المحتويات
توطئة
لقد اهتم المغاربة بعلم أصول الفقه، باعتباره أحد المباحث الأساسية التي لا بد لطالب العلم من الإحاطة بها ضمن تكوينه الفقهي، وقد تجلى هذا الاهتمام بشكل أساسي في مدارسة المصنفات الأساسية التي أسست لهذا العلم من جهة، ومن جهة أخرى نشاط حركة التأليف والتصنيف في مباحثه، وقد تنوعت تلك التآليف ما بين شروح ومختصرات، وهي بذلك تدل على الحاجة لتبسيط تلك المباحث لعموم الطلبة في حقل العلم. ويأتي كتاب “تقييد المباح دراسة أصولية وتطبيقات فقهية” مساهمة لإغناء المكتبة الإسلامية والبحث في قضية أساسية من قضايا الأصول، وذلك بالنظر إلى من القضايا الشرعية التي لا تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة والاستقراء والتحليل، لعلها أن تساهم في تطوير الرؤية الشرعية حول هذه الموضوعات. وقد صدر الكتاب عن مركز نماء للدراسات والبحوث في إطار سلسلة الدراسات الشرعية، في طبعته الأولى 1435 ه/2014م لصاحبه الدكتور الحسن الموس. والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه يقع في 319 صفحة.
تقديم المُؤلِّف
ولد الدكتور الحسين الموس عام 1960 بمنطقة مدغرة عمالة الراشدية، من أسرة متدينة. وهو الواعظ والخطيب بمدينة تمارة،حصل على شهادة الباكالوريا علوم الرياضية من ثانوية عبد الكريم الخطابي بالرباط، عام 1983، وشهادة شهادة التبريز في الرياضيات من المدرسة العليا للأساتذة بالدار البيضاء، المغرب، وشهادة الإجازة في الدراسات الإسلامية من كلية الآداب بالرباط، و دبلوم الدراسات العليا المعمقة في العلوم الإسلامية شعبة الفقه المالكي بميزة حسن من دار الحديث الحسنية، المغرب، وفي 2013، حصل الموس على شهادة الدكتوراه في موضوع: ” تقييد المباح دراسة أصولية وتطبيقات فقهية مدونة الأسرة المغربية نموذجا” بميزة مشرف جدا.
كما عمل أستاذا زائرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة، ماستر الاختلاف في الشريعة الإسلامية، مادة الاجتهاد، وأستاذا زائرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ماستر مقاصد الشرعة والبناء الحضاري، ويعمل حاليا بسلك تحضير شهادة تقني عالي بالدارالبيضاء. وهو عضو فريق إنتاج دلائل الوساطة والإرشاد الأسري بمركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون بالمغرب، ونائب مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط، شارك في ندوات علمية حول الأسرة وقوانينها داخل المغرب وخارجه.
وصدر للدكتور الموس، الكتب الآتية:
- الحريات الفردية تأصيلا وتطبيقا عن مركز المقاصد للدراسات والبحوث، طبع دار الكلمة بمصر فبراير2019.
- تقييد المباح دراسة أصولية وتطبيقات فقهية، عن مركز نماء للدراسات والبحوث بلبنان، وهو الجزء النظري من رسالة الدكتوراه.
- مدونة الأسرة في ضوء تقييد المباح عن مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون بالدار البيضاء المغرب.
- قواعد في ترشيد الاستهلاك، مطبعة طوب بريس 2017.
- الحريات الفردية تأصيلا وتطبيقا، 2019.
