لما كان الدكتور أحمد الريسوني، أحد أعلام الفكر المقاصدي في عصرنا الحالي، كما يشهد بذلك مجمل مؤلفاته التي لا تكاد تخلو من عبارات وإشارات مقاصدية. وما دام عالم المقاصد يمتح من فكر وعلم الإمام الشاطبي، فلا شك أن هذا الكتاب الصادر سنة 2015 عن دار الكلمة للنشر والتوزيع _ الذي نحن بصدد قراءته لن يخرج عن هذا الاتجاه العلمي المنهجي المقاصدي.

محتويات الكتاب

انتظم خيط هذا الكتاب ” النظر المقاصدي…” في مقدمة وثلاثة عناوين كبرى وفهرس للكتاب.

أما المقدمة: فقد جلى فيها المؤلف دواعي تأليفه له، وهو تقديم اجتهاده بخصوص حكم تولي بعض المناصب المهمة والولايات العامة خاصة تلك التي امتزج فيها الحلال بالحرام، ويفهم هذا من قوله “النظر المقاصدي في حكم تولي بعض الولايات العامة والمناصب المهمة”، ويفصل المؤلف أكثر عن الداعي إلى كتابة الكتاب، بحيث يرى أن ما يلاحظ من إحجام كثير من المتدينين عن الإقبال على تحمل هذه المسؤوليات، كان وراء كتابة المؤلف، يتضح لنا هذا الامر من خلال قوله “وذلك أن بعض المتدينين وذوي الاستقامة ….. فيتحيرون: هل يتقدمون إليها، أو يفرون بدينهم ونظافة ذمتهم منها؟” (ص5).

كما قدم أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، في مقدمة الكتاب نماذج من تلك المناصب والولاياتـ موضوع الكتابـ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر؛ “إدارة أموال وممتلكات ومؤسسات عمومية يكثر فيها السلب والنهب والتبذير، وربما حتى الإنفاق في المحرمات الأصلية” (ص5).

بعد المقدمة المؤطرة لمحتوى الكتاب، عرض المؤلف، العنوان الأول من عناوين الكتاب والموسوم ب: “التفريق بين الدواعي الخاصة والدواعي العامة”، أبرز من خلاله مجموعة نقاط نجملها كالآتي:

  • الغرض من اختيار تولي المناصب على ضربين: إما اختيار فردي لغرض خاص، وإما لهدف إصلاحي ومصلحة عامة، وبين أن المقصود من مضمون كلامه في هذا “المحو” هو ما كان متصلا بتولي المناصب لهدف إصلاحي ومصلحة عامة بالأساس.
  • بيانه أنظار الفقهاء في حكم تولي المناصب والمهام بالنسبة للحالات الفردية، من خلال زوايا ثلاث.
  • تطرق المؤلف إلى شرح المقصود بعبارة “تولي الولايات العامة والمناصب المهمة لغرض إصلاحي عام” يقصد من وراءه خدمة المصلحة العامة، وذكر ما يراه لازما من الشروط الضامنة لتحقيق مقاصد تولي هذه المناصب، وحصرها في ثلاثة شروط كبرى مضافة إلى مقصوده من معنى تولي المناصب والمهام العامة. ليخلص إلى رأي واجتهاد مفاده القول بالمشروعية والجواز فيما يتعلق بتحمل هذه المسؤوليات، بل قد ذهب المؤلف أبعد من الجواز إلى القول بالوجوب والعزيمة. وختم هذه “المحور الأول ببيان بعض الأدلة على ما ذهب إليه من الإباحة والرخصة، أجملها في سبعة أدلة وفصل القول فيها تفصيلا.

وفي العنوان الثاني من الكتاب والموسوم ب: “تولي القضاء والمناصب القضائية نموذجا” ساق المؤلف في هذا الصدد قضية تولي مناصب القضاء وتهرب كثير من العلماء عبر التاريخ عن هذه المهمة، ولكن ما يزيد من حجم مواقف التمنع عن هذه المهمة على حد تعبيره هو “طروء قضية القوانين الوضعية والحكم بغير ما أنزل الله” (ص17) وسبر وقسم مواقف التمنع وسياقاتها، وخلص  إلى موقف أعلنه في الكتاب قائلا: “وإذا كانت مواقف التمنع والتهرب من المناصب المغرية تبعث على الإعجاب والإجلال لأصحابها، من زاوية الزهد والورع والتعفف، فإنها تبعث على الحسرة والشفقة بالنظر إلى حاجة الأمة ومصالحها العامة. فكم خسرت الأمة بتهرب هؤلاء الأمناء الأقوياء وانسلالهم من مواقع الأمانة والمسؤولية؟ وهل يكون إيثار السلامة الشخصية أثقل في الميزان عند الله من حفظ مصالح الأمة والذود عنها؟” (ص19).

