مسجد ماهرون

توطئة

يرمز مسجد “ماهرون” الذي تحوّل إلى مؤسسة طارق بن زياد بالمدشر الشفشاوني “الخزانة” لارتباط هذه المنطقة بالدين الإسلامي، وتعلّم أهله القرآن منذ بدايات الفتح الإسلامي للمغرب، وهو من المعالم العلمية التي جسّدت منذ قرون اهتمام قبيلة “الاخماس” وبلاد “غمارة” بالمجال العلمي، خصوصا العلم الشرعي، فغدا هذا المسجد مع تعاقب القرون والسنين؛ منارة علم، ورباط قرآن، ومقصدا للطلاب، وموئلا للتربية.

من مسجد الخزانة إلى مؤسسة طارق بن زياد

الموقع الجغرافي:

تقع مؤسسة طارق بن زياد في قلب مدشر الخزانة، وهو من مداشر قبيلة “الاخماس” العليا، إحدى أهم قبائل جبالة بشمال المغرب، وتمتد حدود هذه القبيلة من الشرق إلى الغرب: من بني احمد وبني خالد إلى قبيلة بني حسان وبني ليث طولا، ومن الجنوب إلى الشمال عرضا: من قبيلة غزاوة والاخماس السفلى إلى بني زجل وبني سلمان، وهي قريبة من مركز باب تازة. وبالقرب من مدشر الخزانة يقع أحد أهم الجبال الموجودة بالمنطقة من حيث مخزون المياه، هذا المنبع المائي الذي يغذّي نهرين يصبّان في واجهتين بحريتين مختلفتين: نهر واد لاو الذي يصبّ في البحر الأبيض المتوسط، ونهر سبو الذي يصبّ في المحيط الأطلنتي[1].

ارتباط مدشر ومسجد الخزانة بتحفيظ القرآن قديما:

يرجع تأسيس هذا المسجد لبداية الفتح الإسلامي، وهو من بين المساجد القليلة التي تعود لهذه الفترة مثل: مسجد طارق بن زياد القريب بمنطقة الشرافات، ومسجد البيضا أو الملائكة في بني حسّان، ومسجد ترغة الذي يطلّ على الساحل المتوسطي.

وقد عُرف المسجد قديما ب”مسجد الخزانة”، ثم تحوّل اسمه إلى “مسجد ماهرون” بعد تزايد المساجد في هذا المدشر، ومنذ تأسيسه لم تكن الصلاة الوظيفة الوحيدة لهذا المسجد، بل قصده الطلبة لحفظ القرآن الكريم، ودراسة علومه، فالمصادر تشير إلى أن أبرز شخصية تاريخية بالمنطقة وهو علي بن راشد (844هـ/1440م- 918هـ/1512م) مؤسس مدينة شفشاون قد درس القرآن في طفولته بمدشر الخزانة أي بهذا المسجد[2].

كما يشير العلامة محمد الصادق ابن ريسون (1155هـ/1742م- 1236هـ/1820م) في تقييد له إلى اشتهار مدشر الخزانة بوجود حفّاظ القرآن الكريم، قائلا: “وبمدشر الخزانة عين مشهورة للحفظ وذلك أن من شرب ماءها يحفظ كثيرا بإذن الله تبارك وتعالى، وجل مدشر الخزانة أو كلهم يحفظون كتاب الله العزيز..”[3].

وتواصل إقبال الطلاّب على مدشر الخزانة قرونا بعد ذلك، فالمصادر تؤكّد خبر استمرارية ارتباط تعليم القرآن بمسجد المدشر، حيث سيزوره “محمد بن الطيّب” أواخر القرن 19م، ونقل شهادته الجاسوس الفرنسي أوجيست مولييراس في كتابه قائلا: “الاخماس هي القبيلة التي تحظى فيها الدراسات القرآنية والشرعية، بأهمية أكبر مما هو عليه في باقي قبائل جبالة، فثلاثة أرباع السكّان يعرفون القراءة والكتابة، أما الأميون فيشكلون أقليّة”[4]، واختصَّ بالذكر من بين مداشر الاخماس: الخزانة، بن زيد، الشرافات، وتنغايا.

