توطئة

يُعتَبَرُ الشيخ محمد بوخبزة رحمه الله مِن أشهر علماء الدّين بمدينة تطوان وشمال المغرب ككّل، ذاع صيتُه في الأوساط السّلفية العلمية حتى صار من أعلامها على الصعيدين العربي والإسلامي باعتباره امتدادا فكريا للمدرسة السلفية المعاصرة. فهو الذي تتَلمذ على شيوخها الكبار: شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، الدكتور تقي الدين الهلالي، المحدث ناصر الدين الألباني، فاحتَلّ بذلكَ الشيخُ بوخبزة مكانةً مرموقة لدى رموز وأتباع التيار السلفي في المغرب وخارجه، وتَعاظمت مكانته الدّينية بفعل علاقة المشيخة العلمية التي ربطته بالعديد من العلماء والدعاة السلفيين المشهورين في الحقل الديني العربي والوطني، نذكرمن أبرزهم: المحدث المصري أبو إسحاق الحويني (تــ 2025) والداعية السعودي عبد الرحمن العريفي والشيخان عمر الحدوشي وحسن الكتاني وغيرهم.

محاضن التربية وتَلَقي العلوم الشرعية

وُلد الشيخ محمد بوخبزة المعروف بين طلبته وخاصة السلفيين منهم بأبي أويسٍ سنة 1932م بتطوان، فتلقى أصول التربية والأدب والدين من محيطه الأسري والعائلي. فيما أخَذَ عن معاصريه تخصصه العلمي في تحقيق المخطوطات التراثية في العلوم الشرعية والأدب مع دراية واسعة بعلم الحديث النبوي الشريف الذي تلقّى أساسياته على يد الحافظ أحمد بن الصديق، بينما بَزَغ نجمه في علم التحقيق (الكودْيُكولوجيا) لما راكمه مِن خبرة كبيرة في تجربته المهنية السابقة في التوثيق والاطلاع التاريخي إبّان عمله موظّفا في الخزانة العامة والمحفوظات بتطوان، وهو الأمر الذي أهّله ليكون من الخبراء المعتمَدِين لدى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) في مجال تحقيق المخطوطات الإسلامية، إذ سبق للشيخ الراحل أن عمِل لصالح هذه المنظمة الدّولية الإسلامية على مراجعة واستِدراك الجزء الثاني من مشروعها في جمع تفاسير القرآن الكريم الموسوم “بمعجم تفاسير القرآن” الذي ضَمّ مائة من التفاسير المتنوعة عبر التاريخ الإسلامي، وقد نشر الشيخ بوخبزة هذه الاستدراكات في كتاب عنونه بــ”نقد معجم تفاسير القرآن الكريم”[1].

حَياةٌ من أجل التأليف والتّصنيف

أفْنى العلّامة محمد بوخبزة الحسني عمْرَه في تأليف الكُتب وتحقيق المخطوطات وتقييد الرسائل ومراجعة أعلاق الأدب العربي والمغربي، ووظَّف ما حَصّله من علوم متنوّعة في خِدمة المكتبة العربية والإسلامية بنفائس المصادر والمراجع، فألّفَ أزيد مِن ثلاثينَ كتاباً، معظمها غير منشور، ما يزالُ مخطوطاً بخطه الجميل في خزانته العامرة ينتظر همّة الباحثين وجِدية المؤسسات العلمية والشرعية لنفْض الغُبار عنها وتقديمها للنشر.

ونذكر من تلكم المؤلّفات الغنية: “جراب الأديب السائح” وهي من صِنْف المذكّرات الشخصية –”الشذرات الذهبية في السيرة النبوية”–”صحيفة سوابق وجريدة بوائق” خَصّه للردّ على شيخه الأسبق العلّامة أحمد بن الصدّيق الغُماري –”فتح العلي القدير في التفسير” جَعله في تفسير بعض صور القرآن الكريم –”نظرات في تاريخ المذاهب الإسلامية” – “ملامح من تاريخ علم الحديث بالمغرب”–”نَشر الإعلام بمروق الكُرْفْطِي من الإسلام” – “الأدلّة المحررة على تحريم الصّلاة في المقبرة” – “أربعون حديثا نبوية في النهي عن الصلاة على القبور واتخادها مساجد وبطلان الصلاة فيها” – “نقل النديم وسلوان الكظيم” – “رونق القرطاس ومجلب الإيناس” – “تحصين الجوانح مِن سموم السوائح” جعَله الشيخ عبارة عن تعليقات على رسائلة “السوائح” للشيخ عبد العزيز بن الصديق – “إبراز الشناعة المتجلية في المساعي الحميدة في استنباط مشروعية الذكر جماعة” – “ديوان الخطَب” – “النقد النزيه لكتاب تراث المغاربة في الحديث وعلومه” –”الجواب المفيد للسائل والمستفيد” أصدَره بالاشتراكَ مع الشيخ أحمد بن الصديق – “تعليقات وتعقيبات على الأمالي المستظرفة على الرسالة المستطرفة للشيخ ابن الصديق الغماري” –”رحلاتي الحجازية” ويندرج في صِنف أدب الرحلة العُلمائية في المغرب – “إيثار الكرام بحواشي بلوغ المرام” – “التوضيحات لما في البُردة والهمزية من مخالفات” – “الاحتلال الإسباني والهوية المغربية”[2] وهذا المؤلّفَ الوحيد الذي نُشِر للشيخ عقِبَ وفاته رحمه الله.

