المحتويات
مقدمة
شهد المغرب عبر تاريخه الفكري والعقدي نقاشا مستفيضا حول مسألة (تكفير العوام) سواء عند الفقهاء المالكية أو علماء الكلام الأشاعرة، لاتفاق المغاربة على الجمع بين المذهب المالكي في الفقه والمذهب الأشعري في العقائد، مستلهمين في ذلك مسؤوليتهم الدينية المتمثلة في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه مجتمعاتهم، صيانة للعقائد وحفظا للدين، وقد انطبع هذا النقاش في مجموعة من المؤلفات منها ما جاء منفردا ومستقلا، ومنها ما جاء مضمنا في مباحث أو فصول، نتجت عنه بالتالي آراء متفاوتة، واتُّخذت في شأنه أحكام مختلفة.
كتاب “مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص” لأبي علي اليوسي (ت1102هـ)[1]
كان رد أبي علي اليوسي في مسألة (تكفير العوام) أو (إيمان المقلد) بتأليف كتاب ضخم ضم العديد من المباحث الكلامية، عالج فيه المشكلة من جذورها، سالكا فيه النهج العلمي، وعنوانه: “مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص”، عرض فيه لمسألة إيمان المقلد وللكلمة المشرفة، ففصل فيها تفصيلا مطولا، جعلت كتابه ينقسم إلى قسمين اثنين هدف من ورائه تحقيق مقصدين اثنين:
- تفسير معنى كلمة الإخلاص؛ (وتَبْيين فحواها على ما يجب اعتقاده على جميع المؤمنين، وهو مرجع مباحث المتكلمين)، وهو مضمن القسم الأول من الكتاب،
- ثم الإشارة إلى ما يَتَلَمَّحُ فيها –أي كلمة الإخلاص- بعد ما ذُكِرَ من اللطائف، وقد أشار عبد الله كنون في “نبوغه” إلى ما أثاره العلماء والطلبة حول كلمة الإخلاص وإلى دور اليوسي في إخماد هذه الفتنة قائلا: «ثم تصدى لها أبو علي اليوسي، فلم يترك مقالا لقائل على عادته، وقُطعَت جهيزةُ قول كل خطيب»[2][13].
فكان المقصد الأساس من تأليف هذا الكتاب إذن المساهمة في رفع سوء فهم بعض الفقهاء لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وقطع دابر الاختلاف بينهم في هذا الأصل، مع الحد مما نتج عن ذلك من اضطراب، إخمادا لنار الفتن التي ثارت بين طلبة سجلماسة وفقهائها وعوامها أولا، ثم بين طلبة مراكش، في: (ما المثبت وما المنفي في كلمة الإخلاص) ثانيا. وقد اقتصر اليوسي في كل فتاويه على الاكتفاء بالشهادتين في حق العوام، أي باعتقاد المعاني المستخلصة منهما وهي الإقرار بوحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، وبرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى العالمين كافة، موردا الرد المفحم على ما فعله ابن أبي محلي بطلبة وعوام بلدييه بسجلماسة في مسائل حصرها في ست كما وردت بكتابه، موضحا قصد الشارع من المعرفة المطلوبة في (كلمة الإخلاص) بقوله: «وكذا قول أهل بجاية أن من لم يعرف معناها ولم يفرق بين الرسول والمرسل لا يضرب له في الإسلام بنصيب، معناه أن الحاصل هو من لا يعرف الوحدانية ولا يفرق بين الرسول والمرسل لا يضرب له في الإسلام بسهم، وليس معناه أن من لم يعرف معنى الهيللة ولا يحسن تفسيرها لا يكون مسلما وإن كان عارفا بالله وبرسوله»[3]، وبذلك سقط قول هذه الطائفة بتكفير من لم يعرف مضمون هذه الكلمة.
