توطئة

دَرَسنا أشعارَه يافعينَ أيامَّ الطَّلبَ بالتعليم الثانوي، وصاحَبَـــتْــنا صُورةُ الرُّجل الذي يتدثَّـرُ جِلباباً مغربياً أصيلا، بِوَجهٍ وَضَّاء خَلْف لِحيةٍ سَوداء مُـشَذَّبة، لو حُذِفَ لَقَب “شاعِر” من أسفَل بِطاقة التعريف الـمُصاحِبة للصورة، لَجَزَمنا أنّـه فَـقيهٌ مِن مغرب القرن العشرين.

تَسألُ أستاذَةُ اللغةِ العربيةِ: “مَن شاعِر الـحمراء؟”، فتَــتعانَق أيادي التلاميذ تُسابِقُ إلى أَخْذِ الحقّ في الجواب، وهُم جميعاً على درايةٍ باسم صاحِب هذا اللَّـقَب، إنـّه “محمد بن إبراهيم المراكشي“؛ يُجيبُ التلاميذ.

تأهيل واعد لمسار صاعد

وُلِدَ محمد بن إبراهيم ذِي الأصل الهوّاري في مدينة مراكش على رأس القرن العشرين (1900) الموافِق لــ 1318 هجرية حَسْبَما ذَكَره الشاعر في “يومياته” التي كتبها بخطّ يدهِ، كأنّما القَدَر اختار له هذا العُلو في توقيتِ الميلادِ لـيُشرِفَ على تَلّة رابية مُلقِياً قصائد خالدة على قَرْنٍ حافِل بالنبغاء والعلماء والخُطباء والشُّعراء.

حفِظ القرآن الكريم في الصِّغَرِ، فَــنُقِشَت بلاغتُه وجزالتُه في صدْره وعَقْله لتَجْعَل مِن الفتى محمّد فخْمَ العِبارة، جَزِلَ المعنى والإشارة فيما سيُنتِجه لاحِقاً من الشّعر والنّـثْر. دَرَس في القرويين وابن يوسف، منارَتَا العلمِ والمعرفة عبر تاريخ المغرب الطّويل.

كان المراكشي مُـجيداً لمواد النّحو والعَرُوض والبلاغة، فكيف لا، وهو القائل في اعتدادٍ بنفسه ونبوغه العلمي:

تَربّعتُ عَرشَ الشِّعرِ في نظَر الحقِّ *** وحُــــــزتُ مَقَــالِيدَ البَــــــــلاغَةِ بالسَّــــبقِ[1]

الأمر الذي ساعَدَه على التخرُّج في أقصر مدّة دراسية، والانتقال لمزاولة مهنة التّعليم، مع استِئنافِ العصامية في الإبداع الشِّعْري والمطالعةِ الحرة والـمُصاحَبَةِ الطّويلة لفطاحل شعراء العرب.

واصَل ابن إبراهيم تَلقِّي الإجازات العلمية عن الشَّيوخ المغاربة، فتتلمَذ على يَدِ شيخ الـمُحدِّثين وعالِم الوقت أبو شعيب الدّكالي وأجازَه، ونَوَّه كثيراً بنبُوغه الأدبي، بَل بَلَغَ به الحدّ أنْ وَصَفَه حِينَ سلَّمه الإجازة بـ”الشَّاب الأنجَب، اللَّوْذَعِيِّ الأدَب، الفقيه سِيدي محمد بن إبراهيم المراكشي”، ونَصَحه بالمواظَبة على “الاستفادة والإفادة”. وشَهادة الشيخ هاته في جانبٍ منها تؤكّد مهارات ابن إبراهيم في الفقه، كما تؤكّد شَطارته في الأدب، فكأنّما جَمَع بين تطلُّعاتِ أبيه وتطلّعاتِ نَفْسِه، مُستميتاً للمزج بينهما، وإنْ كان الأدب والشِّـعر قد غَـلَبا عليه طوال مَساره.