دواعي البحث ومقاصده
لماذا هذا الكتاب؟ لأن منطقة المباح هي إحدى أوسع مناطق التكليف في الشريعة. وهي أهم منطقة يتم من خلالها التوسعة والتيسير على المكلفين. ولأن موضوع تقييد المباح من الموضوعات الأصولية التي تطل بأهميتها في الوقت الراهن مع تطور مؤسسات الدولة وتدخلها في حياة الأفراد عبر التقييد لكثير من الممارسات المباحة التي لم يحرمها الشرع في الأصل. ولأنه مع البحث الفلسفي في الدولة الحديثة وفكرة الحرية وحدودها والحرية الفردية وتقاطعها مع مصالح المجتمعات يظل سؤال الحرية والمباح وتقييده سؤالاً مشروعاً. من أجل ذلك جاء هذا الكتاب، والذي يحاول فيه مؤلفه أن يجيب عن إشكالات هذا الموضوع بحثاً في المفاهيم والضوابط والتطبيقات في مجال فقه الأسرة وكيف تعاملت المدونة الفقهية الإسلامية مع التقييدات ومدى مشروعيتها والضوابط التي تحول دون الخطأ فيها، والقواعد الفقهية التي استعملها الأصوليون في تقييد المباح ودور الحاكم ومؤسسات الدولة في تقييد المباح وضوابطه، ومدى مشروعية هذه الإجراءات التقييدية.
إن الدارس لتراث علماء الفقه والأصول يجد مادة خصبة غنية مازالت بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتمحيص. وإن موضوع المباح الذي يقع ضمن الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة، تطور بحثه خلال القرون، لكن يلاحظ أن بعض جوانبه لا تزال في حاجة ماسة وملحة إلى تبيين وتجلية لما لها من تأثير مباشر على واقع الناس. ولعل ضوابط التعامل مع المباح والقيود التي يمكن أن تلحقه من تلك المسائل التي تحتاج إلى مزيد من التقعيد والبحث. ويؤكد تلك الحاجة طغيان العقلية الاستهلاكية على جل أفراد الأمة؛ لدرجة أن التوسع في كثير من المباحات والكماليات صرف همّة الناس عن البناء والتنمية لقدراتهم، وأدى إلى تعطيل كثير من المصالح العامة وتضييع بعض الحقوق والواجبات. (الكتاب ص 9- 10)
فلئن كانت الأمة في بداية القرن الماضي بحاجة إلى من يوسع لها دائرة المباح ويزيل عنها القيود والأغلال التي لحقت بالتدين عبر القرون – وهذا ما تم بحمد الله – فإنها اليوم بحاجة لمن يردها إلى القصد والاعتدال ويحيي فيها فقه التعامل مع المباح، ومعرفة حدوده و ضوابطه، كمنع الإسراف الذي قال عنه الشاطبي: ”والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب وهو شرط من شروط تناول المباح”[1]. و لاشك أن ضوابط وقيود التصرف في المباح لا تقتصر على الإسراف فقط؛ بل تتعدّاه إلى جوانب أخرى في حياة الفرد والجماعة، وحاولت هذه الأطروحة الوقوف عند بعضها.
على أن دائرة الإباحة المبينة في القرآن أو السنة، ودائرة العفو مما هو مسكوت عنه من أفعال المكلفين تغطيان مجالا واسعا في حياة المكلف، وهذا البحث محاولة في تقليب النظر حول مقصد المباح ضمن الأحكام التكليفية، وما يعتريه من أمور تجعله ينصرف عن مطلق الإباحة فيقيد بقيود قد تجعله واجبا أو حراما، مندوبا أو مكروها. وإذا كان بعض العلماء – قديما وحديثا- اعتنوا بالمباح وضوابطه فإن ذلك ظل محصورا، ولم يستوعب كل فئات المجتمع وطبقاته. فأضحت الحاجة مُلحة، أكثر مما مضى، إلى دراسات حول المباح ضمن إطار معرفي فقهي أصولي، منضبط بكليات الشريعة ومقاصدها في الخلق، يروم نشر الوعي بفقه المباح، وتجلية حدوده وضوابطه، ووضع التشريعات التي تحول دون جعله وسيلة للإضرار بالآخرين.
محاور الكتاب ومضامينه
جاء تقسيم البحث إلى مقدمة وبابين ثم خاتمة وفهرس ولائحة بأهم المصادر والمراجع.