أما العنوان الثالث والأخير من الكتاب والذي جاء بعنوان: “تولي القضاء في ظل قوانين مخالفة للشريعة” فقد عرض فيه المؤلف لأسباب نفور وتملص العلماء من مهمة القضاء قديما وحصرها في ثلاث أساسية:  ثم أضاف إليها سببا آخر يرتبط بعصرنا الحالي، وهو ما طرأ على القضاء من دخول القوانين الوضعية فيه” (ص 25). ثم قدم بعدها رأيه في العمل بالقوانين الوضعية من خلال مجموعة من “الأدلة” التي ساقها لتأكيد موقفه والدفاع عنه، ليخلص في الأخير إلى القول “فإذا كان متولي شيء من هذه المناصب هدفه الإصلاح، وتكثير العدل والنفع، وتقليل الظلم والأذى، وكان فعلا قادرا على ذلك، فإن له أو عليه أن يتقدم مأجورا. والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث” (28).

منهجية الكتاب:

بِالنَظَر في مقدمة الكتاب يتضح أن صاحب الكتاب يهدف إلى بيان “حكم تولي بعض الولايات العامة والمناصب المهمة، حين تكون ممزوجة وملوثة بالفساد والحرام”. فهو يقصد إلى الاجتهاد في النظر المقاصدي في حكم هذه النوازل.

وبالرجوع إلى ثنايا الكتاب، نجد الكاتب عمل فيه بمنهجية متميزة، حيث قام بعرض بعض القضايا في مقدمة الكتاب، ثم تناولها بالتحليل الدقيق لمجمل تفاصيلها وملابساتها، وحتى يكون حضوره أقوى في البحث، فقد كان حريصا على النقد لبعض ما يراه في حاجة إلى ذلك، مثل ذلك ما جاء في قوله “فليس من الحكمة ولا من الفقه تعميم القول بالتحريم على كل هذه الوظائف والمناصب، بحجة ما فيها من الحكم “بغير ما أنزل الله”،  فالظاهر من كلام المؤلف، أنه ينتقد القول بإطلاق تحريم العمل في المناصب التي فيها حكم بغير ما أنزل.

ويظهر منهج الاستنباط في ثنايا الكتاب من خلال قول صاحبه “وبناء على ما تقدم: فالذي أقول به في شأن تولي المناصب المذكورة، على هذه الأوصاف والشروط، هو المشروعية والجواز، بل إن ذلك قد يتعدى مستوى الترخيص والإباحة، إلى مستوى العزيمة والوجوب” (ص 11). يتضح أن المؤلف استنبط هذا الرأي الذي ذهب إليه من مجموع حقائق شرعية عرضها للقارئ والتي عبر عنها بشروط تولي المناصب المهمة والولايات العامة، كما يفهم هذا الاستنباط كذلك من مجموع الأدلة التي ساقها المؤلف لتأكيد اجتهاده.

خاتمة:

صفوة القول، لقد حاولنا تقديم قراءة في كتاب (النظر المقاصدي في حكم تولي بعض الولايات العامة والمناصب المهمة)، والذي تناول فيه المؤلف موضوعا جديرا بالاهتمام ذاك أنه من المواضيع التي تحظى بعناية من قبل الإنسان المسلم المعاصر، كما أن الكتاب يعكس خاصية صلاحية الشريعة للزمان والمكان، من خلال ما قدمه من أجوبة عن بعض القضايا المعاصرة المستجدة، مثل قضية تولي القضاء في ظل قوانين مخالفة للشريعة. والتي تعد من القضايا التي صارت تحير العقل المسلم بين الإقبال عليها أو تركها. فمن خلال عناوين الكتاب الثلاثة استطاع المؤلف تقديم إجابات ماتعة مفيدة في بابها لكل باحث مهتم.