المحتويات
توطئة
شهدت الأندلس مطلع القرن الخامس الهجري مفارقة لا نظير لها، وذلك للمدى الذي أدركته في تاريخ الحضارة الإسلامية في الانهيار السياسي بزوال الخلافة الأموية ونشوء ممالك الطوائف، مقابل قمة الازدهار العلمي باجتماع حشد من العلماء والقضاة والمفكرين، لم تحظ بهم بغداد ولا دمشق ولا فاس. يضاف إلى هذه المفارقة خصوصية “تورط” هؤلاء العلماء في عالم السياسة، اجتهادا فكريا لمدرسة عملية وأثاراً أحيانا درامية. فكيف واجه علماء الأندلس في القرنين الخامس والسادس كوارث انهيار الخلافة وفواجع تمزق الأندلس إلى ممالك، وتحولات وصول المرابطين؟ وكيف واكبوا فكريا وعمليا تحديات هذه الحقيبة الصعبة؟ وكيف غشيتهم دسائس الحكم وفتن الاقتتال، وبهرهم بريق السلطة واهتصرتهم ظلمات السجون وعذابات المنافي؟.
يحاول الدكتور أحمد بوخبزة في كتابه، الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه، منشورات “مؤسسة الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات”- 263 صفحة وبدعم من وزارة الثقافة، -يحاول- أن يقودنا في رحلة عميقة ودقيقة وشيقة، عبر أرشيف المصادر التاريخية والعربية والأجنبية، القديمة والحديثة، للإجابة عن هذه الأسئلة، والاقتراب عبر سرد سلس، يكثف النهل من نصوص التاريخ العتيق، ليقرب إلينا مشهدا مركبا وغنيا بالمواقف والأحداث يسع الأندلس، مملكة مملكة، وعالما عالما، وتجربة تجربة.
كما يحاول الإجابة عن كيف أن فقهاء الأندلس خلال القرن الخامس الهجري – كفئة اجتماعية طليعية- تواجدوا وأثروا بفعالية في مختلف المحطات والقضايا السياسية لهذا العصر منذ مرحلة الفتنة إلى قدوم المرابطين سواء على مستوى المواقف المبدئية أو العملية بشكل فردي أو جماعي، متعدد أو موحد الاجتهادات في داخل المملكة الواحدة أو على الصعيد الخارجي.
دواعي التأليف
إن الأنشطة السياسية المكثفة لعلماء القرن الخامس الهجري ما زالت في الحاجة إلى تجلية وتحليل، وذلك بالنظر إلى الغليان والتطورات السياسية الكبرى والفراغ الذي خلفه اندثار مؤسسة الخلافة، ولتداخل السياسي والديني في وعي العلماء. ثم إنه لا يزال هناك تجاهل أو عدم فهم للدور السياسي لعلماء ذلك العصر. وإن الجدل والنقاش حول مدى أهمية مواقف علماء القرن الخامس السياسية وفيما إذا كانت علاقاتهم بملوك الطوائف إيجابية أو سلبية، ليست وليدة الدراسات المعاصرة، بل إن إسهامات المؤرخين والفقهاء القدامى غنية في هذا الباب. (الكتاب ص 7)
إن مبررات دراسة المؤلف للمواقف والأنشطة السياسية لفقهاء الأندلس متعددة، لعل أهمها ظاهرة تحول عدد منهم إلى خلفاء وملوك وأمراء ووزراء…. وحمل آخرون لواء المعارضة السياسية أو المسلحة وفقدوا حريتهم أو حياتهم فداء لهذه المواقف… ثم إن أثرهم في صناعة القرار السياسي كان واضحا سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية. كما أن العلاقة بينهم وبين السلطة عرفت مدا وجزرا إلى أن انحازوا إلى المشروع المرابطي الكبير، مما يغري بالبحث في دوافع هذا التحول.
وإن من بين أهم المحفزات التي دفعت الكاتب لتناول موضوع هذا المؤلف نداءات الباحثين المختصين المغاربة والعرب والإسبان بضرورة الاهتمام بقضية علماء الأندلس في القرن 5 ه، وإن كان الغموض ما يزال يحيط بهذا الموضوع إما للتعصب المذهبي أو بسبب النظرة الجبرية للمؤرخين في تفسير الأحداث. فلم يحظ بالتركيز سوى شريحة الحكام، على الرغم أن المصادر التاريخية الأولية كافية ووجود جوانب مجهولة لم تر النور بعد ذلك. (الكتاب ص 9)
منهجية البحث
من أجل استجلاء إسهامات الفقهاء في المجتمع الأندلسي الوسيط، اتبع المؤلف في إنجاز هذا العمل منهجا وتصورا يستند على العناصر والمفردات الآتية:
- الالتصاق بنوع من المصادر القيمة حديثة الاستخدام من قبل الباحثين، ويقصد بها مصنفات التراجم والنوازل والأحكام والعقود، وكتب تاريخ الأدب ودواوين الفقهاء الشعراء.
