توطئة

تعتبر السيميائيات المسرحية واحدة من الفروع السيميائية الهامة والأساسية في مجال البحث السيميائي، على اعتبار أنها تركز في الأساس على استنطاق البنية الدلالية لهذا النسق الأدائي، والذي تستحضر فيه مختلف المستويات الدلالية وما تحيل إليه هذه الأخيرة من أبعاد ضمنية عميقة وثيقة الصلة بالنص المسرحي، من جهة، والسياق المؤطر لهذا الأخير من جهة أخرى، ناهيك عن رمزية التلقي، والتي تلعب دورا أساسيا في كشف الدلالي لهذا النسق.

وخلال النصف الثاني من القرن العشرين أصبح الحديث ممكنا عن التحليل السيميائي للمسرح ودراسة النص الدرامي من جميع جوانبه دراسة سيميائية تغوص في أعماقه وتستكشف مدلولاته وتفتت معانيه، وهي المقاربة التي خضعت المتغيرات كثيرة أثرت في الخطاب المسرحي ككل، مما سيؤثر إيجابا على العلاقة الإستلزامية التي تربط بين المخرج والناقد المسرحي. وفي ثمانينات القرن العشرين سيدرك صانعي الفرجة أهمية المنهج السيميائي في معالجة العرض المسرحي بوصفه فعلا سيميائيا ومرتعا خصبا للمعنى، وفيه سيصبح كل شيء على خشبة المسرح عبارة عن دال يؤدي إلى مدلول وبذلك تخلص النقد المسرحي من الانشغال بالبحث عن المضامين السياسية والاجتماعية والنفسية في النصوص الدرامية، واتجه نحو البحث عن طبيعة العلامة وعلاقة النص بالعرض، وطبيعة التلقي لدى الجمهور المسرحي، ومستويات التحليل السيميائي لمكونات العرض وعناصره.

مضامين الكتاب 

كتاب “سيميائيات المسرح: إمكانات المقاربة وحدود الاقتحام” واحد من كتب الدكتور عمر الرويضي، مؤسس ورئيس هيئة تحرير مجلة “فكر العربية”، مجلة دورية ثقافية فكرية محكمة، وأستاذ بماستر “دراسات مسرحية” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية- المحمدية. ويقع الكتاب في 199 صفحة صدر عن مطابع لينا بدعم من وزارة الثقافة المغربية سنة 2016م.

يعد المسرح من الخطابات الأدبية التي تنشد حصول التواصل بينه وبين جمهوره. إذ يستحيل الحديث عن عرض مسرحي مميز أو فرجة مسرحية جيدة في الغياب التام للتواصل الخلاق مع الجمهور، بل يعتبر الجمهور أحد الأركان الأساسية للنهوض بالفعل المسرحي، فهو المقياس الذي يحدد مدى نجاح العملية التواصلية أو فشلها. ولما كان المسرح فعلا تواصليا بامتياز، فقد أصبح موضوعا للعديد من الدراسات النقدية الهامة التي حاولت الكشف عن مكنوناته، ومن ثم استجلاء إمكاناته الأدبية والفنية، وأبعاده الدلالية العميقة. ومن بين المناهج النقدية التي توسل بها النقاد من أجل سبر العلائق التواصلية التي يقيمها المسرح مع الفضاء العام المحيط به، نجد المنهج السيميائي، باعتباره منهجا يتوخى بالضرورة البحث في أشكال التواصل المتاحة. لاسيما إذا علمنا أن المادة الأساس في علم العلامات هي التواصل بأنواعه المختلفة (مقدمة الكتاب ص 4).

