توطئة

تُسرُّ الأعين وتبتهج الأذواق حينما تكتشف مسجد حسّان وصومعته عن قرب، لذلك لا عجب في أن تكون رمزا من رموز التراث المغربي، وأحد عناوينه المشرقة، وهي التي تقف شامخة في قلب العاصمة الرباط، كركن قائم من أركان مسجد عظيم لم يُستكمل بناؤه، فظّلت أطلاله على ضفة نهر أبي رقراق، محيّرة للعقول وأخّاذة للأفئدة، إنها أحد أكثر أسرار تاريخ المغرب إثارة وغموضا.

تشييد مسجد حسّان

بدأ تشييد مسجد حسّان العظيم بين سنتي 590 و591هـ/ 1193 و1194م[1]، في مدينة رباط الفتح، إبّان مرحلة استكمال بنائها واختطاط مرافقها الأساس؛ حتى تتحوّل إلى حاضرة كبيرة إلى جانب مراكش وفاس. وانطلق العمل في رفع قواعد هذه المعلمة الإسلامية بأمر من السلطان الموحدي يعقوب المنصور (580-595هـ/1184-1199م)، الذي كان عهده “العهد الذهبي للمغرب سواء من ناحية استبحار العمران وازدهار الحضارة أو من ناحية استقرار النظام وانتشار العدل”[2]، فتجسّدت إحدى طموحات هذا الحاكم الموحدي في مشروع تشييد مسجد من أكبر مساجد العالم خلال ذلك العصر، لذلك استغرقت عملية تشييده وقتا طويلا وإمكانيات هائلة.

يصف عبد الواحد المراكشي حجم المسجد وهو المعاصر لسنوات تشييده: “وبنى فيها [يعقوب المنصور] مسجدا عظيما كبير المساحة واسع الفناء جدا، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منهن وعمل له مئذنة في نهاية العلو، على هيئة منار الأسكندرية”[3].

كما شبّه الرحّالة ابن بطوطة حجم المسجد بمسجد عظيم كان في بلخ، قائلا: “ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه”[4].

احتاج بناء بهذا الحجم إلى مكان فسيح بلغت مساحته ما يفوق 25.500 متر، في موضع يطلّ على نهر أبي رقاق بشمال شرق الرباط، فبلغ طول المبنى 183.12 مترا، وعرضه 139.32 مترا[5]، وكانت له 16 بابا، فيما شيّد 360 عمودا بغرض رفع سقف المسجد، ويفترض الباحثون أن هذه الأعمدة قد جلبت من أماكن بعيدة بواسطة عربات، كما احتوى الجامع على عدة “مطافئ” أحواض صغيرة تبنى لتخزين مياه الأمطار[6].

لم يكتب لهذه المعلمة العظيمة أن يكتمل بناءها، ولا أن تؤدي وظائفها كما ابتغاها لها الخليفة يعقوب المنصور الموحدي، فتوقف بناء الجامع بموته ولم يعمل فيه خلفاؤه[7].

أدى توقف العمل في المسجد إلى تلاشي مرافقه شيئا فشيئا، وانعكست حالة ميزان القوة في المحيط الأطلنتي على مصيره، إذ أدى استفحال القوى البحرية المسيحية في السواحل المغربية إلى الاستنجاد بأخشاب المسجد لصناعة السفن، كما حدث مع السلطان الموحدي السعيد (ت 1248م)، وتكرر نفس الأمر فيما بعد مع السعديين[8]، كما أن التطورات التي وقعت بعد انهيار الدولة الموحدية لم تسمح بنهوض ونمو مدينة الرباط، بحكم قربها من السواحل التي كانت مهدّدة بشكل دائم، وبالتالي لم تغامر السلطات فيما بعد باستكمال بناء معلمة ضخمة بحجم مسجد حسّان في موضع قد يكون في متناول الأعداء المتربصين، وهو ما عبّر عليه الحسن الوزّان خلال القرن 16م بشكل واضح بقوله: “وقد ذهبت إلى الرباط فأخذتني الشفقة عليها، لما كانت عليه في القديم وما آل إليه أمرها الآن”.[9]