وزاد اليوسي هذا الأمر وضوحا وبيانا حين وقف على ما ينبغي أن يعامل به العامة من الناس في العقائد قائلا: «ومن هذا المعنى – والحديث ذو شجون- ما ينبغي أن يعامل به العوام في سائر العقائد من الرفق، وأن لا يكلفوا من شرح الحق والتعبير عن الاعتقاد بما لا يقدرون عليه، ومن عجز منهم عن التعبير فلا ينبغي أن يتحكم بأول مرة على قلبه، لأنه لا خير عنده ولا معرفة له»، وأضاف: «فحق المشتغل بخطاب العامة في هذا المعتني بإصلاح حالهم وهدايتهم، أن يخاطب كلا بما يفهم، كما وقع الأمر بذلك في الحديث الكريم»، وتابع قائلا: «فالواجب على من انتصب لنصح المسلمين وإرشادهم في هذا الباب، أن ينثر على رؤوسهم ما لا غنى عن اعتقاده في حق الله تعالى وفي حق رسله عليهم السلام ونحو ذلك، ببيان إيضاح ورفق واستصلاح، من غير تعنيف ولا تفتيش، ما لم يبد من أحد فساد، فيجب إرشاده وإعلامه، أو يثور منه جدال أو عناد، فيجب إلزامه وإرغامه، فإن التحكم على قلوب الناس والتفتيش عن ضمائرهم خطر قبيح وجهل صريح»[4]. لذلك ركز في مناظرته لإبن أبي محلي على نصيحته له تثبيتا لمنهجه في الدعوة بالحسنى ودليلا على انخراط الرجل في تغيير المنكر الذي أحدثه هذا الأخير بسجلماسة وانتقل إلى باقي أصقاع البلاد؛ ولهذا خاطبه بالقول: «فإن أردت نفع الناس فقرِّر لهم العقائد بالقدر الذي يبلغون، وحدث الناس بما يفهمون كما في الحديث الكريم، ودع عنك هذه الامتحانات والتدقيقات والتشنيعات التي لم تجْرِ بها سنة أهل الدين في عصر من الأعصار، فإذا هو قد أشرب ذلك وتمكن فيه التظاهر به، وإذا تمييزه قد نقص عما كنت أعرف منه قبل ذلك، نسأل الله العافية»[5].
كتاب “رد التشديد في مسألة التقليد“ لابن مبارك السجلماسي اللمطي (ت.1156هـ)[6]
مترجمنا هذا هو الشيخ أحمد بن مبارك بن محمد بن علي السجلماسي اللمطي البكري الصديقي، ولد في حدود التسعين وألف ببلدة سجلماسة (تافيلالت حاليا) بالمغرب. قال عنه الحوات في روضته: «كان رحمه الله شيخا متبحرا وإماما حجة متصدرا إلى أن انتهت إليه الرياسة في جميع العلوم، واستكمل أدوات الاجتهاد على الخصوص والعموم، أحرز قصب السبق في مجال الاستنباط، وارتبطت بذهنه العلل ومسالكها أي ارتباط»[7]. توفي رحمه الله بفاس سنة (1156هـ)، ودفن بها. ومصنفاته نفيسة في علوم شتى وذات فوائد مهمة، وجلها رسائل وتقاييد صغيرة الحجم وأجوبة وأراجيز منها: “أجوبة لعدد من الأسئلة في قضايا تتعلق بالتوحيد والعقائد”، ورسالته “رد التشديد في مسألة التقليد” التي نسبها له كل من ترجم له وعدُّوها ضمن مؤلفاته.
ومضمون هذه الرسالة الرد على المتشددين في مسألة إيمان العوام وتكفير المقلد في العقائد، فقد تحدث المؤلف فيها بإجمال عن مسألة تحديد دور العقل عند المتكلمين وبالخصوص عندما يظهر أي تعارض ما بين العقل والشرع، وما تفرع عن هذه المسألة من توابع ولواحق متعلقة بقضية (إيمان أو تكفير العوام). فبين فيها أن التقليد في الإيمان ومعرفة الله تعالى بصفاته لا تضر وخاصة بالنسبة للعوام الذين يؤمنون بالله تعالى دون التدبر في مخلوقاته، منتهيا في رده أمام دعاة العقل بأن المقلد في الاعتقاد ليس بكافر ولا يصح تكفيره.
ومن ذلك قوله: «إذا ثبت ذلك فليس اعتقاد المقلد الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع بواحد من هذه الثلاثة، فإنه لم يعتقد في الحق -سبحانه- إلا الحق، ولا في الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا الصدق، ولا أتى أمراً اجتمعت الأمة على أنه لا يصدر إلا من كافر، فثبت أن المقلد ليس بكافر عن قواعد الشريعة المطهرة.. وكما أن المقلد ليس بكافر، فليس بعاص أيضاً بترك النظر، لأن أدلة وجوب النظر نحو قوله تعالى ﴿انظروا﴾ الآية (أولم ينظروا) (أولم يسيروا) (أولم يتفكروا)، أو نحوها، كلها في الكفرة الذين يعتقدون ضد الحق، فأمروا بالنظر ليرجعوا عن مذهبهم الباطل، لا فيمن اعتقد من عامة المؤمنين، نص عليه الحافظ ابن حجر والقرطبي والقاضي عياض وغيرهم، قالوا: لأن الأخبار تواترت تواتراً معنوياً، على أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يزد على أن دعا الخلق إلى الشهادتين وعبادة الله عز وجل، فسقط ما دعا أحداً ممن آمن إلى نظر واستدلال»[8].هذا هو نص كلامه في هذه المسألة التي اعتبر فيها أن تشديد الوعيد الوارد في القرآن الكريم على الكفار وذمهم إنما كان على إشراكهم بالله وعلى الجحود والعناد وتكذيب الرسل وإنكار البعث، لا على عدم العلم به والجهل بوجوده، لأن ذلك حاصل لهم.