تكْشِف هذه القائمة من عناوين الكتب التي ألّفها الشيخ محمد بوخبزة عن طبيعة القضايا التي استأثرت باهتمام الرجل في حياته، والتي خاض مِن أجلها معارك فكرية حامية الوطيس مع التوجه الصوفي ورموزه وممارساته، وقد بلغ صدى الخلاف الحاد بين الشيخ بوخبزة والشيوخ الصديقيين بطنجة إلى جلسات المحاكم.

ولما كانت هذه القائمة في أغلبها ما تزال عبارة عن مخطوطات وأخرى مرقونة؛ فقد كَشفت أسرة الشيخ في بيان للرأي العام[3] بعد وفاته أنها ستَعمل على إخراج وطبْع مؤلّفاته الأدبية ومجموعاته، أساساً “جراب الأديب السائح”، و”نُقل النديم”، و”سَقِيط اللآل”، و”رونق القرطاس”، و”عجوة وحشف”، فضلا عن عيون مراسلات وهو ديوان شعره، ومجموع خُطَبه وغيرها مِن منوّعاته. ويأتي توجّه أسرة الشيخ الراحل في طبعه تراثَه الأدبي والعلمي وتجنّب طبع ردوده على أصهاره الصديقيين تنفيذا لوصيته رحمه الله التي ورَدت بيان الأسرة بأنْ “يُنظر في تلك الأوضاع والمنشآت، ويُنتقى منها ما يُتَأَكدّ خيره ونفعه، ويُتبصَّر في إخراجها، ويُتغيا الفائدة المرجوّة، والحسنة المتلوّة”.

فارس المنابر.. وعْظا وتدريساً وإرشاداً

علاوة على غزارة إنتاجه المكتوب تأليفا وتحقيقا وردودا، ظلّ الشيخ محمد بوخبزة على كِبَر سنّه يُدرس العلوم الشرعية في معهد الإمام الشاطبي بتطوان، ويَستضيف جلسات ومنتديات علمية في بيته بحي سيدي طلحة الشّعبي الذي كان قِبلة للباحثين والمهتمين في مجال المخطوطات والتاريخ المغربي وبالأخص من طلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، بحيث كانت خزانة الشيخ محمد بوخبزة ملاذا لهم في الاطلاع والتعرف على المخطوطات النادرة، ورغم ذلك لم تلتفت هذه الكلية العريقة بأّي مبادرة لتكريم الرجل سواء في حياته أو بَعد موته.

أما خُطبه ودروسه في مساجد حَي العيون وسيدي طلحة فقد أجاد فيها وأفاد المجتمع بمختلف تلاوينه، وكانت دروسه مَحَجّ عدد هائل من الباحثين والطلبة والسلفيين والـحَرَكيين، تُثير قضايا الشريعة وهي تُجيب على أسئلة الناس. وظَلّ في منبره إلى أن عُزِلَ من قِبَل الجهات الرسمية، ثُمّ كان أنْ صَدَر في أبريل من سنة 2019 قرار شفوي من السلطة يقضي بمنْع زوّار الشيخ من المغاربة والأجانب من زيارته في بيته بعد تصريحاته الإعلامية للموقع الإلكتروني المحلي “بريس تطوان” التي انتقَد فيها بشِدّة وزيرَ الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق وسياسة الدولة في ضبط الشأن الديني.

في مُعتَرك المجال العام وضريبة المواقف

كان الشيخ العلّامة بوخبزة كغيره مِن معظم العلماء المغاربة التقليديين المستقلّين عن الحركات الإسلامية، يتبنّى موقفا سلبيا مِن الحياة الحزبية والمشاركة السياسية. تجلى ذلك في إحجامه الكبير عن إبداء المواقف إزاء القضايا الوطنية والدّولية، وحتى في الحالات النادرة التي كان يبدي فيها بمواقف سياسية عامة، فكانت مواقف أقرب إلى الفتوى الدّينية منها للرأي السياسي.