لم يكن هذا الإهمال وحده الذي أوقف مسار استكمال مسجد حسّان، إذ تمثّل الضرر الأكبر الذي أصاب المسجد في حدث زلزال لشبونة سنة 1755م، الذي حطّم مدينة لشبونة وتأثرت به عدة مدن من المغرب كوليلي ومكناس والرباط[10]، بعد ذلك لا يوجد أثر لمشروع تطلّع إلى استكمال بناء المسجد باستثناء ما أشار إليه المؤرخ إبراهيم حركات من إبداء الملك محمد الخامس رغبة في إتمام وترميم المسجد، لكن الأوضاع الاقتصادية للمغرب بعد الاستقلال حالت دون إقامة مشروع ضخم كهذا[11].

وبخصوص اسم مسجد حسّان فإن المصادر المعاصرة لتاريخ بنائه لا تذكر سلطانا ولا مهندسا باسم حسّان، كما يبدو ربط اسم المسجد بقبيلة بني حسن العربية متعذرا من الناحية التاريخية بحكم أن هذه القبيلة لم تستقر بمنطقة الغرب إلا في بداية القرن 20م، علما أن ذكر اسم جامع حسّان لم يرد في المصادر إلا ابتداء من القرن 14م، مع ابن أبي زرع (ت741ه)[12]، وعليه يكون من الأسلم القبول بالغموض الذي يحوم حول اسم هذه المعلمة، في انتظار أن تظهر مستقبلا إشارة تمكّننا من تفسير معقول وصائب.

الخصائص المعمارية للمسجد

تطلّب مسجد حسّان تصاميما ونقوشا استثنائية، حتى يتناسق حجم البناء مع جماليته، ومثّل ذلك تحديّا واضحا خصوصا بإمكانيات القرن 12م، ومن أجل تحقق هذا الهدف ارتكز تصميم المسجد على هندسة معمارية مدروسة، “فكل المقاييس التي أخذت في أدق الرفوعات سواء منها الأرضية أو العلوية، كلها تدل على أن الجامع إنجاز لتصميم مدروس، فهو بناء مستطيل الشكل، متوازن في كل جزئياته، اختير المربع له كقاعدة لتقسيم تفاصيله، كما اختيرت المقاييس في تقابل بسيط”[13].

أثار تصميم المسجد فضول الباحثين رغم انهيار معظم أجزاءه، فحرص مجموعة من الباحثين الأوربيين والعرب على وضع تخطيطات للمسجد خلال النصف الأول من القرن العشرين، واتفقوا جميعا على أن تخطيط مسجد حسّان معقّد وغريب، فبيت الصلاة فيه يتألّف من قسمين:

  • قسم أمامي: يشمل 21 قطعة حجرية عمودية على جدار القبلة، البلاطة (قطعة حجرية) الوسطى والبلاطتان المتطرفتان منها أكثر اتساعا من البلاطات الأخرى، ويخترق هذه البلاطات عرضا 7 أقواس موازية لجدار القبلة، أما البلاطات الإحدى عشر الوسطى تمتد جنوبا على 11 قوسا، ويكتنف هذه البلاطات شرقا وغربا صحنان مستطيلا الشكل، وإلى الشرق وإلى الغرب من هذين الصحنين بلاطتان تمتدان بطول البلاطات الأخرى.
  • أما القسم الخلفي: فيشتمل على 3 أقواس ممتدة بعرض المسجد كلّه بحذاء جدار القبلة[14].