مواقف وتقلبات من الحياة والقيادات

انخرَط في دينامية العمل الوطني، فسُجِن مَعية مناضلين آخرين مِن الحركة الوطنية المغربية[2] سنة 1937، وعُرِفَ بتناقُضٍ في المواقف أحياناً، لا مِن جهة إيمانِه بحقّ بلاده في الحرية والاستقلال، وموقفه مِن لَفْظِ سَيْطَرة الاحتِلال؛ بل مِن جِهةِ انحيازِه لبعض القُـوَّاد الـكبار الذين ناصَبوا الحركة الوطنية والعَرش العلوي العَدَاء، وبانَ شَرُّهم طيلة عهد المقاومَتين المسلّحة والـمدنية، ومِنهم باشا مراكش التّـهامي الكلاوي، الذي مَدَحه ابن إبراهيم حيناً مِن الدّهر، ومِن ذلك قصيدته المشهورة التي مَطلَعها:

مِثْلُ التُّهامِي ما في الأرضِ مِن بَطلِ *** شَهـــادةٌ صَـــــدرَت مِـــن أَعْـــــظَــــمِ الدُّولِ[3]

ثُـمَّ؛ ولِظروف خاصة؛ انقَلَب عليه هَجْواً وذَمًّا، مما سبَّب له الفرارَ إلى مدينة فاس، والمكوث فيها بضْع سِنين.

من جلباب الفقه إلى ثياب الشعر

أَكَّدَت المراجع التي أرَّخَت لسيرة هذا الـعلَم[4]؛ أنَّ أباه إبراهيم؛ الرّجل الـمُحافِظ الولِع بالعلماء والفقه وعلوم الشريعة، أرادَ أنْ يَصيرَ محمدٌ هذا فقيهاً ضليعاً مِن فُقهاء مراكش، إلّا أنَّ رغبات محمد وما أوْدَعه الله فيه مِن حُبِّ الأدب والميل للشِّعر وتَذَوُّقِه وتِلْقائيةِ وُرُودِ أبياته عليه؛ نـَحا به ناحية عالَم الشِّعر، مُهْمِلاً رَغبة أبيه، وخارِجاً مِن جُبَّة الشَّرع إلى الشِّعر بفنونه، ولا سيما؛ إتقانُه اللُّزوميات والمدح والـهجاء.

ولم يَكن هذا الارتحال مِن عالَم الفقه إلى عالَم الأدب والشِّعر بالذي يُخْفِض منزلةَ محمّدٍ وشَغفه بالتفوّق، فقد انطلَق بقصائد مُتأثّرة بلُزومياتِ الشاعر العربي الكبير أبي العلاء الـمَعرِّي[5]، ثم سُرعان ما استَقَلَّ شاعِرُنا بأسلوبٍ شعري مميَّز، فَمَلأ عالَم الشِّعر والأدب من ثلاثينات إلى خمسينات القرن العشرين، باصِماً على حُضورٍ قوِي ضِمْن تَوليفة شُعراء ظاهرة الشِّعر المغربي الحديث.

كانت بَعْضُ قصائده تُولَد في سياقاتها الثّقافية والاجتماعية والسياسية، واحتُضِنت أَشْعارُهُ ونِكَاتُه شَعبيًا وفي أوساط المثقَّفين كذلك، وطَارت شُهرته في الرُّبُوع المغربية وخارِجَها، فقال مُعرِّفاً بنفسه:

وتعُرِفُني الأخلاقُ والفَضلُ والنُّهَى*** وتَــعـرفُـنِي الآدابُ والـــعــــــلمُ والكُــــــــــتْــبُ

