المحتويات
مقدمة
إذا كان تشخيص المرض أمرا ضروريا لتحديد نوع المرض والعلاجات المناسبة له، فإن العلامة فريد الأنصاري عمل تشخيصا لواقع الأمة، وخاصة ما تعلق منه بمسألة العالمية والعالم، وما يتعلق بهما من الصفات والخصائص التي غابت في زمننا هذا، وحاول تقديم “وصفة علاجية” لما رآه من الداء في هذا الجانب، والكتاب الذي بين أيدينا جواب من صاحبه على هذه العلة التي أصابت الأمة، والموسوم بعنوان: “مَفْهُومُ العَالِمِيَّة مِنَ الكِتاب إلى الرَّبَّانِيَّةِ: دراسة في مفهوم العلم وصفة العالمية وظيفة وبرنامجا من خلال وصية أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي رحمه الله (ت، 474ه)”، وهو من منشورات دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، وصدرت طبعته الأولى سنة 1430ه/2009م.
فما مضمون الكتاب؟ وما هدفه ومنهجه؟ وما المزايا التي تميز بها الكتاب والكاتب؟ وهل هناك ملحوظات حول المُؤّلَّف؟
محتوى الكتاب
تتشكل الرسالة (الكتاب) من مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة.
تناولت مقدمة الكتاب الهدف من الرسالة التي تندرج ضمن سلسلة دعوية، وسميت بـــ”مِنَ القُرْآنِ إِلَى العُمْرَانِ”، وذكر دواعي تأليف هذا الكتاب، وحصرها في أربعة نذكرها كالآتي:
- الأول: ثَبَتَ بالنصوصِ الشَّرْعِيَّةِ الكثيرةِ، المتواترة المعنى، أَنَّ تجديدَالدِّينِ بتجديد ” العِلْمِ”.
- الثاني: موتُ عدد كبير من علماء الجيل الماضي، في المشرق والمغرب.
- الثالث: انقطاع تدريس العلم الشرعي على وجهه الحقيقي.
- الرابع: تَرَامِي عَدَد من أهل الأهواء والنوازع السياسية على وظيفة العالمِيَّةِ، والتلبس بمفهومها بغير حق.
أما الفصل الأول فوضع له عنوان: “أبو الوليد الباجي ووصيته”.عرض فيه المؤلف لسيرة أبي الوليد الباجي، رحمه الله تعالى، مع ذكر أهم عناصر الوصية الثمانية مع تفصيلها في متن الكتاب.
كما وسم الفصل الثاني بــ: “في مفهوم ” “العالم” و” العالمية” “. قدم فيه المؤلف تعريفا لـ “العَالِمِ” و”العَالمِيَّة”،ثم حدد الشروط والضوابط اللازمة في العالم حتى يكون عالما في الحقيقة، وهي: الملكة الفقهية، والربانية الإيمانية، والقيادة التربوية الاجتماعية. مع تفصيل وبيان موسع لكل ركن على حدة.
الفصل الثالث: وعنونه بــ: ” الأُصول الأربعةُ للعُلُوم الشَّرعيَّة”، فذكر منها الأصل الأول؛ نصوص الوحي، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية. والأصل الثاني؛ العلوم الشرعية، وصنفها ثلاثة أصناف، كما يلي: الصنف الأول: علوم القرآن والسنة، والصنف الثاني: علم الفقه وأصوله، والثالث: علم التوحيد والتزكية. والأصل الثالث: فقه اللسان العربي،والأصل الرابع: فقه الواقع، وخلاصة الفصل تفصيل وبيان لمعاني ودلالات العلوم الشرعية، وما ينبغي أن يكون عليه حال العالم في علاقته بالعلوم المذكورة.