الأسرار المعمارية لصومعة حسّان

شيّدت صومعة حسّان بواسطة الحجارة المصقولة وسط الجدار الشمالي للمسجد بخلاف مساجد المغرب، وهو الركن المواجه للمحراب، ويبلغ طولها حاليا 44 مترا بعدما انهارت أجزاؤها العليا (يقدر الطول الذي كان ينبغي أن تبلغه ب 190 على 140 مترا)[15]، ولا شك أنّ الطول الذي بلغته الصومعة أكبر من الحالي بسبب الانهيارات التي تعرّضت لها، حتى غدت عبارة “صومعة حسّان نصفها ذهب” قرينة بهذه المعلمة، فهذا شاهد من القرن 16م، يصف طولها قبل الانهيار: “يقال أنه يمكن من أعلاها رؤية سفينة في عرض البحر على مسافة كبيرة جدا، ولا شك عندي [حسن الوزان] أنها بسبب ارتفاعها من أجمل ما يمكن مشاهدته من أبنية الدنيا”[16].

كما أنّ هيكل الصومعة فريد من حيث الحجم، إذ يبلغ عرض واجهتها الأربعة 14مترا و20 سنتيمترا، وسُمكها 2,5 مترا[17]، وترتسم على جدرانها أشكال هندسية مغربية متناسقة ومتماسكة، كزخرفة “درج وكتف” وهي تشبه الوردة قبل أن تزهر، إضافة إلى الأقواس المفصّصة والنوافذ[18].

أما داخل الصومعة فتوجد غرف موزعة على 6 طوابق، كما بالكتبية في مراكش، ويدور حول المركز مطلع خفيف الانحدار (وليس درج)، عرضه متران[19]، استعمله البناؤون لتسهيل عملية البناء إذ كانت الدواب تصعد فيه بالطين والآجر[20]، ويتشابه هذا المطلع مع نظيريه في صومعة جامع إشبيلية (برج الخيرالدا حاليا) وصومعة جامع الكتبية بمراكش[21]، إلا أنه أوسع من هذا الأخير حسب حسن الوزان “إذ يمكن لثلاثة فرسان أن يصعدوا إليها جنبا إلى جنب”[22].

وتعتبر صومعة حسّان توأمة معمارية لصومعتي مسجد الكتبية بمراكش، والمسجد الكبير بإشبيلية (الخيرالدا)، فهذه المآذن الموحدية الثلاث شُيدت خلال القرن 12م، لذلك حملت الكثير من التشابه في تقنيات البناء والهندسة الداخلية[23] ناهيك عن الزخارف الخارجية، وهو ما يدفع إلى استنتاج مفاده أن هذه المشاريع العمرانية الثلاث قد تردد عليها نفس المهندسين والحرفيين، كما ذهب الباحث بسيليو بابون مادونادو قائلا: “أن المساجد الموحديّة الكبرى كانت ثمرة جهود فرق أو معماريين عملوا في آن معاُ في كلّ من مراكش وفاس وإشبيلية والرباط”[24]، وتسند معطيات مصدرية أخرى هذا الاستنتاج حيث يذكر المؤرّخ ابن صاحب الصلاة (ت 594ه/1197م) معماري يُدعى علي الغماري كان مشرفا على بناء صومعة إشبيلية، وأثناء ذلك كان يغادر إلى مراكش بين الحين والآخر، حيث “يسافر عن إشبيلية إلى الحضرة [مراكش] فيتعطل، ثم يعود البناء في الصومعة، وفيه لازم الجلوس بنفسه على البنائين في المدد التي كان يعاود فيها البناء”[25]، ونحن نعلم أن صومعة حسّان كانت تشيّد في نفس الوقت التي شيّدت فيه صومعة إشبيلية، وعليه فمن المرجّح أن هذا المعماري كان يشرف على بناء الصومعتين معا.

القيمة التاريخية والرمزية لمسجد حسّان

تحوّل موضع مسجد حسّان حاليّا إلى أثر وتراث تاريخي ذي قيمة عالية، حيث تُمثّل بقايا أعمدته، والجزء المتبقي من الصومعة، تراثا ماديا، وسجلاّ مختصرا للمعمار الموحدي، وشاهدا على ما بلغته الحضارة المغربية من ازدهار ورقي، كما أنّ وجود هذه المعلمة التاريخية في الرباط العاصمة الحالية للمملكة المغربية يجسّد تلاحم ماضي هذه الحضارة مع حاضرها ومستقبلها، ويكشف على أرض الواقع المُعَايَنْ هوية هذا البلد، لذلك أدرجت هذه المعلمة في لائحة التراث الوطني في وقت مبكر بواسطة ظهير تحت اسم مسجد حسّان وصومعته (28 يونيو 1924م)، ثم أعيد إدارج الصومعة بشكل مستقل لأهميتها سنة 1936م[26].