وقد حاول المسرح المعاصر أن يقيم التواصل الفعال بين المتفرج والخشبة، ويتجاوز بذلك عقبة عدم التلاقي، ويقع الثقل على المخرج المسرحي باعتباره المسؤول الأول عن حل هذه المشكلة، وتوضيح طبيعة العلاقة التواصلية التي تجمع الصالة بمؤثثات الخشبة. وبما أن العرض المسرحي حزمة من الدلالات، يمكن تعريف الإخراج بأنه عرض لقول مسرحي صوتي ومرئي، بواسطة أنواع مختلفة من التجنيد المادي. ولكي يصل إلى هذه الغاية، يجد المخرج في متناول يده مجموعة من اللغات التي يمكنه أن يسند إليها دلالات مختلفة، منها: الديكور والاكسسوار، والأزياء، والألوان، والإضاءة، والمؤثرات الصوتية الخ.. ولكل واحدة من هذه اللغات إمكانات غير محدودة من التدليل. حاولت أبحاث علمية مختلفة أن تحصرها، يأتي في طليعتها سيميائيات المسرح.

هذا الكتاب هو محاولة للكشف عن دور العلامات المسرحية في نسج علاقات تواصلية واضحة بين الخشبة والصالة، وكيف يمكن إدراك دلالة العرض المسرحي وفق الأنساق السيميائية، خاصة النسقين البصري واللساني، كما يمكن أن تتساءل عن نوعية العلاقة التي يمكن أن تربط بين مختلف هذه الأنساق، هل هي علاقات تفاعل وتكامل أم علاقات تفسير وتدليل؟.

واعتبر الرويضي أن الإشكال الذي يضعنا فيه التصور النظري، هو ذاك المتعلق بالبعد التطبيقي للمقاربة السيميائية، فإذا كانت السيميائيات بمفهومها العام والخاص تنتج جهازا مفاهيميا فيه من الكفاية الوصفية والتفسيرية ما يمكن من مقاربة مجموعة من الظواهر اللسانية وغير اللسانية، فإن السؤال المفترض في هذا العمل، يتصل أساسا بكيفيات التطبيق والممارسة. وفي هذا السياق، يمكن أن نطرح الإشكال التالي: كيف يمكن مقاربة العرض المسرحي سيميائيا؟.

وجوابا عن هذا الإشكال قسم  كتابه إلى فصلين رئيسين، عالج في  الفصل الأول الأسس النظرية لبناء المنهج السيميائي في ثمانية مباحث رئيسة، إذ بدأ بمناقشة موضوع البدايات الأولى للمشروع السيميائي العربي والغربي وصولا إلى السيميائيات الحديثة مع “سوسير” و “بورس”… ووضح الاختلافات الحاصلة على مستوى المرادفات السيميائية وأسباب تعددها، وبحث في طبيعة العلاقة بين السيميائيات واللسانيات وإشكالية الأصل والفرع. وانتقل لتوضيح الاتجاهات السيميائية الثلاثة، ثم أهم المجالات الإبداعية التي اشتغل عليها المنهج السيميائي، كالشعر، والإشهار، والسينما، والتشكيل، ثم المسرح (مقدمة الكتاب ص 5). وفي المباحث الأخيرة، وقف على مفهوم سيميائيات المسرح وأهم أسسها النظرية، وناقش العناصر المشكلة للتواصل المسرحي، كالديكور، والنص الدرامي، والشخصيات، والإضاءة، والأزياء، والماكياج، والمؤثرات الصوتية، ثم الجمهور المسرحي.

بينما تألف الفصل الثاني من تسعة مباحث، ما ميزها هو الهامش التطبيقي؛ إذا ركز على قراءة العرض المسرحي “طعم الطين ” لمخرجه عبد المجيد شكير، قراءة سيميائية انطلاقا من العناصر الجمالية المشكلة لخطاب الخشبة من إضاءة، وديكور وأزياء، ومكياج… وغيرها، في محاولة للإجابة عن الإشكال السالف الذكر، والذي تبين له من خلال عملية التحليل أن المنهج السيميائي من أنجع المناهج النقدية، وأكثرها خصوبة للوقوف عند الظاهرة المسرحية وإبراز أبعادها الفنية والجمالية، واستغوار إمكانيته التدليلية والتأويلية.