ونظرا لشساعة مساحة مدشر الخزانة، صنّفه هذا الرحالة كمدينة: “نرى بالشمال الغربي للقبيلة [الاخماس]، مدينة تتضمن 1200 منزل على مدى عدة كيلومترات، وهي مدينة الخزانة العتيقة التي كانت مقرا للجامعة القديمة التي درس بها مؤسس الشاون -مولاي علي بن راشد”[5]. يلمّح عدد المنازل التي ذكرها، إلى أن الخزانة كانت قديما تُطلق على مساحة أوسع من المساحة التي حُدّت فيها الآن، وفي ثنايا هذا الوصف لم يغفل الرحالة مسألة تميّز مركز هذا المدشر بالتدريس وكونه “مقرا للجامعة القديمة”.

تحديث المسجد وتشييد مؤسسة طارق بن زياد:

أقيمت بمسجد الخزانة مؤسسة عصرية لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية، يوم 17 نونبر 2012م، وأضحت تحمل شخصية قانونية معنوية هي “جمعية طارق بن زياد لتحفيظ القرآن الكريم، وتدريس العلوم الشرعية بمدشر الخزانة”، فانتصبت هذه المؤسسة للعمل على تحقيق أهداف تتعلق ب: تحفيظ القرآن الكريم، وتدريس العلوم الشرعية واللغوية، وترسيخ ثوابت الأمة والهوية المغربية، كما أنها تسعى إلى تكوين أطر تربوية متمكّنة من العلوم الشرعية واللغوية ومنفتحة على العلوم العصرية، وقد اُحتضنت المؤسسة من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتاريخ 14 أكتوبر 2015.

وأشرفت هذه المؤسسة بعد انطلاق عملها بشكل رسمي على إقامة مرافقها داخل مساحة إجمالية تبلغ 1225 مترا مربعا، شاملة للموضع الذي كان يضمّ مسجد الخزانة العتيق،وشيّدت داخل هذه المساحة أقساما جديدة لتحفيظ القرآن الكريم، وقاعات خاصة بتدريس العلوم الشرعية والمواد الدراسية المعاصرة (اللغات، الرياضيات، العلوم والفيزياء، الاجتماعيات..)، كما أمست هذه المعلمة تضم مكتبة مجهزّة بالكتب والمصنّفات وأجهزة المعلوميات، إضافة إلى فضاءات أخرى ضرورية لتدبير شؤون المؤسسة (فضاء الإقامة، مطعم، مطبخا، مرافق صحية..).

لقد حملت مؤسسة طارق بن زياد على عاتقها إحياء هذه المعلمة العلمية التاريخية التي أسست فيها، فتصدّرت إلى أداء أدوار المسجد القديم على مستوى منطقة قبائل غمارة والاخماس بشكل خاص، مع انفتاحها على استقبال طلبة من مناطق أخرى على الصعيد الجهوي، ويتميّز الاختيار البيداغوجي للمؤسسة بارتكازه على صيغة تمزج بين الحفاظ على أصالة طرق التحفيظ ومعانيها الثقافية والتربوية، والانفتاح على مستجدات الواقع العلمي والمستجدات القانونية والتكنولوجية، فأتاح لها هذا الاختيار فرصة جذب طلبة من مناطق مختلفة بشمال المغرب، خصوصا من منطقة غمارة والاخماس.

إن عملية مأسسة هذه المعلمة هي خير طريقة للحفاظ على التراث المعماري والعلمي الذي يميّزها، فالتراث هنا لا يقتصر دوره على كونه ذاكرة جامدة، بل يتحوّل إلى عنصر فاعل في التنمية، حامل لمعالم الهوية، ومتطلّع للنهوض بالواقع العلمي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي في محيطه.