لا تقف قيمة موضع حسّان التاريخي عند حدود المغرب الحالية، بل تتعداها إلى ما بعد البحر، حيث تذكّر هندستها وزخارفها المعمارية بتوأمتها “الخيرالدا” الأندلسية، محافظة على أرشيف الوصل الحضاري الذي ربط بين ضفتي المتوسط لقرون عديدة.

المراجع
[1] ليلى أحمد نجار، المغرب والأندلس في عهد المنصور الموحدي (دراسة تاريخية وحضارية)، رسالة دكتوراة مرقونة، جامعة أم القرى مكة المكرّمة، 1409ه/1989، ج2، ص، 561.
[2] عبد الله كنون الحسني، النبوغ المغربي في الأدب العربي، 1-3، دار الكتب العلمية، 2015، ص، 163.
[3] عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تقديم وتحقيق محمد زيهم محمد عزب، دار الفرجاني للنشر والتوزيع، 1994، ص، 222.
[4] رحلة ابن بطوطة: تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق محمد عبد المنعم العريان، مراجعة مصطفى القصّاص، دار إحياء العلوم، بيروت، 1987، ص، 387.
[5] عبد العزيز توري، معلمة،مادة حسّان (الجامع)، ص، 3409.
[6] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج1، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2000، ص، 344.
[7] عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص، 222.
[8] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج1، ص، 343 و344.
[9] حسن الوزان، وصف إفريقيا، ج1، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت، 1983، ص، 202.
[10] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج1، ص، 343.
[11] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ج1، ص، 344.
[12] علي بن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1972، ص، 229.
[13] عبد العزيز توري، معلمة، حسّان (الصومعة) ص، 3410.
[14] سحر السيد عبد العزيز سالم، مدينة الرباط في التاريخ الإسلامي (منذ إنشائها حتى نهاية صر بني مرين)، ص، 143.
[15] محمد القبلي،تاريخ المغرب تحيين وتركيب، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط، 2011، ص، 273.
[16] حسن الوزان، وصف إفريقيا، ج1، ص، 202.
[17] باسيليو بابون مالدونادو، عمارة المساجد في الأندلس طليطلة وإشبيلية، ترجمة علي إبراهيم منوفي، دار كلم، أبو ذبي الطبعة الأولى، 2011، ص، 225.
[18] ليلى أحمد نجار، المغرب والأندلس في عهد المنصور الموحدي (دراسة تاريخية وحضارية)، ج2، ص، 561.
[19] عبد العزيز توري، معلمة، مادة حسّان (الصومعة)، ص، 3411.
[20] عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص، 222.
[21] سحر السيد عبد العزيز سالم، مدينة الرباط في التاريخ الإسلامي، ص، 144.
[22] حسن الوزان، وصف إفريقيا، ج1، ص، 202.
[23] باسيليو بابون مالدونادو، عمارة المساجد في الأندلس طليطلة وإشبيلية، ص، 224.
[24] باسيليو بابون مالدونادو، عمارة المساجد في الأندلس طليطلة وإشبيلية، ص، 238.
[25] عبد المالك بن صاحب الصلاة، المن بالإمامة (تاريخ بلاد المغرب والأندلس في عهد الموحدين)، تحقيق عبد الهادي التازي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1987، ص، 392.
[26] موقع وزارة الشباب والثقافة والتواصل – المملكة المغربية: https://tinyurl.com/33nxmjsb  (تاريخ الاطلاع: 19/02/2025).