المحتويات
مقدمة
يعتبر أبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان الروداني السوسي، أحد أعلام العلم الكبار في مغرب القرن 17م/11ه، وهو من العلماء القلائل الذين جمعوا بين تخصصات علمية متعددة، فهو العلامة الفقيه والفلكي البارع والحكيم المتمكن. لقد كان حسب صاحب “النبوغ المغربي” العلامة عبد الله كنون “فرد الدنيا في العلوم، المالك للمجهول منها والمعلوم وكانت له يد صناع في كثير من الحرف والصنائع، كالطرز العجيب والتسفير والخرازة والصياغة وجبر قوارير الزجاج المكسرة وعمل الأسطرلاب، وابتداع آلة نافعة في علم التوقيت والهيئة لم يُسبق إليها”[1]. فالروداني إذن فلتة من فلتات زمانه، جمع مواهب عدة لم تجتمع لغيره في كثير من العلوم والصنائع والإختراعات. فقد أجمع كل من ترجم له أن ذهنه لم يكن عاديا، وأن أعماله العلمية ليست كأعمال معاصريه، فهو على خلاف عادة العلماء، لم يبرع ويتضلع في علم واحد، بل كان متمكنا من كل علم عرفه تمكُّنَ من لم يعرف غيرهن وهذا حاله مع علوم القرآن والحديث والفقه، وعلوم اللغة وقواعدها، وعلم الرياضيات والفزياء والفلك.[2]
المولد والنشأة
ولد محمد بن سليمان الروداني عام 1037ه/1627م بمدينة تارودانت وسط المغرب، وبالمدينة ذاتها نشأ وترعرع وتعلم. فكان من حظه أن تتلمذ آنئذ بمدينة تارودانت (المحمدية) العاصمة العلمية لسوس. وبعد تارودانت انتقل الروداني إلى منطقة درعة لمتابعة دراسته بالزاوية الناصرية، ثم بعد ذلك بالزاوية الدلائية بالأطلس المتوسط. كما درس بمدن سجلماسة ومراكش وفاس وذلك قبل الإنتقال إلى المشرق. وقد تتلمذ على يد عدد كبير من الشيوخ المغاربة كمفتي وقاضي قضاة مراكش أبو مهدي عيسى السكتاني، ومحمد بن سعيد المرغيتي، ومحمد بن أبي بكر الدلائي (محمد المرابط)، ومحمد بن ناصر الدرعي. وفي طريقه إلى المشرق أخذ العلم عن عدد من العلماء كسعيد بن إبراهيم قدورة بالمغرب الوسط، وعلي عدد من مشايخ مصر والشام كنور الدين الأجهوري والشهاب الخفاجي، والشهاب القيلوبي، ومحمد بن أحمد الشوبري، والشيخ سلطان بن أحمد المزاحي، وخير الدين الرملي، ومحمد النقيب بن حمزة الحسني، ومحمد بن بدر الدين ابن بلبان الحنبلي، وقد أجازوه جميعا إجازات عامة وخاصة.
وللروداني أيضا تلامذة عديدون سواء في المغرب أو المشرق نذكر منهم: محمد بن أبي بكر الشلي، ومحمد بن عبد الرحمن الفاسي، والشيخ أحمد بن أبي بكر بن شيخان باعلوي، وأحمد بن تاج الدين الدمشقي، ومفتي مكة المكرمة الشيخ إمام الدين بن احمد المرشدي العمري الحنفي، وتلميذه عبد الله بن سالم البصري.[3]
نبوغه العلمي
نبغ الروداني أكثر ما نبغ في العلوم الحقة (المعقولات)، حيث تمكن من الإطلاع على ما تُرجم من كتب الإغريق، والعلماء المسلمون، وهو ما أكده أحد تلامذته الدمشقيين عبد القادر بن عبد الهادي بقوله: “وكان- أي الروداني– في الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي، الأستاذ الذي لا تنال مرتبته بالاكتساب، وكان يتقن فنون الرياضة لاقليدس، والهيئة، والمخروطات، والمتوسطات والمجسطي، ويعرف أنواع الحساب والمقابلة والارتماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها”.[4]
وتعود شهرة محمد بن سليمان الروداني أيضا لنبوغه في ميدان الفلك أساسا، فبالإضافة إلى صنعه للأسطرلاب، فقد صنع أيضا أدوات غريبة في عصره، حيث ذكر الرحالة المغربي أبو سالم العياشي -وله معرفة شخصية بالروداني- المهارات الصناعية للروداني بقوله: “وكانت له يد صناع، يحسن غالب الحرف المهمة، سيما الرقيقة العمل الرائقة الصنع، كالطرز العجيب والصياغة المتقنة وتسفير الكتب والخرازة… وله يد طولى في عمل الأسطرلابات وغيرها من الآلات التوقيتية، كالأرباع والدوائر والأنصاف والمكَانات. ومن أعجب ما رأيته من صناعته أنه يجبر قوارير الزجاج المنصدعة بحسن احتيال ولطف تدبير… ومن ألطف ما أبدعه وأدق ما صنعه وأجل ما اخترعه الآلة الجامعة النافعة في علمي التوقيت والهيئة، ولم يسبق إلى مثلها، ولا حاذى أحد على شكلها… وهي التي تغني عن كل آلة تستعمل في فني التوقيت والهيئة…”[5]. وقد ألف الروداني رسالة في كيفية استعمال كرته الفلكية والتي سماها “النافعة على الآلة الجامعة”، وقد اعتنى بتحقيقها الأستاذ بجامعة السوربون شارل بيلا (Charles Pellat) ونشر النص العربي في مجلة الدراسات الشرقية بدمشق (جزء 27، سنة 1973).[6]
وقد دفع هذا النبوغ العلمي عددا من الباحثين إلى مقارنة ذهنية ابن سليمان الروداني واختراعاته بمعاصريه العالمين الأوربيين: الرياضي الفرنسي باسكال مخترع الآلة الحاسبة، والفزيائي الإنجليزي نيوتن مكتشف قانون الجاذبية الرضية،[7] وذلك على الرغم من أن الروداني عاش في عصر كانت فيه هذه العلوم في حالة أفول وتخلف عند المسلمين، فعد بذلك فلتة من فلتات ذلك الزمن.
