المحتويات
مقدمة
تعد الوليدية من المدن الساحلية المميزة، إذ أسهم الموقع الجغرافي للمدينة في توجيه مسار تشكلها وتحديد وظائفها عبر الزمن. فمن قصبة أنشئت في سياق دفاعي ساحلي، إلى مدينة صارت اليوم وجهة سياحية معروفة، مما يبين لنا أن تاريخ الوليدية قد شهد تحولات متعددة ارتبطت بالأوضاع السياسية والاقتصادية.
وسنحاول من خلال هذا المقال قراءة بعض ملامح هذا التحول، من خلال الوقوف عند دلالة الموقع، وظروف نشأة القصبة، ثم انتقالها من وظيفة عسكرية إلى رمز سياحي، مع محاولة لفهم واقع المدينة في السياق الحالي.
مدينة الوليدية ودلالة الموقع
تقع مدينة الوليدية على الساحل الأطلسي للمغرب، بين مدينتي الجديدة وآسفي، ضمن جهة الدار البيضاء -سطات، حيث تنتمي إداريا إلى إقليم سيدي بنور. كما تجاور المدينة بحيرة ولجة الوليدية التي تمتد بمحاذاة الساحل، حيث تشكل مجالا مائيا شبه محمي متصلا بالمحيط الأطلسي.
وقد منح هذا الموقع الطبيعي مدينة الوليدية خصوصية واضحة، إذ جمع بين هدوء البحيرة وانفتاح البحر، وهو ما وفر شروطا ملائمة للاستقرار البشري، ولأنشطة اقتصادية مرتبطة بالصيد والسياحة. كما أسهمت هذه البحيرة المحاطة بشواطئ رملية وتلال منخفضة؛ في جعل الوليدية نقطة تلاق بين البحر والبر، وهو ما أكسبها خصائص طبيعية مميزة مقارنة بباقي المدن الساحلية المغربية.
وترجع أهمية هذا الموقع أيضا إلى تنوعه الحيوي، إذ يشكل جزءا من مركب سيدي موسى-الوليدية للأراضي الرطبة على الساحل الأطلسي، وهو مجال طبيعي يمتد على مسافة واسعة وتفصله عن البحر كثبان رملية. ويضم بحيرات ومناطق رطبة تؤوي عددا مهما من الطيور المائية والأنواع النادرة. كما يوفر هذا المجال موارد حيوية للسكان المحليين، من مياه ودعم للأنشطة الفلاحية والبحرية، إلى جانب الصيد وتربية المحار. وبذلك لا تقتصر دلالة موقع الوليدية على بعده الجغرافي، بل تتجلى في كونه مجالا مولدا للوظيفة، أسهم في توجيه تشكل المدينة بين منطق الحماية ومنطق الاستغلال.[1]
قصبة الوليدية.. ظروف النشاة وسياق التأسيس
ارتبطت نشأة قصبة الوليدية بسياق تاريخي اتسم باهتمام الدولة السعدية بتأمين السواحل المغربية ومراقبة المراسي البحرية، خصوصا بساحل دكالة الذي عرف تحركات بحرية متكررة وتنافسا أوروبيا متزايدا.
ويصف الكانوني موقع القصبة قائلا: “موقعها على شاطئ البحر على مقربة من أيير وهي مربعة الشكل على أطراف سورها المتلاشي أبراج”.[2] وهنا يتبين لنا ارتباط القصبة المباشر بالمجال البحري، ويظهر لنا كذلك طابعها التحصيني الواضح، مما يفسر أن اختيار موقع الوليدية لبنائها لم يكن اعتباطيا، بل جاء نتيجة لما يوفره المكان من شروط طبيعية ملائمة لإقامة منشأة دفاعية ساحلية، قادرة على الجمع بين المراقبة والتحكم في المرسى. يقول محمد الكانوني: “وقد كان هذا المرسى مفتوحًا في الدولة السعدية، ونُسبت للوليد لكونه والله أعلم بناها على الصفة الموجودة، وإلا فهي أقدم من ذلك فقد نقل الزياني نفسه عن العلامة القسنطيني صاحب “أنس الفقير” أنه دخل في سياحتة قصبة الوليدية سنة 763هـ”.[3]
فالكانوني هنا يؤكد على الوليد بن زيدان السعدي، هو من أعاد تشييد القصبة أو تثبيت بنيتها في صورتها المعروفة، كما يؤكد ذلك أبو القاسم الزياني في “الترجمان المعرب”: “إن الوليد بن زيدان السعدي هو الذي بناها بساحل دكالة على البحر، ومرساها من أحسن المراسي كالصندوق”.[4]
وهذا الكلام يشير إلى أن نسبتها إلى الوليد جاءت لكونه بناها على الصفة الموجودة، مع احتمال قدمها زمنيا قبل ذلك، وهو ما يدل على أن المكان عرف أكثر من مرحلة في البناء والتشكل، ولم ينشأ في زمن واحد.