عاشَ الرّجل تجربةً أخرى ألْهَمَت جِنّ الشِّعر في فؤادِه، وفتَحت بصيرته الأدبية على عوالِم عربية ومغاربية كانت تَعُوجُ بها الأوطان المجاوِرة لبلِدهِ المغرب، فقد ذَهَبَ حاجّا إلى بيت الله الحرام، فزار بعض مدن الحجاز، ومَثُلَ بَيْن يَدَي الملك عبد العزيز آل سعود، فأنشدَه قصيدة مدْحية جميلة يَفتخر فيها بأصوله المغربية، ومنها قوله:

مِن المغرب الأقصى أتتكَ تَحيّةٌ ***  يُبلِّغُـــــها عَن أهْـلِـهِ شاعِرُ الـحَـمْرَا

ثُـمّ زار مِصرَ عقِبَ طريقِ عودته، والتقى شعراءها، ومَدح ثقافتها، وصرَّح لبعض صُحُفِها، وحينَ عودته للمغرب، اسْتضافَـتْه إذاعَتا[6] الرِّباط ومراكش تَوالِياً، ليُحدِّث مُستمعيه عن خلاصات زياراته الدِّينية والأدبية لأرْضَيْ الحجاز والـكِنانة.

ظلَّ محمد بن إبراهيم يُبِدِع قصيدةً تلو أخرى، قريباً مِن الناس، ومختلِطاً بعامِّيِهِم وعالِمهِم، دائم حضور المجالِس، مُقْبِلاً على الدّنيا، مُحبِّا للطّيبات والتمتّع.

لا يُنْشِدُ الأشعارَ إلّا تَـداوِيَا

ومِن بَديع ما خلَّف مِن قصائد _ عِلماً أنّ مُجمل إرثه الشِّعري ناهَز (5000) بيت -، نذكـر: “طال منّي لِذي النّهارِ ارتِقابي”، “حَدِّثُوا عن الخائن”، “كثَّرَ الله زُمرة الأغبياء”، “بما بيننا مِن حُرْمةٍ أيها الصَّحْبُ”، “جُوَيْهَرة القلبِ لا تَغضَبي”، “غبتِ عنّي فكدتُ شوقاً أذوبُ”، “أيّها الثُّقـلاء باللهِ فـينا”، “حرامٌ على حُرِّ الطبيعة والفِـكر”، “حَيثما سِرت فالمعالي تَسيرُ”، “أحنُّ إلى مِصر وما أنا من مصر”، “إذا جِئتُم نَقومُ لكم حُفَاة”، “يا دارُ نِلْتِ العِزَّ والتّكريما”، “طَنجةُ تِـيهي دَلَالا”، “المـطعم البلدي”[7].

ومِن قصائده التي سَجَّل فيها انحيازه للحقّ، ودَعْمه لقضايا أمته العربية، نذكر: “مَوت بلفور”، “تهويد فلسطين”، “عَهْدي ببيتِ الـقُدس وهْو مُقدَّس”[8]، أعاد فيها تذكير الأمة العربية والإسلامية بالعهد الذي في عُنُقها تُجاه المقدسات والشعائر وحائط البُراق وباقي المعالم الدينية المقدّسة في فلسطين.

وفَضْلا عن القصائد الشِّعرية؛ كتَب في أدب المسرح: “المسرحية الطلابية” و”المساجَلات” و”القصيدة الشَّـطْرَنجية”. ومن مُساهماته الشَّفهية التي تَمَّ تَـفريغها في كتاب؛ نذكُر تِلك التي تحمِل عنوان “بَين الأدب المصري والأدب الـمغربي”، وأخرى بعنوان “الأدب الـحَيّ وحَظُّه مِن اعتِنائنا”.