امتد تمكن الروداني من مختلف علوم عصره إلى ميدان العلوم الشرعية واللغوية، حيث نجده يكاد يكون محيطا بكل ما ألفه المسلمون من تفاسير وصحاح ومسانيد ومجاميع ومدونات وغيرها من الكتب، يرويها عن شيوخ متعددين بأسانيد متصلة بمؤلفيها من طرق كثيرة. وتنطبق نفس القاعدة على مجال علوم اللغة وقواعدها حيث يروي الروداني بالسند المتصل كذلك أمهات المؤلفات في هذا الميدان.[8]
ابن سليمان الروداني.. مفتي الحرمين الشريفين
بعد أداءه لفريضة الحج، أقام ابن سليمان الروداني بالمدينة المنورة سنين طويلة إلى أن اضطر إلى مغادرتها بسبب مكائد خصومه وحساده، فتوجه إلى مكة المكرمة. وقد انتقد الروداني كثيرا المدنيين وعزوفه عنهم، لانحرافهم عن مقتضى الشريعة في سلوكهم ومعاملاتهم. وفي سنة 1081ه/1671م رحل إلى القسطنطينية عاصمة الخلافة العثمانية، فمكث بها في حظوة فائقة سنة كاملة رجع بعدها إلى مكة المكرمة، وقد فوض إليه النظر في أمور الحرمين الشريفين، فنال بذلك نفوذا قويا ما مكنه من الفصل في جميع المسائل الفقهية الخاصة والعامة، حتى صار شريف مكة لا يصدر أمرا إلا عن رأيه.[9] وقد استمر الروداني في منصب مفتي مكة إلى سنة 1093ه/1682م بعد وفاة شريف مكة، وبعد الحكم عليه من الباب العالي بالنفي إلى بيت المقدس والتي امتنع من الذهاب إليها متعللا بانعدام الأمن في الطريق، وذلك قبل أن يضطر إلى مغادرة مكة بدون أسرته في اتجاه دمشق حيث عاش وحيدا لا يخالط الناس إلا قليلا متفرغا للتأليف. وخلال تلك الفترة ألف كتابه المعروف في علم الحديث “جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد”، والذي جمع بين الكتب الخمسة والموطأ على شاكلة “جامع الأصول” لابن الأثير إلا انه أكثر تفصيلا.[10]
وفاته وإرثه العلمي
توفي محمد بن سليمان الروداني بدمشق في 10 ذي القعدة في العام 1094ه/31 أكتوبر 1683 م، ودفن بوصية منه في سفح جبل قاسيون المشرف على مدينة دمشق السورية. وقد ألف الروداني في حياته بالإضافة إلى كتابه المشهور “جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد”، مؤلفات أخرى ك: رسالة “النافعة على الآلة الجامعة”، وكتاب “أوائل الكتب الحديثية، ومختصر التحرير في أصول الحنفية لابن الهمام وشرحه”، “صلة الخلف بموصول السلف”، وله أيضا في النحو “حاشية على التسهيل، وحاشية على التوضيح” وكلاهما لابن مالك، وفي البلاغة “مختصر تلخيص المفتاح” للقزويني وشرحه”، وفي الشعر له “جدول العروض”، وفي التصوف ألف “منظومة في التصوف”. وله أيضا منظومة في الفلك سماها “مقاصد العوالي بقلائد اللآلي” (قلائد اللآلي في عمل الأيام والليالي)، وكتاب “بهجة الطلاب في العمل بالأسطرلاب”، و”تحفة أولي الألباب في العمل بالأسطرلاب”، وكتاب تبصرة الإخوان في الهيئة”، ورسالة في “رسم الأسطرلاب بالهندسة في الهيئة”.[11]
المراجع
[1] كنون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، ج1، ط2، 1960، ص 284.[2] حجي محمد، معلمة المغرب، ج 14، منشوات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2001، ص 4467.
[3] الأخضر محمد، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية، دار الرشاد الحديثة، ط1، 1977، الدار البيضاء، ص 107.
[4] حجي محمد، معلمة المغرب، ج 14، مرجع سابق، ص 4467.
[5] العياشي عبد الله بن محمد، الرحلة العياشية 1661-1663، المجلد الثاني، تحقيق وتديم سعيد الفاضلي وسليمان القرشي، دار السويدي للنشر والتوزيع، ابو ظبي، ط1، 2006، ص 52-53.
[6] حجي محمد، معلمة المغرب، ج 14، مرجع سابق، ص 4468.
[7] حجي محمد، معلمة المغرب، ج 14، مرجع سابق، ص 4468.
[8] ابن سليمان الروداني، صلة الخلف بموصول السلف، تحقيق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1988، بيروت، ص 10.
[9] ابن سليمان الروداني، صلة الخلف بموصول السلف، ص 7./ الأخضر محمد، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية، مرجع سابق، ص 109
[10] محمد بن سليمان الروداني، مجلة "دعوة الحق"، عدد 155.
[11] الأخضر محمد، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية، مرجع سابق، ص 111.