
المحتويات
توطئة
وُلد الشيخ عبد الباري الزمزمي سنة 1943 بطنجة في كنف الأسرة الصديقية الغمارية المشهورة بالعلوم الشرعية وخدمة الحديث النبوي والتصوف، وتوفي رحمه الله سنة 2016. فوالده هو الشيخ محمد الزمزمي بن الصديق، الذي كان من أكابر خطباء وعلماء مدينة طنجة وجهة الشمال الغربي للمغرب عامة، فاشتهر خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بمعارضته القوية للتوجه الصوفي للزاوية الصديقية التي أسسها أبوه الشيخ محمد بن الصديق وقادها من بعده إخوته الشيوخ: عبد الله وعبد العزيز والحسن وإبراهيم آل بن الصديق، وقد سار عبد الباري الزمزمي على منوال أبيه في معارضته للزوايا الصوفية، لكن مع انفتاح أكبر على مستجدات فقه الواقع والمشاركة السياسية.
مِن فِقْهِ النّوازِل إلى إفتاءٍ مُثير للجدل
يُـحيل اسم الشيخ عبد الباري الزمزمي في النسق السياسي المغربي على شخصية فقهية مثيرة للجدل بمواقفها السياسية المحافظة الداعمة بشكل مطلق لتوجهات النظام السياسي، وبإصدارها لفتاوى “شاذة” سواء في المجال السياسي، أو في ما يتعلق بالحياة الخاصة والحميمية للأفراد، حتى أصبح الشيخ الزمزمي في سنواته الأخيرة مختصا بالإفتاء المثير في المجال الجنسي، وهي الصورة الإعلامية التي غطّت عن جهود سابقة للشيخ عبد الباري الزمزمي قضاها مجتهدا لسنوات عِدّة في فقه النوازل، فقد “كان الشيخ الزمزمي فقيها نوازليا، ولفقه النوازل في المغرب تاريخ عريض وسِجِلّ حافل، وهو فقه يتعامل مع المستجدات التي لا قِبَل للناس بها، ويُعامِل قضايا لا يجُد الناس لها حلولا، فيفسح للناس في ما ضاقت بهم الأحوال، سعيا وراء رفْع الحرج عنهم، أو هو بمعنى آخر مطابقة المستجدات مع الشرع”.[1]
تعرّض الشيخ الزمزمي في فبراير من سنة 2001 للتوقيف والمنع عن الخطابة والوعظ في المساجد من قِبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، نظرا لشعبيته المتنامية بمسجد الحمراء بمدينة الدار البيضاء، ولتعاطفه السياسي الكبير حينئذ مع حزب العدالة والتّنمية، مما جعله يَصطف سياسيا مع الحزب في صَفّ المعارضة الإيديولوجية الشرسة لحكومة عبد الرحمن اليوسفي وسياستها في مجالات المرأة، لاسيما ما سمي بـالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، والثقافة، وتطبيع العلاقات التجارية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لكن الأمر الذي أفاض كأس التوتر في علاقته بحكومة اليوسفي، وعَجَّل بمنعه من الخطابة على منبر الجمعة، تمثَّلَ في إصداره لمقال/ فتوى بجريدة “التجديد” في شتنبر2001 نفى فيه صفة “الشّهيد” عن الزعيم الاتحادي المهدي بنبركة، لاعتبارِهِ هذا الأخير “كان معارِضًا ينوي الإطاحة بالملك الراحل الحن الثاني، وفي ذلك خروج عن الطاعة والدّولة”، وهو ما أثار ضده معارضة قوية من مختلف أطياف اليَسار المغربي، وبالأخص من لدن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وقد تزامن هذا التوتر السياسي مع ظرفية حرجة عرفها الحقل الدّيني مباشرة بعد وقوع أحداث 11 شتنبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، وما تلَتْها مِن تداعيات أمنية وسياسية انعكسَت سلبا على معظم الفاعلين الدينيين المغاربة، وبالأخص على التيار السلفي.
