛
- تحييد العثمانيين من معركة كَسر العظام واشتِهاء أرض المغرب، والتأسيس لمرحلة جديدة عنوانها رابح-رابح، ومطبوعة بالودّ والتبادل الدبلوماسي؛
- تتويج سُلطانٍ مُنتصِرٍ بشرعية الجهاد مَلكا على المغرب بمبايعة قادة الأجناد والشرفاء والعلماء من أرض المعركة الحامية.
لم يكن لهذه النتائج الباهرة أن تتحقَّق لولا ما تظافَر من عودة وجودية لقيم البطولة والرجولة والوفاء لحماية الأرض والعرض، والإنصات للعلماء وتقدير دورهم الكبير في التعبئة الوطنية والمشارَكة البُطولية في أرض المعركة، الذين ما إنْ تناهت إليهم أخبار زحف الجيوش البرتغالية الغازية صوبَ القصر الكبير واحتلالها أصيلة وطنجة قَبل ذلك، ووصول رسالة السلطان عبد الملك؛ حتى قاموا بدور التأطير الدّيني والتّحفيز للعامة وتَحميس المتطوّعين لجهاد النصارى، قبل وصول طلائع جيش أحمد السعدي من فاس وأخيه عبد الملك من مراكش، وتَوَلّى جناح الميسرة في المعركة الشيخ الفاضل العامل المناضِل أبو المحاسن يوسف الفاسي القَصري الذي “أبلى فيها بلاءً حَسَنا” بتعبير ابنه العلّامة أبو حامد الفاسي في “مرآة المحاسن”[3]، ولولا ما كانَ من الاصطفاف المجتمعي لتجاوز آثار حروب الاستنزاف التي أخَلَّت بالتوازن الجغرافي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي بمغرب أوائل القرن السادس عشر.
لقد جسّدت وادي المخازن أنبَل لحظات قابلية المغاربة للتآزر والتَّعاون مع من يتوسّمون فيه الخير لحفظ الأوطان، وأعطَت رسالةً مفادُها أنّ المغرب يمرض ولا يَموت، دافعَ بالنار والحديد عن الأندلس منذ 1086م في معركة الزّلاقة الخالدة، وجَدَّد أركانها ونهض بعمرانها بعْد معركة الأرَك الفاصلة سنة 1195م، ووظَّف إيجاباً طاقات الأندلسيين الموريكسيين[4] بإشراكهم في معركة وادي المخازن 1578م، ثم عاد ليدافع باستماتة وبَسالة عن ترابه وشعبه وموريسكييه ضدّ الزحف المسيحي بقيادة حَفَدة ملوك قشتالة وليون ونافار الذينَ أغاروا على ممالك الأندلس بعد نهاية حكم ابن أبي عامر وسلالة بني أمية، وامتدَّ تَسَلُّطهم على ثغورنا البحرية الشمالية والجنوبية، مُستغلِّين صراعات البيت الوطاسي وهشاشة المرينيين؛ إلاّ أنّ الشرفاء السّعديين وقَفوا جِدار صدٍّ منيع ذَهَب بأحلامهم وسفَّه مَشروعهم، وانتصبَ أحمد المنصور السَّعدي[5] سلطاناً مُهاباً حائزاً الشرعية الميدانية والدينية والسياسية لقيادة دولةٍ جديرة بالتقدير.
معركة وذكرى مطوَّقة بالأسئلة والعـبرة
ولأنّ الذكرى تخلُق شغبَ السّؤال وقلَق البحث الدائم عن الأسباب والتأثيرات الداخلية والخارجية، والملاحظات المنهجية، فإنّ استحضارنا لانتصار المغاربة في معركة وادي المخازن بالمحاذاة من مدينة القصر الكبير (قصر كتامة)، يستدعي ما يأتي:
- أهمية وقيمة الاستفادة مما لدى الآخر من تقدُّمٍ فكري وعسكري وتنظيمي؛ يُساعد على استيعاب شروط السياق التاريخي والحضاري لإحراز انتصار أو تقدُّم، وحالة عبد الملك السعدي وأحمد ومقامهما في الدولة العثمانية لسنوات، واستنصارهما بالباب العالي وبقائهما على اتصال مع ما يطرأ في شبه الجزيرة الإيبيرية؛ جديرة بالانتباه والتقييم.
- رغم وجود صراع سياسي على الحُكم بين الإخوة والعمومة السعدية؛ إلا أنّ ذلك لم يحُل دون لَمِّ شتات الطاقات العسكرية وتحفيز المتطوّعين المغاربة والعلماء، لصدّ القوات البرتغالية الغازية، وإحراز انتصار ساحق ظَلَّ يَحفظ هيبة المغرب في غرب المتوسط إلى غاية حرب إيسلي سنة 1844، التي كَشَفت عورة المخزن المغربي وأنْهَت فَزّاعة وأسطورة “الجيش المغربي الذي لا يُقهَر”!