الفصل الرابع: “بَرْنَامَجُ العَالِمِيَّةِ”، وأبرز المؤلف فيه منهج الدراسة الذي يقوم على التخرج على الكتب بإشراف الأساتذة والشيوخ من العلماء العاملين، كما حدد مواد برنامج العالمية مرتبة حسب أصولها؛ ففي الأصل الأول: نصوص الوحي، وذكر فيها مواد: القرآن الكريم، وآيات الأحكام، والسنة النبوية، وأحاديث الأحكام. أما الأصل الثاني: العلوم الشرعية، فالمؤلف يذكر العلوم الآتية: علم الفقه بمواده (الفقه المالكي، الخلاف العالي، فقه النوازل والفتوى)، ومادة علم أصول الفقه، ومادة القواعد الفقهية والأصولية، ومادة علوم القرآن والسنة، ومواد علم التوحيد والتزكية بشقيها: مادة التوحيد، ومادة علم التزكية. وبخصوص الأصل الثالث: اللسان العربي، وضمنه مواد: النحو العربي وفقه اللغة والأدب والخطابة. وفي الأصل الرابع: فقه الواقع؛ ذكر المؤلف مادتي: فقه السيرة النبوية والفقه السياسي. وفي كل ما سبق من مواد البرنامج يقترح المؤلف كتبا للتخرج وأخرى لاستكمال التكوين.
وختم الفصل الرابع بالتأكيد على الأثافي العلمية لهذا البرنامج، فحصرها في ثلاث: آيات الأحكام وأحاديثها، والفقه بأصوله، ثم اللسان العربي. فهذه الثلاث حسب المؤلف تعد جوهر التكوين المنشود من هذا الكتاب، ثم ذكر بعد ذلك أمورا أخرى وهي: المؤهل العلمي المشروط، ومدة البرنامج، وتنظيم الدروس.
وختم المؤلف كتابه بخاتمة توجيهية،يحث فيها طلاب العلم على الإسراع إلى التمسك بهذا البرنامج، مبينا شروط نجاح الطالب،وهي: تجريد القصد لله، وعزيمة قوية، ثم التزام منهج ثابت لا يتغير عنه صاحبه إلا إذ تبين له فساده، بعد مشاورة أهل العلم من الخبراء بالميدان.
هذا، وقد أورد المؤلف ملحقا (نص الوصية) وصية الإمام الحافظ أبي الوليد الباجي لِوَلَدَيْه رحمهم الله أجمعين، وفيه مقدمة وأقسام الوصية (قسمين)، ثم خاتمة للوصية.
هدف الكتاب ومنهجه
هدف الكتاب:
يجد القارئ الهدف أو القصد من الكتاب، فيما كتبه المؤلف في مقدمة الكتاب، إذ صرح هذا الأخير بأن قصده من هذه الرسالة / الكتاب، هو بيان حقيقة ” العالمية”بمعناها الشرعي في الإنسان؛ للتحقق من معنى كونه “عالما”. وذلك لما دخل هذه الصفة في الآونة الأخيرة من غموض شديد، فصار الكثير من الأدعياء يعدون أنفسهم من العلماء وليس لهم من وصفهم شيء.
منهج الكتاب:
ينبني العمل البحثي العلمي على مجموعة من المناهج البحثية الدقيقة، ومن المناهج التي يلاحظ اعتمادها في البحث ما يلي:
- المنهج التوثيقي: ويظهر من خلال كون الكاتب جمع مادة الكتاب من كتب أخرى وعمل على إعادة تركيبها تركيبا متناسقا، بما ينسجم وتحقيق أهداف الرسالة، ومما يدل على ذلك – في تقديري – أمور منها؛ المنهجية التي سلكها المؤلف في عرض مواد البرنامج مع كتبها المقترحة، ولا شك أن هذه الكتب مبثوثة في بطون كتب متنوعة، بذل المؤلف جهدا في ترتيبها وفق نسق معين؛ كتب التخرج وكتب استكمال التكوين.
- المنهج التحليلي الوصفي: إذا كان العلامة فريد الأنصاري من الذين أسهموا في التأسيس لقواعد البحث في العلوم الشرعية، وتحدث عن مناهج البحث، فإنه لم يغفل التحقق بها في كتابه هذا، بحيث يجد القارئ حضورا قويا للمنهج الوصفي التحليلي، كما بذل المؤلف جهدا كبيرا في عرض مادة الكتاب عرضا تحليليا تفكيكيا، حتى إن القارئ يكاد يصل إلى خلاصة مفادها أن أغلب مادة الكتاب صيغت بلغة الكاتب تحليلا ومناقشة. ثم يضاف إلى ذلك النقد، حيث تجده واضحا عندما تحدث الكاتب منتقدا ما يراه من ترامي عدد كبير على صفة العالم والتسمي بها دون توافر على شروطها.
