
المحتويات
توطئة
موضوع الفتاوى الفقهية من الموضوعات التي شغلت اهتمام علماء المسلمين قديما وحديثا، وخاصة فقهاء المذهب المالكي بالغرب الإسلامي الذين وجهوا لها كامل عنايتهم في كل عصر، وخصصوا لها حيزا مهما من أوقاتهم جمعا وتأليفا وتدوينا وتبويبا، ولا أدل على ذلك ما تزخر به المكتبات من نفائس المؤلفات، التي تعد مرجعا أساسيا للفقهاء والقضاة، وعونا في معرفة حكم ما يعرض عليهم من الفتاوى والأحكام، ويطرأ من النوازل والمستجدات مع توالي الأيام، وتطور الحياة الإنسانية في مختلف جوانبها، حيث تعكس النوازل واقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للناس، وتؤرخ لفترة زمنية عاشها المفتي.
وتعد مهمة الإفتاء مسؤولية دينية ودنيوية معا، فالمفتي مخبر عن الله كما يقول الفقهاء، أي عن شرعه وأحكام دينه، وهو بمقتضى ذلك يجب أن لا يصدر فتوى إلا بعد التحري والمبالغة في تحرير مناط المسألة والتماس الدليل الشرعي عليها. ومن حيث أن الفتوى تتعلق بأحكام المعاملات، كما تتعلق بأحكام العبادات، فتمنع بها حقوق وتستباح حرمات، فإن المفتي يتحمل بذلك عبئا ثقيلا من أمر الدين والدنيا.
مضامين الكتاب
كتاب “فتاوى العلامة عبد الله كنون” صدر عن “جمعية مكتبة عبد الله كنون” بطنجة سنة 1995/1415م، ويقع في 89 صفحة. وهذه الفتاوى بعضها سبق نشرها على فترات زمنية متباعدة في مجلة “لسان الدين” التي كان يصدرها الأستاذ كنون في تطوان، وجريدة “الميثاق” لسان رابطة علماء المغرب. وبعضها الآخر كانت فتاوى خاصة طلبت منه لفائدة جهات رسمية بالمغرب وخارج المغرب أو لفائدة الأفراد الذين كاتبوه لاستطلاع رأي الدين فيما عرض لهم من مسائل. والطابع الذي يميز جل هذه الفتاوى هو طابع الجدة وتقدير المسؤولية، أما الجدة فهي في الموضوعات التي تناولها من حيث أنها تهم رأي الإسلام في مسائل من حياة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وأما تقدير المسؤولية فيتجلى في كونه لم يتأخر عن إبداء رأي الإسلام فيما يعرض عليه أو فيما يعرض للناس في حياتهم ويكون مصيريا بالنسبة لهم. ونسوق مثالا على ذلك محنة الشعب المغربي إبان عهد الحماية البغيض وذلك عندما رفع جماعة من القواد الإقطاعيين عريضة إلى الإقامة العامة الفرنسية يطالبون فيها بخلع محمد الخامس الملك الشرعي للمغرب فتصدى لهذه القضية مبينا شرط الشرع في أهل الحل والعقد الذين يولون ويعزلون. وكان لهذه الفتوى صداها بين أوساط العلماء في جميع أنحاء المغرب. ومثال آخر من نفس المناسبة حيث كانت حركة الفداء والمقاومة على أشدها في المغرب سنة 1954، وقبض البوليس الفرنسي على الفدائي الشهيد محمد الزرقطوني، فلما رأى أنه لا يستطيع الفرار، وربما يضعف أمام أجهزة التعذيب فيفشي بما عنده من أخبار المقاومة حينئذ قتل نفسه بالسم. وأشاع أهل السوء أنه مات على غير ملة فأصدر الأستاذ كنون فتواه في الموضوع كان لها أيضا دور وطني عظيم في إذكاء روح الحماس لدى الفدائيين وأسقط في يد الاستعمار وأعوانه.
وهناك موضوعات أخرى تعرض لها العلامة كنون في فتاواه فأبانت عن حكم الشرع الإسلامي فيها وأوضحت أن الأستاذ كان يمتلك كل الشروط ليقول في كل المسائل عن اجتهاد وتبصر. ومع ذلك كان حريصا أن لا يفتي في كل شيء. وحريصا أكثر على الإدلاء بما علمه الله في المهم من الأمور. وأشد حرصا على تقدير المسؤولية في الفتوى بعد أن توفرت فيه كل مؤهلاتها من معرفة بكتاب الله وحفظه للسنن المروية عن رسول الله ﷺ ومعرفة بمعاني الخطاب وموارد الكلام ومصادره، ومعرفة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وما اتفقوا عليه مما اختلفوا فيه، ومعرفة وجه النظر والاجتهاد والقياس ووضع الأدلة في مواضعها والترجيح والتعديل. وهذه هي مجمل الشروط التي ذكرها ابن رشد في “البيان والتحصيل” والقرافي في “شرح تنقيح الفصول”، والشاطبي في “الموافقات” وغيرهم.