مسار حفظ القرآن على طريقة المغاربة

تحافظ مؤسسة طارق بن زياد على طرق أصيلة في حفظ القرآن الكريم، ترتكز على أدوات وتقنيات موروثة، طوّرها الفقهاء والعلماء عبر قرون بالمغرب، من بين هذه الوسائل: اللوح (يصنع في الغالب من شجر الجوز أو الدردار)، والصمغ (يُصنع من قرون الأغنام وصوفها، يستخدم كحبر للكتابة)، القْلْمْ (يصنع من القصب)، الدواية (تصنع من الخزف ويوضع بداخلها الصمغ)، الصلصال (نوع من الحجر الطيني يستعمل في تبيض اللوح بعد محوه)، وأحناش أو الدكّان (قطعة من الخشب يحملها الطالب في يده أثناء الحفظ يستعين بها على تثبيت محفوظه)، المْعَمْرَة (فضاء تضرم فيه النار ليجفف الطالب لوحه بعد محوه).

وبخصوص مراحل تحفيظ القرآن الكريم فإنها تتشابه مع غالبية مراكز ومساجد التحفيظ بالمغرب، وهي متدرّجة المسالك، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل أساس:

  • المرحلة الأولى “التحنيش”: تبدأ بتعلّم الطالب وهو صغير رسم الحروف على اللوح، حيث يتتبّع رسم أستاذه الفقيه الذي يكتب له على اللوّح شكل الحرف بظاهر “القْلْم” وبدون استعمال الصمغ، إذ يبقى أثر الرسم على اللوح المدهون بالصلصال، فيبدأ الطالب أولا برسم الحروف، ونطقها، ثمّ ينتقل إلى الجمع بينها على شكل كلمات أو مقاطع من القرآن الكريم. بالموازاة مع هذه العمليّة يحفظ الطالب الصغير بعض السور، وربما بعض الأحزاب، بالاعتماد على السمع.
  • المرحلة الثانية حفظ أو تخريج “السُّلْكَة”: بعد تعلّم الطالب للكتابة، وضبط رسم الحروف، يبدأ بحفظ القرآن الكريم، ويكون في الغالب قد حفظ بعض الأحزاب في مرحلته الأولية، أثناء تعلّم الكتابة، فيشرع في الالتزام ببرنامج صارم يبدأ بعد صلاة الفجر ويستمر إلى ما بعد صلاة المغرب، ويوزّع وقت الطالب بين كتابة ثمن الحزب على اللوح بإملاء من أستاذه الفقيه، وتسمى “الفْتِية”، ثم يقرأ هذا الثمن مع الفقيه ليضبط طريقة القراءة ويطلق على هذه العملية “النْفْدَة”، بعد ذلك يشرع الطالب في حفظ لَوْحِهِ، ولا يقدم على محو هذا الثمن – قد يزيد أو ينقص-إلا بعد استظهاره صباح اليوم التالي.
  • المرحلة الثالثة ضبط الرسم ومتون القرآن: يتجه الطالب بعد إتمامه السلكة الأولى، إلى مرحلة الاعتناء بمحفوظه، وتدقيقه كتابة وحفظا، من خلال مراجعة ضبط الكتابة، وحفظ متون تُدعى “النصوص القرآنية”، وهي أبيات منظومة منها ما نُظم باللغة العربية الفصحى، ومنها ما نُظم باللهجات المغربية، التي تختلف من منطقة إلى أخرى.

خاتمة

لقد ساهمت هذه المعلمة العلمية عبر قرون في توطيد دعائم العقيدة الإسلامية بمنطقة الاخماس وغمارة، وتواصل اليوم رسالتها بصمت في قلب جبال الريف الأوسط،  مستندة على تراث زاخر وأثر مشهود.

المراجع
[1] محمد داود، تاريخ تطوان، ج1، ص، 35.
[2] محمد بن عزوز حكيم، مولاي علي بن راشد: مؤسس شفشاون، مطابع الشويخ، 1998، ص، 58.
[3] عبد القادر العافية، "اليلصوتيون في شمال المغرب"، مجلة دعوة الحق، العدد 192.
[4] أوجست مولييراس، المغرب المجهول (اكتشاف جبالة)، ج2، ترجمة عز الدين الخطابي، منشورات تيفراز، 2014، ص، 104.
[5] أوجست مولييراس، المغرب المجهول (اكتشاف جبالة)، ج2، ترجمة عز الدين الخطابي، منشورات تيفراز، 2014، ص، 109.