- تناول تاريخ عصر الطوائف من زاوية مغايرة في إطار التجديد المنهجي ــ فبعد أن درس هذا التاريخ من زاوية الحكام والمدن والعامة، حان الوقت لدراسته انطلاقا من إسهامات فئة العلماء لتصحيح بعض الأخطاء حول “رجعيتهم وتبعيتهم للملوك»،وللخروج بتصور أعمق وأكثر موضوعية.
- اعتماد عينة من العلماء في هذه الدراسة وفقا لمعايير أهمها : درجة الإسهام في قضايا العصر، وتنوع الانتماء الجغرافي واحترام التسلسل والترتيب الزمني بحسب الإمكان، وتوفر المادة المصدرية، وإدراج نماذج من مختلف درجات الأهلية من العارفين بالله والمجتهدين إلى حملة المحابر والمؤدبين.
- تولية البعد الديني والمذهبي قدرا من الاهتمام يتناسب والدور الذي لعبته فتاوى فقهاء العصر وأنشطتهم المختلفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقضايا التربية والأخلاق والدعوة.
- تفادي إدراج مواقف فقهاء القرن 5هـ ضمن قوالب وتفسيرات إيديولوجية مسبقة، أو تصور جبري أو منهج اجتماعي تاريخاني يبتسر النصوص والأفكار من سياقاتها التاريخية وبأسلوب غير علمي. وفي المقابل بذل الوسع في البحث عن الحقيقة التاريخية انطلاقا من وقائع فعلية ثابتة ولم شتات مادتها المبعثرة وتفسيرها.
- تبني التصور الحضري والحضاري الذي يستمد قوته من تصورات مؤرخي وعلماء العصر الكبار كابن حيان وابن حزم وابن بسام وابن عبد البرام، الذين انطلقوا في تأريخهم لأحداث القرن 5هـ من الانتماء إلى الطبقة الحضرية والوعي بالازدهار الثقافي والتوسع العمراني الذي عرفته حواضر الأندلس.
- غض الطرف عن مواقف العلماء من القضايا ذات الصبغة الاجتماعية والاقتصادية والمالية رغم تداخلها أحيانا مع المواقف السياسية، على اعتبار أن هذا يستحق وحده أن يشكل موضوع أبحاث أخرى مستقلة.
محتويات الكتاب
إن هذا الكتاب يشكل القسم الأول من أطروحة دكتوراه تقدم بها الباحث في وحدة التكوين والبحث: “تاريخ الأديان والحضارات الشرقية”، بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان تحت إشراف الدكتور امحمد بن عبود، سنة 2003.
- الباب الأول:
خصصه لتتبع مواقف علماء الأندلس ذات الطابع السياسي في عصر الطوائف من مؤسسة الخلافة بمختلف تلاوينها سواء منها الأموية أو الحمودية أو المزيفة في مرحلة الاحتضار وإبان الفتنة الكبرى مع مطلع القرن 5هـ.
- الباب الثاني:
جمع فيه مواقف العلماء المشاركة والمنخرطة في ظل الأنظمة السياسية كوزراء ومستشارين وغيرها من المناصب الرفيعة، كابن الحديدي وابن رشيق وابن روبش الأب. وحلل كيف ساهموا بإيجابية وفعالية – رغم ضعف شرعية أنظمة الطوائف – في تسيير وتوجيه شؤون السياسة الداخلية من خلال المناصب الدينية والإدارية وبحكم إشرافهم على تطبيق المذهب المالكي والنظام التربوي وتمثيل مصالح الأمة الأندلسية.
ثم رصد ظاهرة انتزاء الفقهاء والقضاة واستيلائهم على السلطة والتي تزعمتها الأسر المثقفة والوجيهة ودشنها القاضي أبو بكر يعيش وابن مسرة وابن كوثر في طليطلة وتبعه أبو الحزم في قرطبة وابن عباد في إشبيلية، رغبة في ملء الفراغ السياسي.