وهكذا يمكن القول بأن تأسيس قصبة الوليدية جاء استجابة لحاجة الدولة إلى تثبيت حضورها على الساحل، وليس كمشروع عمراني لمدينة متكاملة. وهذا ما يفسر بقاء القصبة منشأة وظيفية مرتبطة بالدفاع والمراقبة، سابقة على تشكل المدينة الحديثة، ودون أن تتحول إلى نواة عمرانية مستقلة.
الوليدية بين الاحتلال البرتغالي والعهد السعدي
لفهم قصبة الوليدية ضمن سياقها التاريخي الحقيقي، لا يكفي الاقتصار على لحظة بنائها في العهد السعدي، بل ينبغي الرجوع إلى ما قبل ذلك، واستحضار التحولات السياسية والعمرانية التي عرفها الساحل المغربي خلال الفترات السابقة. فقد كان هذا المجال، بحكم موقعه الاستراتيجي، عرضة لتدخلات خارجية، ومرت به مراحل من الاحتلال والخراب، قبل أن يعاد إدماجه ضمن المجال السيادي للدولة السعدية.
وفي هذا السياق، يشير الكانوني إلى مراحل مختلفة عرفتها قصبة الوليدية، إذ يربط بين فترة الاحتلال البرتغالي وما تلاها من تدخل الدولة السعدية في إعادة بناء القصبة وتنظيم محيطها. إذ يقول: “وقد شملها احتلال البرتغال ولعله لما انجلى عنها خربت فبناها الوليد. ويؤيد ذلك وجود أثر سور قديم بأحد جهات القصبة من خارج يسكنها قوم من دكالة من بينهم عائلة سملالية من سوس الأقصى درج فيهم علماء ووجهاء ولازال أعقابهم بها. ولعل سلفهم نزلوها في الدولة السعدية النابغة من سوس فكان أصلهم من سوس دخلوا معهم متجندين ومتطوعين وكان الذي يتولى إدارة أحكامها من مراكش يستنيبه بشاها، ولا تزال أطلال داره موجودة بها وبخارجها زاوية الفقيه الصالح الرحالة سيدي عبد السلام الغواص اليمني.
كان بكل من الزاوية والقصبة مدرسة ومسجد حازتا شهرة وينبع منها عدة علماء لكن تدهور ذلك الآن تدهورًا كليًا والبقاء لله سبحانه”.[5]
وهكذا نلاحظ أن القصبة قد عرفت تحولات مرتبطة بتغير الأوضاع على الساحل المغربي، بداية من فترة الاحتلال البرتغالي وما رافقها من خراب، إلى مرحلة إعادة البناء في العهد السعدي. ويظهر من خلال ذلك أن تدخل الدولة السعدية لم يقتصر على التحصين العسكري، بل شمل أيضا إعادة تنظيم المجال والاستقرار البشري في محيط القصبة. حيث أن القصبة لم تكن فضاء دفاعيا فقط، بل عرفت حضورا علميا ودينيا، من خلال الزاوية والمدرسة والمسجد، وهو ما يساعد على فهم تعدد وظائف المكان وتطور دلالته عبر الزمن.
قصبة الوليدية.. من فضاء عسكري إلى رمز سياحي
عرفت قصبة الوليدية، بعد مرحلة تأسيسها المرتبطة بالسياق الدفاعي الساحلي، مسارا من التراجع الوظيفي نتيجة التحولات السياسية والعسكرية التي شهدها الساحل المغربي. فبانحسار الأخطار البحرية المباشرة وتغير أولويات الدولة، فقدت القصبة تدريجيا دورها العسكري، ودخلت مرحلة من الإهمال والخراب. وهذا ما يشير الكانوني بوضوح، حيث أنه ربط بين الاحتلال البرتغالي وانتهاء الوظيفة الدفاعية للقصبة، إذ يقول: “وقد شملها احتلال البرتغال ولعله لما انجلى عنها خربت فبناها الوليد …”. إلى أن قال: “كان بكل من الزاوية والقصبة مدرسة ومسجد حازتا شهرة وينبع منها عدة علماء لكن تدهور ذلك الآن تدهورًا كليًا والبقاء لله سبحانه”.[6]
ويفهم من هذا الكلام أن القصبة لم تعد تؤدي الدور الذي أنشئت من أجله، وأن وجودها العسكري انقطع قبل تشكل المدينة الحديثة، لتتحول إلى أثر قائم أكثر منه منشأة حية.