وفي عرضه للملحق (نص الرسالة) يتضح المنهج الوصفي في عمله العلمي هذا.
مزايا الكتاب
إن سيرة الكاتب وتجاربه وخبراته العلمية عنوان على ميزات عديدة للكتاب، نذكر منها:
- أبدع المؤلف إبداعا من خلال عدم اكتفائه بتشخيص أزمة الأمة الإسلامية في موضوع العلم، وبخاصة منه العلم الشرعي بل قدم تصورا متكاملا حول سبل الخروج من تلك الأزمة التي حلت بأهل الإسلام. ولا شك أن ما فعله هو جوهر الدين وروحه، فالمتأمل لعمل سيدنا يوسف عليه السلام يجده لم يقف عند تفسير الرؤيا والإخبار بما سيحل ببلاد مصر من قحط وجفاف،بل تعداه إلى المبادرة على تحمل المسؤولية ووضع خطة محكمة دفعا للكوارث المستقبلية، وإذا جاز التشبيه والقياس يقال إن عمل فريد الأنصاري يمتح من هدي النبوة. هذا الإبداع الفريد من رجل فريد، أحسن مؤسسة فريد الأنصاري للدراسات والبحوث صنعا حينما عملت على الإسهام في تنزيل برنامج الكتاب وفق نظام للدارسة.
- يتحدث المغاربة عن النبوغ في مجالات شتى منها الأدب والعلوم الشرعية، ولعل العلامة فريد من زمرة أهل النبوغ المغربي بما تفرد به من اجتهاد هام ضمنه هذا الكتاب.
- البعد التكاملي بين العلوم: من العلوم التي تحدث عنها المؤلف وعدها من فقه الواقع ما سماه بالفقه السياسي، وفي ذلك إشارة إلى جسر التكامل لدى العالم بين العلوم الشرعية والعلوم السياسية بما يجعل منه عالما متبصرا يستطيع أن يجري العلم الشرعي جريانا سليما حينما يحيط علما بما تقتضيه العلوم الأخرى التي تضبط الواقع وتوجهه.
- من الكتب التي تحتاجها المكتبة الإسلامية، تلك التي ترسم منهجا للتكوين على الطريقة العصامية، ويعد الكتاب الذي بين أيدينا إضافة نوعية مفيدة في هذا الباب، ويمكن القول بأنه لم يؤلف مثله مادة ومنهجا في حدود ما عرفت في مجال العلوم الشرعية.
- التعصب المذهبي آفة من الآفات التي لم يكد يسلم منها قطر من الأقطار ولا عصر من العصور، فتجد كل مؤلف ميالا إلى مذهبه سواء كان فقهيا أو غيره، لا ينفك عنه في البحث والدراسة، إلى درجة رفض ما يزخر به مذهب آخر ولو كان مفيدا أكثر من مذهب الباحث، ويعتبر العلامة فريد الأنصاري نموذجا فذا تلحظ في مؤلفه هذا نزوعا إلى الانفتاح على مؤلفات مذاهب أخرى، سنته في ذلك سنة الأئمة الكبار كالإمام مالك والشافعي وغيرهما. فقد علم عنها الإفادة المتبادلة، الواحد منهم يأخذ عن الآخر ما يراه نافعا مفيدا للمسلمين في دينهم ودنياهم، وما يدل من الكاتب على هذا الانفتاح على المذاهب من جهة العلامة فريد الأنصاري اقتراحه بعض كتب المذاهب الأخرى كالشافعية،من مثل ما في باب الكتب المقترحة لبرنامج العالمية حيث ذكر المؤلف كتب ” أحكام القرآن للكيا الهراس الشافعي”.