وهكذا نلاحظ طريقته في الحجاج مع خصومه في (مسألة تكفير العوام) و(إيمان المقلد)، فمتى لم يعتقد المسلم في الحق – سبحانه – إلا الحق ولا في الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا الصدق ولا أتى أمراً اجتمعت الأمة على أنه لا يصدر إلا من كافر، فهذا يثبت أنه -أي المقلد- ليس بكافر على قواعد الشريعة المطهرة. ثم ختم رسالته بالقول: «وهذا آخر ما قصدته، وقصارى ما اعتمدته، ورحم الله امرءا سامح بالإغضاء، وسامح بالرضا، وعذر بقصور الباع، وقلة الاطلاع، وشكر ما فيه من حسن التنبيه ومزيد التعظيم لمولانا والتنزيه..»[9].
خاتمة
هكذا نلحظ إذن ما وصل إليه الأمر في افتتان الناس في العقائد والفقه معا؛ وهما وجدان الأمة وروحها، مما اضطرهم إلى اللجوء إلى كبار علماء العصر المنصفين، مستفتين عن الميزان الصحيح القويم الذي يعرضون عليه إيمانهم، وعن المطلوب ممن يعجز عن معرفة الدليل والبرهان في تقرير العقائد، أو لا يستطيع التعبير عنه باللفظ ولا يقدر على البيان، حتى يسلم من نسبة الكفر إليه، فأجابهم جمع من علماء بلدهم وألَّفوا في هذا الشأن مؤلفات ظلت رائجة إلى يوم الناس هذا، تؤرخ لنا ما أحدثته هذه الفتن وكيف تصدى لها العلماء بالرد والإبطال، فأصَّلوا للمسألة التي انطلقت بسببها الفتنة، وبيَّنوا منزلق الفاتنين، سواء في الفتنة الأولى كما وجدناها في رد أبي عبد الله الوهراني (أنظر ج1) على الفقيه المفتي في تكفير عوام الناس، أو مع فتنة الطلبة بسجلماسة كما أحدثه ابن أبي محلي وجماعته ورد الشيخ العنبري (أنظر ج1) وأبي سالم العياشي (أنظر ج1) عليها، أو مع الفتنة التي ظهرت في مراكش وتصدى لها الحسن اليوسي من بعد، جامعة في ذلك ما بين حراس الشريعة من فقهاء البلد وحراس العقيدة من علماء الكلام، حفاظا على الأمن العقدي لعوام المسلمين وخاصتهم، وإحقاقا للحق وردا للباطل، وهذا صنيعهم في الحفاظ على الدين مصداقا لقول الله عز وجل: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).
المراجع
[1] أبي المواهب الحسن اليوسي، مشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص، تقديم وتحقيق: الدكتور حميد حماني- مطبعة دار الفرقان للنشر الحديث/الدار البيضاء- الطبعة الأولى/2000.[2] كنون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي- مكتبة دار الثقافة- د.ت. ص: 241.
[3] الحسن اليوسي، مشرب العام والخاص، ج/1، مرجع سابق، ص: 178-179.
[4] الحسن اليوسي، مشرب العام والخاص، ج/1، مرجع سابق، ص: 488.
[5] الحسن اليوسي، مشرب العام والخاص، ج/1، مرجع سابق، ص: 488.
[6] ابن مبارك السجلماسي اللمطي، رد التشديد في مسألة التقليد- طبع بتحقيق: عبد المجيد خيالي - دار الكتب العلمية/ بيروت- الطبعة الأولى/1422هـ/2001م- ص:47-50.
[7] أنظر: معلمة المغرب – ج/7 ص: 2365 و موسوعة أعلام المغرب، تحقيق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 5/1127و الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري، ج/5-ص245.
[8] ابن مبارك السجلماسي اللمطي، رد التشديد في مسألة التقليد، مرجع سابق، ص:47-50.
[9] ابن مبارك السجلماسي اللمطي، رد التشديد في مسألة التقليد، مرجع سابق، ص:47-50.