هذه الإنتاجية الشّعرية الغزيرة والنّثرية الكثيرة، جعَلَت الشّاعر الـمجايِلَ له عبد الملك الـبلغيثي يَرْفَع مَنزلته ويصِفُه بــــ”أمير شعراء الـمغرب”، ويقول فيه قصيدة رنّانة سَنة 1941 جاء فيها:

يا أمــيــراً في دَولـة الأشــعارِ *** بِسُمُوٍّ في ذَوْقِه وابــتِكـارِ

غيرُ بِدْعٍ أنْ صِرتَ فيها أميـراً *** بانتخابٍ فأنتَ أنتَ اختِيارِي

ونَال لَقَبَ شاعِر الحمراء مِن طَرَفِ محبِّـيهِ ومُـنتقِديه، واضعين إيّاه على قَدم المساواة مع الوصْف الذي نالَه شُعراء عرب آخرون، مِن قَبيل وَصْف شاعر النّـيل، الذي نودِيَ به الشاعر الـمصري حافِظ إبراهيم (1872-1932)، ووَصْف شَاعِر الخَضراء، الذي أُطْلِق على الشاعر التونسي أبو القاسم الشّابي (1909-1934) رحمهما الله.

وحَلّاهُ الأستاذ محمد منصور في معلمة المغرببوَصْف “شاعر مطبوع، ونَكَّات بارع، وشاطِر أَحْوَذِي”. كما أُدْرِجت كثيرٌ مِن أشعاره في المقرّرات الدّراسية، خاصّة مَادّةَ اللغة العربية، والمحفوظات (سابِقاً)، وتَداوَلت الصُّحف الصادرة في المغرب زَمنئذٍ أبياتَ شِعْره وكَثيراً مِن قصائده الطوّيلة، وسارَت نِكَاته ومُلَحُهُ في النّاس يَتذكّرونها في الـمجامِع ويَـتَـنَدَّرُونَ بها[9].

الرحيل إلى رحمة الله الجليل

بَعد وفاة شاعِرِنا محمد بن إبراهيم المراكشي إثْرَ سَكتةٍ قَلبية مُفاجئة سنة 1959؛ أُطْلِق اسمه المقرون بِـصفة “شاعِر الـحمراء”، على مجموعة من المدارس العمومية في الدار البيضاء ومراكش وأكادير، وعلى بعض الأزقِّة. ونُشِر ديوانُه روض الزيتون[10] _ تَيَمُّنا بالحي الذي كان يقطُن فيه بمراكش _ في طبعة مُنقَّحة ومُصدَّرَة بأقلامِ خِيرة أدباء المغرب المعاصِرين، وذلك سنة 2002، والذي كانَ قَدْ جُمِع وقُدِّم للملك المثقَّف الراحل الحسن الثاني في أبريل مِن العام 1969، بعد أنْ أَمَرَ الملك سَنة قَبل ذلك بِـجَمْع تُراث ابن إبراهيم الشِّعري والعناية بكل ما خَلَّف، وطَبْعه في ديوانٍ يَليق بمقام وشُهرة شاعر الحمراء.

المراجع
[1] موسوعة "الشِّعر العربي – الديوان"، قصائد شاعر الحمراء.
[2] "معلمة المغرب"، مجموعة مؤلِّفين، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الطبعة الأولى 1989، ص: 90.
[3] موسوعة "الشِّعر العربي – الديوان"، قصائد شاعر الحمراء.
[4] (الجراري) عبد الله بن العباس: "التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين من 1900 إلى 1972"، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1985، النسخة الإلكترونية 2014.
[5] (المعري)أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي: "رسالة الغُفران". تحقيق كامل كيلاني، منشورات مؤسسة هندواي للتعليم والثقافة، مصر، طبعة 2013.
[6] مجلة "دعوة الحق"، العدد 84، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب.
[7] انظر: (ابن الملوّح) قيس: قصيدة "الـمُــؤنــسـة"، https://www.aldiwan.net/poem25753.html.
[8] موسوعة "الديوان"، القصيدة رقم 501، عدد الأبيات 7.
[9] "معلمة المغرب"، مرجع سابق، ص: 90
[10] (المراكشي) محمد بن إبراهيم: "روض الزيتون"، ديوان شعر، سلسلة ذخائر التراث الأدبي المغربي، العدد 12، طبعة 2002.