وفي هذ السياق نَذكر موقفه المعارض لحديث أعضاء جماعة العدل والإحسان عمّا عُرف إعلاميا وقتئذ بـ”رؤيا 2006″، وقد استَند أتباع التّيار السّلفي على موقفه الفقهي هذا في الترويج لأشرطة ضد الجماعة وتصَوّرها التربوي والسياسي في مدن المغرب، وبالأخص في شمال البلاد.

وقبل ذلك بخمس سنوات، أي في سنة 2001م كان الشيخ بوخبزة مِن العلماء والخطباء الموقِّعين على الفتوى المحرِّمة لانخراط المغرب في الحرب الأمريكية على “الإرهاب”،وقد ضمّت لائحة الموقعين على هذه الفتوى الشهيرة توقيعات علماء ودعاة منهم: إدريس الكتاني، عبد الله التليدي، حسن الكتاني، عمر الحدوشي وغيرهم، وعلى إثْر رفض الشيخ بوخبزة التراجع عن هذه الفتوى في مواجهة الضّغوط  القوية للسلطة، تَـمّ توقيفه مِن الخطابة والوعظ. وفي هذا المضمار علّق رحمه الله عن هذه الواقعة في تصريح نُشِر على قناة باسمه في اليوتيوب: “البيان الذي نُشر في الصحف أقام شوشرة، وبدؤوا يترصّدون الموقِّعين ويُرهبُونهم ويُلزمونهم بالتراجع عنه، حيث هددونا، وحين رفضتُ عدم التراجع عزلوني من الخطابة، بعدها جاء المجلس العلمي وقال إنني لا ألتزم
بخطوطهم، وأُرسل إليَّ قرار الإعفاء عبر ناظر وزارة الأوقاف الذي كان برفقته رجل أمن، وجاء في القرار المكتوب (أنت موقوف من كل نشاط ديني)”.

وقد كان لتوقيع الشيخ بوخبزة على هذه الفتوى السّياسية المعارِضة لتوجّهات السياسة الخارجية للدولة المغربية بعد أحداث 11 شتنبر 2001 بمثابة النّقطة التي أفاضت الكأس في علاقته بالسلطة، التي وظّفت قضية الفتوى لتوقيف خطيب وعالم مزعِج حظيَ بشعبية كبيرة تراكمَت طيلةخمسة عقود بين خطبته للجمعة في مسجد العيون بالمدينة القديمة ودروسه للوعظ والإفتاء فيما بين العشاءين بمسجد سيدي طلحة قرب مقر سكناه بتطوان، خاصة  أنّ الشيخ كان على خِلاف مستمِر مع المجلس العلمي المحلي حول حدود الامتثال والتّأويل والاجتهاد في التعامل مع الثلاثية الإيديولوجية الضّابطة للشأن الديني المغربي المتمثلة في: العقيدة الأشعرية، المذهب المالكي والتّصوف.

يَرى الشيخ بوخبزة باعتباره عالمَ دين أن له الحقّ في الاحتفاظ بقراءة شخصية لهذه الثلاثية الناظمة للخطاب الديني المغربي؛ قد لا تتفق بالضرورة مع أسُس المقاربة الرسمية في تحديدها وتأويلها.[4] ففي ما يخصّ الموقف مِن الصوفية على سبيل الذكر؛ اعتبر الشيخ المعروف بنزعته السلفية بأن التصوف “هو المسؤول الأول عن تأخّر المسلمين وقعودِهم عن اللّحاق بركْب الحضارة السليمة الصالحة، والتقدم العلمي، الذي لا حياة كريمة بدونه. بما بَثّه ويَبُثُّه في النفوس والعقول مِن الخنوع والخضوع والخمول والذّل، وإلغاء وظيفة العقل”[5]. وضمن هذا السياق أوصى طلبَته بتجاوز التّراث الصوفي في علاقتهم مع الشيوخ فدعاهم إلى “الاعتدال وعدمَ الغلُو، فإذا عَلم الطالب أنّ شيخَه وغيره من العلماء غيرُ معصومين، وأنه يُتوقع منهم الخطأُ والجهلُ والنسيان، وربما تَبدُر منهم بوادرُ لا يجوز السكوتُ عنها، ففي هذه الحالة يَجب الجهرُ بالحق والتّنبيهُ على الخطأ، مع مراعاة الحمد والأدب، أما إذا كان الطّالبُ يَنظر إلى شيخه نظرةَ تقديس، وأنه فوق النقد اللاّزم، فهذا قد اختار الضلال ونالتْه لوثة صوفية”[6].