- قضَت حكمة الله أن يُستشهَد عبد الملك المعتصم بالله الذي سَبق وخاضَ أزيد من 24 معركة في أقل من سنَتين ضدّ ابن أخيه محمد المتوكّل[6] ليستفرد أحمد المنصور بعرش الدولة السعدية “على رأس الثلاثين من عمره” بعبارة المؤرّخ الفشتالي[7]، مستنِدا على شرعية الإنجاز العسكري وطرْد العدو الصليبي والنّسب الشريف؛ (قضت هذه المشيئة الإلهية هذا الأمر) كي لا يحدث النزاع على السلطة، لأن وحدة المغرب السياسية والمذهبية والدينية والجغرافية تَضُرُّ بها الخلافات الداخلية على الحكم، ويُضعِفها تعدُّد رأس الهَرم!
- لم تغفِر ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا والفاتيكان للمغرب إذلاله التاريخي لهم، في شخص دولة البورتقيز/البرتغال التي ساندوها بالمال والجُند والسلاح للفتك بالمغرب وتمهيد احتلاله الكُلي، وظلّوا يُكِنون العداء ويتحرشون بسواحله إلى مطلع القرن العشرين.
كما تستدعي أربعة قرون ونيِّف التملّي في أوجُه القُصور الإستراتيجي الذي رافق انتصارنا في معركة وادي الـمخازن، والتساؤل عن سِرّ عدم انتهاز السلطة السَّعدية سياق الانتصار لتحرير مدينة سبتة التي احتلّها البرتغاليون سنة 1415؟ والاستفسار عن الأسباب التي أبطأت بهم عن الالتفات لهذا الذي ما يزال يجرح كرامتنا وهيبتنا وجغرافيتنا ومغربيتنا إلى اليوم!؟ لعلها ثورة ابن أخيه الأمير داود بن عبد المؤمن في فاس وانتقالها إلى سوس، والانشغال بتخفيف حِدّة الدعم العثماني للمتمرِّدين في الداخل المغربي، والعَجلة لأخذ البَيعة الشرعية في فاس ومراكش، وتثبيت أركان الـمُلك؟ ثمّ؛ كيف نفسِّر عدم إقدام أحمد المنصور _ الذي سيتلقَّب لاحقا بــ”الذهبي” _ على تأسيس أسطول وقوة بحرية في البحر الأبيض المتوسط مباشرة بعد معركة وادي المخازن واستجلابه لبعض ذَهب بلاد السودان بعد الحملة الشهيرة سنة 1589م؟ أين ذهبت الثروة الذهبية؟ لا سيما والعدو الصليبي كانت مصادر قوته في جيشه البحري الجرّار.
كيف فاتَ العقلَ المغربي أنْ يَستوعب تحولات ميزان القوى الذي جعَل المحيط الأطلسي واجِهة نفوذ أُمَمي جديد وطريقَ القوة الاقتصادية الصاعدة؟ كيف فاته الأخذ بالصناعة الثقيلة والاقتصار على صناعة السكر والنحاس والملح؟
ومع كل هذا؛ تَظل معركة وادي المخازن شامة في جبين تاريخ الغرب الإسلامي، ونُقطة ضوء في دائرة الظلام الحالك الذي كان يُحيط بالمغرب الأقصى، تداَرك بها المغاربة مصيرا لم يكن يعلم به إلّا الله، وأعطَت للدولة السعدية قوة وهيبة في جوارها ومُحيطها الإقليمي والدولي.
المراجع
[1] الكتاني يوسف: "دور العلماء في معركة وادي المخازن"، مجلة المقاومة وجيش التحرير، العدد 28، يونيو 1991، ص: 21.[2] الإفراني محمد الصغير، "نُزهة الحادي في أخبار ملوك القرن الحادي، تقديم وتنسيق عبد اللطيف الشاذلي، الطبعة الأولى 1998. ص: 139.
[3] الفاسي محمد العربي: "مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن"، منشورات رابطة أبي المحاسن بن الجد، تحقيق ودراسة الدكتور محمد حمزة الكتاني، ص 147.
[4] جبرون امحمد، تاريخ المغرب الأقصى من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، منشورات منتدى العلاقات العربية والدولية، الطبعة الأولى 2019.
[5] الإفراني محمد الصغير، "نُزهة الحادي في أخبار ملوك القرن الحادي، مرحع سابق، ص: 145.
[6] كريّم عبد الكريم، المغرب في عهد الدولة السعدية؛ دراسة تحليلية لأهمّ التطورات السياسية ومختلف مَظاهر الحياة الحضارية، منشورات جمعية المؤرخين المغاربة، الطبعة الثالثة 2006، الرباط، ص: 99.
[7] الفشتالي عبد العزيز، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشّرفا، تحقيق الدكتور عبد الكريم كريّم، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص: 71.