أبرز الباحث في المقدمة أهداف البحث، ومقاصده، وعرض أهم الكتابات السابقة عليه ، وكذلك منهجيته وصعوباته .
الباب الأول:
خصّصه لتحديد مفهوم تقييد المباح، والتأصيل لمشروعيته من خلال الكتاب والسنة وأقوال علماء الأصول. فجاء مشتملا على فصلين اثنين. وتضمّن الفصل الأول المعنى اللغوي والاصطلاحي لتقييد المباح، كما تمّ فيه تتبُّع التطور التاريخي لإعمال قاعدة تقييد المباح في الكتابات الأصولية، بدءا من الرسالة للشافعي، ومرورا بكتابات الجويني والغزالي والشاطبي، وانتهاء بالأصوليين المعاصرين. واتضح من خلال ذلك أن جُل الأصوليين أعملوا مبدأ تقييد المباح لكن بصيغ وأساليب مختلفة.
أما الفصل الثاني فقد تناول فيه المؤلف القواعد العامة المُفيدة لتقييد المباح. فدرس قواعد المآل والذرائع ، وبيّن أن إعمالها يؤدّي إلى منع تناول المباح عندما يكون ذريعة إلى الحرام، كما أنه يُفيد الإلزام به عندما يكون ذريعة إلى تحصيل الضروريات أو الحاجيات. كما تطرّق لقواعد الضرر ودورها في تقييد المباح، من خلال نماذج متعددة من الكتاب والسنة وبعض مدونات ونوازل الفقه المالكي. وإذا كان تغيّر الأحكام التكليفية يقوم على مراعاة مقاصد الشرع في التشريع، فإن انتقال المباح إلى غيره من الأحكام، أو تقييده ببعض الضوابط والقيود يجب أن يستند أيضا إلى قواعد المصلحة، وهكذا قام البحث بتحديد علاقة المصالح بالحكم التكليفي عامة، وبالمباح خاصة. وأبرز هذا الفصل أيضا مشروعية تحكيم العرف في تقييد ما يباح من التصرفات الفردية والجماعية. فاختلاف العوائد يُؤدّي إلى تغيير الحكم الشرعي، وخروجه عن الإباحة إلى غيرها من الأحكام. وظهر من خلال ذلك حاجة المكلف إلى التبصر بعوائد وأعراف زمانه، حتى يتسنّى له الإحسان في إتيان المباح، بحيث لا يوقع نفسه في الحرج أو الخروج عن مألوف بيئته وعرف زمانه. أما قواعد الاحتياط، فقد اعتبرها بعض الأصوليين مظهرا لحفظ مصالح الأحكام من الفوات، وجعلوا قواعد المآل والذرائع فرعا عنها[2]. وظهر من خلال البحث أنها تُسعف في تقييد المباح، وثم الاستدلال على ذلك من خلال نماذج وأمثلة متعددة.
الباب الثاني:
خصصه الكاتب لبيان أثر تقييد المباح في حياة الأمة الاجتماعية، وتنزيل ذلك من قبل الدولة. فثمرة هذا الباب وغايته هي تحديد الجهات التي لها صلاحية تقييد المباح، وتحديد مجالات تنزيلها وضوابطها. وقد اقتضت منهجية الكتابة تخصيص قاعدة ”صلاحية ولي الأمر في تقييد المباح” ببحث مستقل، وتمييزها عن بقية الأصول والقواعد المُفيدة لتقييد المباح نظرا لمركزيتها وأثرها الإلزامي. وهكذا أبرز في هذا الباب الأسس المفيدة لمشروعية تقييد المباح من طرف الدولة، وبعض جوانبه التطبيقية، استنادا إلى القاعدة السالفة الذكر.