لم تنته المعاناة السياسية للشيخ محمد بوخبزة مع السلطة بمدينة تطوان على الرغم من توقيفه عن الخطابة والوعظ والإفتاء بمساجد المدينة؛ إلاَّ أنّ الشيخَ المحدّثَ الذي عاشَ صَلْباً بمبادئه[7] ومواقفه وقيَمه في وجه مضايقات الإدارة الدينية الرسمية، تمكّن من إنفاذ إشعاع الفكر السلفي التقليدي المهتم بتحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية في معهد الإمام الشاطبي، وتَمكين شخصيته العلمية من حظوة ومكانة فقهية مرجعية لدى فئات كبيرة مِن أتباع التيار السلفي والحركي بشمال المغرب، وبالأخص المنتمين منهم لحركة التوحيد والإصلاح؛ وقد ازدادت هذه العلاقة وثوقا بوجود تقارب إيديولوجي ذي طابع سلفي بين الشيخ والحركة وفق خصوصيات المدرسة السّلفية الوطنية، كما تدعّمت هذه الرابطة الفكرية على المستوى الاجتماعي برابطة العمومة التي تجمع الشيخ الراحل بقياديين مؤسسين لحركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية بتطوان وهما الأمين بن مُصطفى بوخبزة (تــ 2024) وأحمد بوخبزة.

وفاته

أدْرَكتِ المنية الشيخ بوخبزة صبيحة يوم الخميس 30 يناير2020 بمصحة النخيل في مدينة تطوان، فأُجِلَت جنازته إلى يوم الجمعة، مُشكّلَةً حدثا عاما بامتياز على المستوى المحلي والوطني، فكان تشييعه إلى مثواه حاشداً بمشاركة شعبية كبيرة، في رسالة واضحة عن مكانة العلماء في وجدان المجتمع المغربي، كما أبرزت هذه الجنازة على المستوى السوسيولوجي ثلاثة أصناف مِن تلاميذ الشيخ وكل ّصنف يبرز خاصية مِن خصائص الرجل، فحضر تلامذته الأكاديميون المشتغلون بعلم تحقيق المخطوطات الذي يُكْبِرون فيه شخصية” المحقّق”، وكذا الفقهاء والخطباء الذين دَرَسوا على يديه في معهد الشاطبي للعلوم الشرعية الذين يجلُّون فيه شخصية “الفقيه المفتي”، والسلفيون الذين كانوا من محبيه ومستفتيه بالزيارة والفايسبوك واليوتيوب والذين يَرون فيه بقية السلف الصالح المنافِح عن “التوحيد” و”السنة”، وبين كل هذه الأصناف والتقدير لشخصية الفقيد رحمه الله، يَظل الشيخ بوخبزة في أعين المجتمع التطواني من فقهاء الوطن البارزين الذي تركوا أثرا قويا في تاريخه المعاصر، بتواضعه ومخالطته للنّاس، وبأسلوبه العفوي الممتزج بروح الدّعابة في دروسه الفقهية الشهيرة بمسجد حي سيدي طلحة. فرحمه لله وأكرم مثواه.

المراجع
[1] انظر: (بوخبزة) محمد الحسني: "نقد مُعجَم تفاسير القرآن الكريم"، منشورات مكتبة الصحابة، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة الطبعة الأولى 2009.
[2] انظر: (بوخبزة) محمد: "الاحتلال الإسباني والهوية المغربية"، منشورات مركز اليقين للدراسات، الطبعة الأولى، فبراير 2020.
[3] بيان أسرة الشيخ بوخبزة، منشور بموقع العمق المغربي بتاريخ 03 فبراير2020.
[4] انظر: تصريح الشيخ محمد بوخبزة حول دواعي توقيفه مِن خطبة الجمعة في قناة باسمه على اليوتيوب.
[5] انظر: حوار مع الشيخ محمد بوخبزة على موقع الشبكة الإسلامية www.islamweb.net.
[6] انظر: (التاطو) محمد عادل: مقال بعنوان "محمد بوخبزة؛ سيرة عالِم"، منشور بالجريدة الإلكترونية العمق المغربي.
[7] (بن صالح) عدنان: "النبوغ المغربي استِكشافا واسْتِئنافا"، منشورات جُسور للخدمات الإعلامية والإنتاج، الرباط، الطبعة الأولى 2024، ص: 306