وإجمالا فبعد المقدمة، حمل الفصل الأول عنوان: السيميائيات والمسرح أي مقاومة، المبحث الأول: السيميائيات وسؤال البداية، السيميائيات التقليدية في الفكر العربي، السيميائيات التقليدية في الفكر الغربي، السيميائيات الحديثة، المبحث الثاني: السيميائيات وإشكالية المصطلح، المبحث الثالث: السيميائيات واللسانيات وإشكالية الأصل والفرع، المبحث الرابع: الاتجاهات السيميائية، المبحث الخامس: السيميائيات وبعض المجالات الإبداعية الأخرى: السيميائيات الشعرية، سيميائيات الصورة الإشهارية، سيميائيات السينما، سيميائيات التشكيل، سيميائيات المسرح، المبحث السادس: في مفهوم سيميائيات المسرح، المبحث السابع: الأسس النظرية السيميائيات المسرح، المبحث الثامن عناصر التواصل المسرحي: السينوغرافيا والنص البصري، النص الدرامي رسالة صوتية للعرض المسرحي، الممثل علامة أو سند، الديكور: علامة أولية، الإضاءة علامة شكلية مصاحبة، الأزياء لغة تصنيفية، الماكياج : لغة نفسية، المؤثرات الصوتية قيمة مضافة، الجمهور المسرحي والقراءات المتباي، تركيب. أما الفصل الثاني فحمل عنوان: التحليل السيميائي للعرض المسرحي «طعم الطين» تمهيد، المبحث الأول: قراءة أولية في عتبات العرض المسرحي، البطاقة التقنية للعرض، ملخص مركز حول مضمون العرض. الكتابات النقدية الصادرة بخصوص العرض، المبحث الثاني : السينوغرافيا والنص البصري، المبحث الثالث: النص الدرامي والرسالة الصوتية للعرض، المبحث الرابع: جسد الممثل وأنماط السنن المسرحية، الإيماءة، الإيماءة الرجالية، الإيماءة النسائية، الإيماءة الانفعالية، الإيماءة الدالة على الهيمنة والتفوق، الإيماءة الدالة على الخضوع والامتثال، المبحث الخامس: الأزياء لغة تصنيفية، المبحث السادس: المؤثرات الصوتية قيمة مضافة، المبحث السابع: الإضاءة علامة شكلية مصاحبة، المبحث الثامن: الماكياج لغة نفسية، المبحث التاسع: الجمهور المسرحي والقراءات المتباينة، ثم أخيرا الخاتمة.

خاتمة

إن ما يميز المقاربة السيميائية للعرض المسرحي عن باقي المقاربات الأخرى، وجود جملة من التشاكلات داخل القراءة الواحدة، تبعا لثقافات المتلقين وإمكاناتهم الفكرية والثقافية وأهوائهم وإيديولوجياتهم.. وهو ما يعني قدرة العرض المسرحي اللامتناهية على توليد المعنى ومنح المتفرج عددا لا محدودا من القراءات، ما يفند في المقابل وجود قراءة جمعية متفق بشأنها. كما تكمن قوة العرض المسرحي في كونه فرجة مفتوحة إلى ما لانهاية، ويمكن لكل متفرج أن يقرأه بمنظاره، أو من منظوره الخاص به، وهو ما يؤكد أهمية السيميائيات بالنسبة للمسرح، ويجعلها أساسا منهجيا يساعد على فهم الفرجة المسرحية.

تقوم السيمياء على قراءة المسرح بطريقة مختلفة عن طريق التقاط كل إشارة يطلقها المبدع كاتب، ممثل، مخرج، لتفتح لها أبواب الخيال وتحررها من قيودها المفروضة عليها وتسمح لها بالتحرك الحر في فضاء أوسع؛ لتُحدث تأثيرًا مختلفًا وبالغًا في نفس المتلقي، خصوصًا عند ما تكون المسرحية ذات طابع قيمي وجدة فنية، وكتاب الدكتور الرويضي يقرب الباحثين والمهتمين بالحقل المسرحي من سيميائيات المسرح.