فبعد تراجع الدور العسكري للقصبة، تغيرت طريقة النظر إليها؛ فلم تعد تؤدي وظيفة دفاعية مباشرة، بل صارت جزءا من ذاكرة المكان وعنصرا رمزيا في صورة الوليدية السياحية. إذ إن موقعها المطل على البحيرة والمحيط، وحضورها في الوعي المحلي، جعلا منها نقطة جذب للزوار، رغم محدودية أعمال الترميم والتثمين.
الوليدية اليوم.. ازدهار موسمي وركود ممتد
تعرف الوليدية نموا سكانيا متدرجا، إذ بلغ عدد سكان مركزها الحضري 7770 نسمة سنة 2014. في حين تفيد المؤشرات المرتبطة بآخر إحصاء عام للسكان والسكنى سنة 2024 بارتفاع هذا العدد خلال العقد الأخير إلى نحو 9789 نسمة. وهو ما يظهر زيادة معتدلة في عدد السكان القارين مقارنة بحجم الضغط الموسمي والحضور البشري الكبير الذي تعرفه المدينة خلال فصل الصيف.
ويقوم الاقتصاد المحلي للوليدية بشكل أساسي على استثمار مؤهلاتها الطبيعية، وفي مقدمتها بحيرة الوليدية التي تعد جزءا من المركب البحيري لسيدي موسى-الوليدية على الساحل الأطلسي المغربي. فإلى جانب السياحة الشاطئية وخدمات الإيواء والمطاعم، يشكل الصيد البحري وتربية المحار نشاطين رئيسيين، إذ يضم الموقع سبع مزارع للمحار. ويرتبط هذا النشاط بالغنى البيولوجي للبحيرة، المتأثر بظاهرة الارتداد المائي التي تسهم في وفرة الموارد السمكية، فضلا عن إحاطة المجال البحيري بمناطق فلاحية مخصصة لزراعة الخضر، توفر بدورها موردا إضافيا للدخل المحلي.[7]
غير أن هذا الاقتصاد يرتبط بإيقاع موسمي غير متوازن؛ فالمدينة تبلغ ذروة نشاطها خلال فصل الصيف بفعل توافد الزوار وارتفاع الطلب على الإيواء والخدمات. بينما تعرف خارج هذا الموسم فتورا واضحا ينعكس على التجارة الصغيرة والعمل المؤقت، فلا يبقى من الحركة سوى ما يرتبط بالنشاط البحري وبالزيارات الهادئة التي تستثمر القيمة الطبيعية للبحيرة.
فهذا النسق الاقتصادي يظل محكوما بإيقاع موسمي غير متوازن؛ إذ أن المدينة تبلغ ذروة نشاطها خلال فصل الصيف. حيث ترتفع وتيرة الاستهلاك وتنتعش التجارة والخدمات، في حين تعرف خارج هذا الموسم ركودا واضحا ينعكس على فرص الشغل والنشاط التجاري الصغير. فلا يبقى من الحركة الاقتصادية خلال هذه الفترة سوى ما يرتبط بالنشاط البحري وبعض الزيارات المحدودة التي تستثمر القيمة الطبيعية للبحيرة.
خاتمة
يظهر لنا من خلال هذا العرض،أن مدينة الوليدية قد تشكلت بناء على تفاعل مستمر بين الموقع الطبيعي والتحولات التاريخية. إذ لعبت القصبة دورا وظيفيا في مرحلة معينة، قبل أن تفقد وظيفتها العسكرية وتتحول إلى عنصر رمزي في المشهد السياحي للمدينة. إلا أن هذا التحول جعل ازدهار الوليدية محصورا في فترة محدودة من السنة، وهي فترة الصيف. وهذا الأمر يجعلنا ندعو إلى التفكير في تثمين مستدام للموقع ولموروثه وتراثه التاريخي والطبيعي، بما يحقق توازنا بين حماية المجال، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وضمان استمرارية الحياة بالمدينة خارج الموسم السياحي.
المراجع
[1] راجع الرابط: https://rsis.ramsar.org/ris/1474.[2] محمد بن أحمد العبدي الكانوني، آسفى وما إليه قديما وحديثا، ص41.
[3] الكانوني، آسفى وما إليه قديما وحديثا، المصدر نفسه، ص41.
[4] الكانوني، آسفى وما إليه قديما وحديثا، المصدر نفسه، ص41.
[5] الكانوني، آسفى وما إليه قديما وحديثا، المصدر نفسه، ص41.
[6] الكانوني، آسفى وما إليه قديما وحديثا، المصدر نفسه، ص41.
[7] راجع: Maanan, M.; Ruiz-Fernandez, A.C.; Fattal, P.; Zourarah, B.; Sahabi, M.
A long-term record of land use change impacts on sediments in the Oualidia Lagoon, Morocco.
International Journal of Sediment Research, 2014, Vol. 29, pp. 1–10.