- التجربة والخبرة والمراس العلمي الذي ميز سيرة العلامة فريد الأنصاري، وكان من نتاجه تأليف هذا الكتاب، فلم يصدر هذا الأخير عن بحث علمي نظري فقط، وإنما هو ثمرة الملاحظة والمشاهدة والالتحام بواقع العلم والعلماء، وما يجري في ذلك من أحوال وعوارض تعرض في تلك المسيرة العلمية. كل ذلك شكل أرضية موجهة لتأليف الكتاب. والناظر لما تحدث عنه المؤلف من آفات العلماء وانحراف بعضهم عن مقتضيات العلم بالله يتضح له أنهم علماء بأمر الله ليسوا علماء بالله.
- كثيرا ما تجد بعض الباحثين يمجدون علما من العلوم ويعتبره أشرف العلوم، ويجتهد في إبراز هذا العلم وتميزه عن غيره من العلوم الشرعية الأخرى، والمطلع على كتاب “مفهوم العالمية”، يجد في ثناياه عناية من قبل المؤلف بمختلف العلوم تعريفا لها وتفصيلا لبعض مباحثها واقتراحا للكتب المفيدة في برنامج كل علم أو مادة من مواد العلوم الشرعية.
- احتفاء الكتاب بالتراث وبما أنتجه الأقدمون، بكيفية تجعل من ذلك المنتوج مرشدا وموجها نحو آفاق أفضل في مجال العلم الشرعي خاصة، وما تناول الكتاب لرسالة الباجي رحمه الله إلا دليل على ما قيل في هذا الصدد.فالرسالة نص قديم، وحينما تعامل معها المؤلف حاول أن يجعل منها نصا ملهما متجددا ومجددا في الآن نفسه، بما استخلص منها من الإفادات التي أسهمت في تجويد مادة الكتاب الذي بين أيدينا، وليسلك المؤلف مسلك القطيعة مع التراث كما هو حال بعض الباحثين، وإنما عمل على التعامل الإيجابي معه.
- أشار الكتاب إلى ملمح مهم،حينما تحدث عن العالم والعالمية، فلم يحصر العالم في عالم الشريعة خاصة وإن كان فيما بعد اقترح برنامجا خاص بالعلوم الشرعية لطالب العالمية في هذا الباب. والذي يوضح أكثر مقصود العلامة فريد الأنصاري من العالم ما ذكره في بعض دروسه التي أقر خلالها أن العلم في منظور الإسلام ليس هو العلم بالقرآن والكتاب وما تفرع عنها من العلوم الخادمة لهما، وإنما حقيقة العلم تكمن في كل علم يقربك إلى الله ويعرفك به، سواء كانت علم طبيعة أو شريعة أو غيره، وقد ضرب، رحمه الله، لذلك مثالا بكثير من علماء العلوم الطبيعية الذين قادهم علمهم إلى معرفة الله حق المعرفة، وهؤلاء حسب الأنصاري من العلماء حقا.
ملاحظات حول الكتاب
إذا كانت هناك حاجة لإبداء بعض الملاحظات حول الكتاب، فإنه يقتصر في هذا الباب على ملاحظة واحدة، تتجلى فيما جاء في مادة الفقه السياسي، حيث يلاحظ عدم اقتراح المؤلف كتابا من كتب التخرج لهذه المادة وإنما اكتفى بتوجيه طالب العالمية إلى أستاذ متخصص،خبير في التحليل السياسي، كما يلاحظ قصره هذه المادة على التحليل السياسي، حيث إن العلوم السياسية مجال واسع متشعب يحتاج للإحاطة به جهدا كبيرا من قبل طالب العالمية.
ومن الملاحظ كذلك عدم تناول المؤلف مجال أبجديات البحث في العلوم الشرعية، وهو من كتب فيها وأدلى فيها بسهم من خلاله كتاب أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ثم إن طالب العالمية يرجى لأن يكون باحثا في المستقبل فكيف يصل إلى هذا المبتغى دونما تملك لقواعد البحث العلمي وأبجدياته.
خاتمة
ختاما، يمكن القول إن الكتاب المدروس والقراءة التي قدمت حوله، عمل اجتهادي دائر بين الصواب والخطأ، ولما كان الأمر كذلك احتاج إلى جهد من قبل الباحثين والمهتمين قصد استيعاب الكتاب الذي بين أيدينا،والاستفادة مما يطرحه في القضايا، والعمل من جهة أخرى على تجاوز ما فيه من الهنات خدمة للعلم والعلماء.