مواقف وتناقضات.. مواقع وتطلُّعات
تَـمَيَّزَ السلوك السياسي للشيخ عبد الباري الزمزمي بالمحافظة السياسية في الانحياز إلى الديمقراطية، وقد تَجَلّى ذلكَ في خصومته الشّديدة لليسار المغربي وللحركات الإسلامية وبالضّبط لفصيليها البارزين؛ جماعة العدل والإحسان وحركة التّوحيد والإصلاح. فبَعْدَ سنوات مِن علاقة الود والوئام التي كانت تجمعه بهذه الأخيرة؛ انقطع حبْلُ تعاطفه معها على إثر تداعيات “فتوى الشّهيد” المرتبطة بالتاريخ النضالي للزعيم المهدي بن بركة، مما حوَّل الشيخَ الزمزمي إلى مُعارِضٍ شرس لحزب العدالة والتنمية مِن خلال تصريحاته الصحفية المستمِرة المهاجِمة للحزب ولأمينه العام عبد الإله بنكيران، الذي قرّر -عندما كان مديرا لجريدة التجديد- توقيف نشْر العمود الشّهير للشيخ “سبيل الرشد” على صفحات الجريدة الإسلامية.
في سنة 2007 ترشَّح الشيخ الزمزمي في الانتخابات التشريعية باسم حزب النهضة والفضيلة، مُستَثْمِراً بطريقةٍ سياسيةٍ للرأسمال الرمزي الذي راكَمَه لعقودٍ مِن الزمن باعتباره خطيبا للجمعة له شعبية كبيرة بمدينة الدار البيضاء، ووجْها فقهيا مشهورا في الصحف والمواقع الإسلامية على شبكة الإنترنيت، حيثُ كان خبيرا شرعيا مختصا في الفتوى في موقع إسلام أنلاين على سبيل المثال، الأمر الذي أهّلَهُ للفوز بمقعد انتخابي عن دائرة أنفا بالدار البيضاء، بعد حصوله على سبعة آلاف صوت مِن الهيئة الناخبة، محتَلّا بذلك الرتبة الثانية بعد منافسته القيادية بحزب الاستقلال ياسمينة بادو. وقد كان هذا الفوز اليتيم، هو حصيلة حزب النّهضة والفضيلة في تلك الانتخابات، كما تحقَّقَ هذا الفوز الانتخابي بفضل دَعْم الكثير مِن قواعد حزب العدالة والتنمية للشيخ الذي كانت تجمعُه صداقة متينة مع القيادي في الحزب رشيد المدوّر، خاصة مع نشوب خلافات داخلية في الفرع المحلي للحزب إثر تقديمه لائحة مشتركة مع حزب قوات المواطنة الذي كان يرأسه رجل الأعمال عبد الرحيم الحجوجي.
بينما لم يحافظ الشيخ في الانتخابات التشريعية لـ25 نونبر 2011 على مقعده البرلمانيّ نظرًا لفشل تجربته الانتدابية بمجلس النواب، وللضّعف التنظيمي البنيوي لحزب النهضة والفضيلة؛ فقد عَزا الزمزمي سبَب فشله الانتخابي في سلسلة كرسي الاعتراف بجريدة “المساء”: لِكون “الحزب الذي ترشحتُ باسمه (النهضة والفضيلة) حزبا مشلولا، لا يملك القوة الاقتراحية، فلا أسئلة جادّة ولا برنامج واضحا”[2].
إباّن الحراك السياسي الذي عرفه المغرب سنة 2011، كان الشيخ عبد الباري الزمزمي من أبرز الأصوات الدينية المناهِضَة لحركة 20 فبراير ولمطالبها الدستورية والسياسية والاقتصادية نظرا لإيمانه المبدئي بالتراث الفقهي -السياسي المحافظ، الذي يعتبر أنّ أية معارضة للسلطة السياسية مهما تشبثت بمبدأ السلمية، تعدّ مدخلا للفتنة أي للفوضى العارمة و”اللادولة”.