وفي الفصل الأول من هذا الباب تناول المؤلف التأصيل الشرعي لقيام الدولة بتقييد المباح على الرعية. وتمّ الاعتماد في ذلك على أمهات كتب السياسة الشرعية التي أصّلت لمشروعية قيام ولي الأمر بتقييد المباح، وكذلك على الدراسات المعاصرة حول دور الدولة في تقييد المباح. وظهر من خلال ذلك أن قاعدة ”للإمام تقييد المباح منعا وإلزاما” من الفروع الهامة لقاعدة ”تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”. وأن تنزيلها يحتاج إلى وجود مؤسسات متخصّصة تتوفر على المؤهلات اللازمة لحسن تنزيل تقييد المباح. كما تطرّق الفصل للضوابط اللازمة والتي ينبغي اعتبارها من طرف الدولة ومؤسساتها قبل تقييد المباح على الرعية.
أما الفصل الثاني فقد تتبّع فيه القيود والضوابط المستقاة من الشريعة الإسلامية في موضوع العلاقة بين الزوجين، لأن ذلك لبنة أساسية في حفظ الأسرة، قد تُغني عند حسن الالتزام بها عن تدخل القضاء لمعالجة الشقاق أو الخلاف.
واشتملت الخاتمة على أهم نتائج البحث، والآفاق التي يستشرفها، وخلصت إلى أن إعمال القاعدة له آثار إيجابية على الفرد والمجتمع. ولذلك نعتقد أن نشر الوعي بها عند المكلفين يُسهم إلى حد بعيد في تحقيق مقاصد الشرع، واستقامة أحوال المجتمع.
خلاصات
حاول الكاتب تناول ما غفل عنه الباحثون والدارسون كي لا يتم التكرار، كما اعتبر التفقه في المباح وإدراك مقاصده ضرورة لا محيد عنها بالنسبة إلى المكلف، وقد تقرر عنده:
- أن أصول تقييد المباح ترجع إلى خمس قواعد كبرى يجب العناية وشرها وتعليمها للمكلفين عامة ولذوي الرأي والمشورة من الأمة خاصة، وهي: قواعد اعتبار المال والذرائع سدا وفتحا، وقواعد الضرر ومنع التعسف في الحقوق والإباحات، وقواعد المقاصد ومن جملتها قاعدة: الأمور بمقاصدها، وقواعد الاحتياط، وقواعد العرف.
- إن قضية المباح مسألة خاضعة للضبط والتقييد وليست قضية مرسلة من غير قيد ولا شرط.
- إن صور التدين التي عمل بها السلف، والتي تتعلق بدائرة الإباحة “كاللباس والزينة وأمثالها” لا تلزم الأمة في كل أزمانها وأماكنها، بل أحكامها تتغير، بحسب الأعراف والمصالح.
- خلص إلى أن وازع السلطان يتكامل مع وازع القرآن في التصور الإسلامي. وإذا تقاعس الفرد عن الالتزام بضوابط المباح وقيوده، فإنه يجوز – وقد يجب – على الدولة أن تتدخل حماية للمصلحة العامة، وذلك بتقييد التصرفات الضارة بحقوق الغير، وإن كانت في أصلها مباحة. وهكذا قام البحث بالتأصيل لمشروعية تقييد المباح من طرف الدولة بتصرفات النبي بالإمامة، وكذلك بتصرفات وأقضية الخلفاء الراشدين، ثم بأقوال علماء الأصول المعتبرين، من خلال الأدلة الأصولية والقواعد الفقهية العامة التي أصلوها ووضعوها.
- تطرق البحث أيضًا إلى بعض مجالات تقييد المباح التي يمكن أن تشرف عليها الدولة، مما له علاقة بالمرفق العام، كتحقيق الأمن الغذائي والاقتصادي للأمة، وتحقيق التكافل الاجتماعي وفرض الضرائب عند الحاجة، وحفظ وتماسك الأسرة.
المراجع
[1] الشاطبي الموافقات، المجلد الأول، ج1، ص 85.[2] نظرية الاحتياط، محمد عمر سماعي، ص 326 .