وقد بين كيف ساهم الفقهاء فى إدارة الشؤون السياسية الداخلية لممالك الطوائف. إما كفقهاء رؤساء ثوار أو منتخبين أو كوزراء ومستشارين، وأنهم تعاملوا مع مسألة ضعف الشرعية بمرونة وواقعية على اعتبار التحولات الكبرى الحادثة. وحرص ملوك الطوائف على تحديد سقف المشاركة السياسية لهم.
ثم تطرق للمواقف المعارضة والمنقبضة للفقهاء أخذاً بعين الاعتبار القوة العسكرية والدهاء السياسي لملوك العصر واستمرار وجود مشكلة البيعة الشرعية من جهة، والخلفية الدينية للفقهاء، والتي لا تسمح لهم بالوقوف موقف المتفرج من جهة أخرى، فضلا عن مكانتهم الشعبية وإشرافهم على القضاء والتعليم والسهر على احترام تطبيق الشريعة في ظل المذهب المالكي.
لقد ألزمه تعدد الإشارات وغناها في المصادر حول ظاهرة انقباض العلماء كنوع من المعارضة السلبية أو النفسية أو الاستيحاش من الناس والقرار منهم بأن أفردها بقدر من الاهتمام ضمن مبحث المعارضة على اعتبار أنها في جانب منها مواقف سياسية.
- الباب الثالث:
اعتنى فيه بجرد وجمع مواقف علماء العصر ذات الطابع الدبلوماسي من السياسات الخارجية لأنظمة الطوائف، وعلى رأسها محاولات استعادة الوحدة السياسية أو على الأقل الحفاظ على السلم والصلح والاستعداد لمواجهة الخطر الصليبي المتصاعد، وصد النكبات والمشاركة في المفاوضات مع العدو النصراني بعد الهزائم العسكرية لانتزاع شروط تسليم مشرفة قدر الإمكان.
وبالموازاة مع هذه المساعي الوحدوية رفع الفقهاء أصواتهم بالحض على الجهاد والانخراط فيه لاسترجاع الثغور المحتلة. وتطرق لقضية ذات صلة بالعلماء والسياسة الخارجية لأندلس القرن الخامس الهجري : يتعلق الأمر بتنقلات الفقهاء الطوعية والقسرية التي تكثفت آنذاك، وجمعت عدة بواعث تفسر هجرات العلماء الاختيارية كالاستزادة من العلم والدعوة والوعظ – خاصة في الثغور – والحج والتجارة والبحث عن الحظوة عند من اشتهر من ملوك الطوائف بحب العلم والعلماء، والتحول عن مواطن الذل، غير أن بعض العلماء أصبحوا هم أنفسهم مقصدا و “دار الهجرة» و«الرحلة في وقتهم إليهم». أما عمليات التغريب والإزعاج والجلاء فشكلت بدورها – نتيجة لكثرة الفتن والاضطرابات والنكبات والمحن. دليلا آخر على النشاط السياسي القوي لعلماء عصر الطوائف.
خاتمة
لقد سلط الدكتور أحمد بوخبزة الضوء على مواقف علماء الأندلس من خلال تناولهم للقضايا السياسية خلال عصر الطوائف. وبعد مرافقة ومعايشة فقهاء وعلماء الأندلس طيلة القرن الخامس الهجري، وفي مختلف ممالك الطوائف سواء في القصور أو السجون أو الرباطات والثغور والمعارك، وفي مختلف الأنشطة والمواقف الحياتية السياسية الداخلية والخارجية، كما اهتم بقضايا تاريخية سياسية من تاريخ الأندلس الوسيطي كانت مهملة، وبظواهر انقباض العلماء ومعارضتهم لأنظمة الطوائف وامتناعهم أو استعمالهم وقرارهم من المناصب الرفيعة، والمحن التي تعرضوا لها جراء مواقفهم، والجهود المضنية التي بذلوها فىي مرحلة الفتنة ومطلع عصر الطوائف لإحياء مؤسسة الخلافة، ثم محاولة الحفاظ على الوحدة السياسية قبل أن يتقدموا اطلاع متفوق الأندلسيين المستنجدة بالدولة المغربية المرابطية الناشئة.
وبالرغم من المجهود المبذول فإن المؤلف، يؤكد، أنه لا تزال مصادر التراجم والنوازل والأحكام والعقود المخطوطة والمطبوعة وتأليف الفقهاء والعلماء الأندلسيين بمختلف تخصصاتهم، تسمح بمزيد من الاستنطاق والتنقيب عن إسهامات علماء الأندلس على كافة الأصعدة في أحداث القرن الخامس أو قبله وبعده.