إن هذه الفتاوى التي صدرت عن الشيخ كنون كانت صادرة عن عالم مدرك لخطورة القضايا التي تناولها عالم ممحص لموضوعاته. ولأنه يعلم أن المفتي مخبر عن الله فإنه، من هذا المنطلق خاض في موضوعات التقدم العلمي الراهن مثل مسألة الصعود إلى القمر وأطفال الأنابيب والتلقيح الاصطناعي. وكان حديثه عن الصعود إلى القمر ليس بصيغة فتوى لأنه قرر فيه فقط أنه مأثرة علمية جليلة، وهي مما يستدل به على صحة وقوع المعراج النبوي وليس في الإسلام ما يعارض صعود الإنسان إلى القمر وما يناقض تعاليم الإسلام. وإذا كان حديثه عن الصعود إلى القمر لم يكن بصيغة فتوى، فإن حديثه عن أطفال الأنابيب والتلقيح الاصطناعي هو فتوى شارك بها حول هذا الموضوع الذي كان في جدول أعمال المجمع الفقهي بمكة المكرمة. وسيرى القارئ الكريم في تلك الفتوى ما يسمح به الدين الإسلامي مما لا يسمح به.
وفي هذه الفتاوى أيضا نوع آخر فريد في بابه، حيث كان العرف المغربي جاريا به إلى وقت قريب والمقصود ظهائر التوقير والاحترام الخاصة بالتوصية على تعظيم أهل الفضل من ذوي العلم والعمل واحترامهم في كل مكان، مستدلا على جواز ذلك بالآية الكريمة من قوله تعالى: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا”. ومن قول عمر بن الخطاب في وصيته لجيوش الفتح الإسلامي: “وستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوها له”، وهو تخريج لطيف ينفي عن تلك الظهائر الطبقية والنخبوية كما أولها بعض المتأولين من الباحثين المتأثرين بالإيديولوجيات والمذاهب الغربية. (الكتاب، ص: 3/2/1)
وإجمالا فقد تضمن الكتاب بعد التقديم الفتاوى التالية: حكم تشريح الجثث، حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، حكم التجنيس بجنسية أجنبية، عريضة القواد في ميزان الشرع، حكم قاتل نفسه، حول تحديد الملكية، حول الإحرام من الطائرة، على المسلم أن لا يتخذ أحدا غير رسول الله مقياسا للحق، حكم اتجار المسلم في الخمر ومسائل أخرى، حكم الإسلام في الاستعاضة بالصدقات عن الأضحية، فوائد السلف الاستثمارية، السفر المبيح للفطر في رمضان، المبتعثون يصومون وإذا أفطروا فعليهم القضاء، حول صرف الزكاة في المصالح الاجتماعية، حول زكاة عروض التجارة، مصاريف الزكاة للهلال الأحمر المغربي، الزكاة للهلال الأحمر، حول صرف الزكاة في نشر العلم وبناء المدارس، سؤال وجوابه في زكاة الفطر، حول الحبس المعقب إذا تعطل، وضعية الحبس في الإسلام والمعاوضة عنه، حكم التراجع عن التحبيس، جواز الدفن في المقابر الدارسة، حكم تشييد المدارس أو المساجد على المقابر القديمة، أسئلة حديثية والجواب عنها، تعدد إقامة صلاة الجمعة في البلد الواحد، هل المعراج موسم شرعي؟، مسألة اختلفت فيها الأقوال ولكن التوفيق بينها ممكن، هل ينبغي للمرأة المسلمة أن تحمل اسم زوجها بعد الزواج، جواب عن بعض البدع الشائعة، تعظيم أهل الفضل من ذوي العلم والعمل، مسألة في موضوع الأخوة من الرضاع، الدين والصعود إلى القمر.
خاتمة
لقد تم الاهتمام بما قدمه العلامة عبد الله كنون في الباب، ومحص الباحثون فتاواه، مما جعل منه قبلة للمستفتين وبلسما لجراحهم. فقد كان يمتلك من شروط الإفتاء ما جعله أهلا لذلك متميزا على غيره بالمهارة في صنعته وحرفته، والحذق في أموره والتحفظ في كل ما يقوم به شأنه في ذلك شأن العلماء الكبار الذين يمتازون بالدقة وضبط الأمور. وساعدته صليقته اللغوية في ذلك، حيث كانت له اليد الطولى في خدمتها وإظهار ميزتها وجمالها، وعزها ومجدها، ورتبتها وفضلها. ويكفيه فخرا أنه العالم الوحيد الذي تصدى لتصحيح ما ورد في منجد الآداب والعلوم من أخطاء مبينا وجه الصواب، وبهذا يكون قدم خدمة جليلة للغة الضاد. ومن تتبع فتاويه وجـدها تتصف بسمات خاصة تدل على تميز صاحبها.