يَبقى هذا التصور التقليدي خلاصة منطقية لتبني الشيخ الزمزمي للتأويل الأيديولوجي التاريخي الأسير لمفهوم “الفتنة”، الذي تحوّل لدى العديد من الفقهاء المحافظين إلى “طابو” ومسوّغ سياسي لمعارضة المطالب السياسية والحقوقية الساعية لإرساء مبادئ الحكم الديمقراطي في المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المغرب. ونستحضر في هذا السياقِ تَوظيفَ الشّيخ الزمزمي لرمزيته الفقهية في أوج النضال السياسي لحركة 20 فبراير لِصَوغ فتاوى سياسية، على غرار إفتائِه بتحريم التّظاهر بعد إقرار دستور 2011، وتسويغه الفقهي لطقوس حفل الولاء، في ردّ على مطالب شخصيات عُلمائية (أحمد الريسوني، بنسالم باهشام) وحقوقية وسياسية بإلغاء هذه الطقوس، وإعادة النظر فيها لكي تواكب منطق العصر القائم على الإعلاء مِن قِيَم حقوق الإنسان وكرامته.
حضور مُـتَـنامٍ في الفضاء العام
يحُفظ للشيخ عبد الباري الزمزمي -على الرغم مِن كل الاعتراضات والتّحفظات الحقوقية والفكرية على بعض فتاويه-؛ إسهامه الحيوي في إثْراء النقاش الفقهي والسّياسي بالمغرب، حتى صار وجْهًا إعلاميا مألوفا لدى المتتبِّعين للحقل السياسي والإعلامي، مما جعله مِن الأسماء النّادرة ضِمن نخبة علماء الدّين الذين لهم حضور في النقاش العمومي بجهد فردي بحت، على الرغم مِن خوضه لتجربة حزبية شَكلية في حزب النهضة والفضيلة. أو في حديثه الإعلامي المستمر بصفته رئيسا للجمعية المغربية للدّراسات والبحوث في فقه النوازل، التي كانت مِظَلّة قانونية تمنحه مشروعية للإفتاء في المستجَدّات الفقهية العامة، قبل انْدِراج هذا الاختصاص الدّيني الخطير ضمن الصلاحيات الحصرية للهيئة العلمية المكلَّفَة بالإفتاء في المجلس العلمي الأعلى.
كان الشيخ عبد الباري الزمزمي من المعارضين لتقنين عملية الإفتاء ضمن هيئة رسمية، فاعتبر أنَّ “تقنين الفتوى متعَذَّر في هذا العصر الذي اتّسَعَ فيه الخرق على الرّاقع، فكيف تُقَنّن الفتوى مع وجود الإنترنت والفاكس والهواتف والفضائيات الإسلامية التي يوجد في كل واحد منها مفتي أو أكثر، ويفتون بالمذاهب المختلفة، لهذا أرى أن تقنين الفتوى متعذَّر، فقد تُقَنَّن من الناحية الهيكلية لكن دون تأثير، لأنّ الناس يسمعون من جهات مختلفة وشتى، ولا يمكن أن يحاصرهم أحدٌ في هذا المجال لاستحالة مراقبة الفضائيات والانترنيت”[3].
وفاته
بَعد هذه المسيرة الفقهية والوعْظية، والمساهمة الفاعلة في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعقِبَ التجربة السياسية والبرلمانية والمشاركة الإيجابية في الفضاءات العمومية؛ وافَتِ المـنيةَ الشيخَ الزمزمي يوم الأربعاء 10 فبراير 2016، ودُفَنَ بمدينة طنجة. ففقَدَ الحقل الديني المغربي أحد شخصياته الأكثر إثارة للجدل.
المراجع
[1] إدريس الكنبوري: "دفاعا عن الشيخ عبد الباري الزمزمي"، مجلة هسبريس، بتاريخ 13 فبراير 2016.[2] انظر: جريدة المساء، نسخة ورقية، عدد الخميس 28 مارس 2013.
[3] انظر: جريدة الشرق الأوسط، عدد 16اكتوبر 2004.