بين يدي التقديم

مرّت اللغة العربية بمراحل من التطور عبر مسار مديد إلى حين نزول القرآن الكريم، فخضعت منذئذ لعمليات حاسمة، تمثلت في الجمع والتدوين والتقعيد، حيث وضعت القواعد النحوية والصرفية، وغيرها من العلوم اللغوية والبيانية… وهي اليوم واحدة من اللغات الأربع الأكثر شيوعا في العالم بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية.

ولكونها لغة دين سماوي كتابه بلسان عربي مبين، فهي اليوم – وإن بقدر متفاوت – محط اهتمام حوالي ملياري مسلم، جميعهم يرون فيها لغة دينهم الإسلام، وكتاب ربهم القرآن الكريم. يتطلعون لتعلمها والنطق بها، لأنها آلية لفهم القرآن، ونافذة لتعرّف كنوز الدين.

وقد أثبتت هذه اللغة قدرتها على الصمود والانتشار والتجدد، وذلك بفضل جهود عدد من أبنائها البررة الذين وثقوا في قدرتها على التطور والمنافسة وتجاوز الضعف والركود، فكتبوا وألفوا وناضلوا من أجل أن يدوم ألقها، ويعمّر حضورها. ولعل الدكتور عبد العليّ الودغيري واحد من هؤلاء الأبناء البررة الذين سخّروا جهدهم العلمي والأكاديمي والسياسي والجمعوي لخدمة هذه اللغة. ويأتي تقديم كتابه هذا عرفانا له بهذا الجهد، وتقديرا لما بذل من جهود خدمة للغة الضاد التي حلاها الشاعر أحمد شوقي بقوله:

إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا  *** جعل الجمال وسره في الضاد

تقديم الكاتب

الكاتب والأكاديمي والمناضل الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري، ولد بنواحي مدينة  فاس في 20 يناير 1944م، وبها أنهى تعليمه الثانوي، حصل على الإجازة في اللغة العربية آدابها سنة 1970م، وانخرط في سلك التعليم الثانوي، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا سنة 1976م، ودكتوراه الدولة سنة 1986م، تقلب الودغيري في عدد من المناصب منها:

  • مستشار بوزارة الشؤون الثقافية المغربية.
  • كاتب عام للجنة الوطنية للثقافة.
  • عضو المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب.
  • عضو مؤسس لاتحاد اللسانيين المغاربة.
  • مدير مجلة الموقف منذ 1987.
  • رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بالنيجر (تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي) من 1994 إلى 2005.
  • مدير مؤسسة علال الفاسي بالرباط من 2006 إلى 2008.

للدكتور  عبد العلي الودغيري مؤلفات وأبحاث أدبية ولغوية منها: أبو علي القالي وأثره في الدراسات اللغوية والأدبية (1976) – قراءات في أدب الصباغ (1977) – المعجم العربي بالأندلس (1984) – قضايا المعجم العربي في كتابات ابن الطيب (1989) – التعريف بابن الطيب (1990) – الفرنكوفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب (1993) – اللغة والدين والهوية (2000) – الدعوة إلى الدارجة بالمغرب؛ الجذور والامتدادات، الأهداف والمسوغات (2011)- اللغة العربية والثقافة الإسلامية بالغرب الإفريقي وملامح من التأثير المغربي (2011) – اللغةُ العربية في مراحل الضَّعفِ والتبَّعيّة (2013) – لغة الأمة ولغة الأم (2013) – نحو معجم تاريخي للغة العربية، عمل مشترك (2014) – العربيات المغتربات: قاموس تأثيلي وتاريخي للألفاظ الفرنسية ذات الأصل العربي أو المعرب  (2018). هذا فضلا عن دوانيْن شعريين: الموت في قرية رمادية (1980) – لحظة أخرى (1995).

وتُوّج الدكتور الودغيري بعدد من الجوائز داخل المغرب وخارجه منها:

  • جائزة المغرب للآداب 1977
  • جائزة المغرب الكبرى للآداب 1989.
  • جائزة المغرب للكتاب لعام 2014، قسم الدراسات الأدبية واللغوية عن كتاب “اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية”.
  • جائزة الألكسو-الشارقة للدراسات اللغوية والمعجمية لعام 2018. محور الدراسات في المعجم التاريخي للغة العربية.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في 288 صفحة من القطع المتوسط عن الدار العربية للعلوم ناشرون سنة 2013، والكتاب قدّم له اللغوي التونسي الكبير عبد السلام المسدّي، الذي رأى أن المؤلف «يَصْهر المحليّ المغربي في القومي العربي صهراً بَراء من كل تكلُّف أو نشاز، ويخاطب القارئ قائلاً له: “ستعجب بهذا الوئام البحثي الَبهيّ الذي يصنعه صاحبُنا بين العربي والإسلامي، بين اللغوي والسياسي، بل بين تاريخ مضى وحاضر نحياه وآت ننتظره انتظارَ أبي الطيب لحُمّاه”.

ثم عرض المسدي الدرس المستخلص من الكتاب وصاغه في متلازمة عجيبة مفادها أن الانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها لن يتمّ إلا “بجبهة ثقافية عتيدة، ولا ثقافةَ بغير هُويةٍ حضارية، ولا هوية بغير إنتاجٍ فكري، ولا فكر بغير مؤسّسات علمية متينة، ولا معرفة ولا تواصُل ولا تأثير إلا بلغةٍ قومية تضرب جذورَها في التاريخ، وتُشارِف بشُموخٍ مَكينٍ حاجةَ العصر وضرورات المستقبل”.

أما مقدمة المؤلف الدكتور عبد العلي الودغيري، فكتبت بلغة حزينة تطفح مرارة وأسى، إذ عمد إلى ربط وضعية اللغة العربية بالوضعية العامة للأمة، واختار صورا وتعابير  قاتمة تدل على اللحظة التاريخية الحرجة التي تعيشها أمتنا أختار بعضا منها: «أيدينا مغلولة إلى أعناقنا، وحركاتُنا مَحسوبة علينا، وخطواتنا مقيدة لا تستطيع التقدم قيد أنملة إلى الأمام» – “نحن صغار وضعاف، بل خراف، أمام هذه القوة أو القوّات العظمى المهيمنة” – “نحن مجرد قطع جغرافية أشبه ما تكون بقطع الشطرنج فصلت عن تاريخها وهُوِيَّتها وسياقها الحَضاري، صَنَعَها مَن صَنَعَها، وسيَّجَها مَن سَيَّجَها، بحُدودٍ رَسَمها” – “نحن شعوبٌ ذاقت المرارة والهوان في مرحلة سُميت بمرحلة الاستعمار”… إنه نفَس يخبر بحجم الألم الذي يتجرعه الودغيري نتيجة الوضع العام للأمة وبالتبع اللغة العربية.

أما فصول الكتاب الأربعة فتوزعت على العناوين التالية:

  • الفصل الأول: اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية.
  • الفصل الثاني: وضع اللغة العربية في عصر العولمة وتحدياتها: عناصر الضعف والقوة.
  • الفصل الثالث: العربية ومعضلة الازدواجية: الفصحى ولهجاتها المعاصرة: علاقةُ اتصال أم انفصال؟
  • الفصل الرابع: الإعلام وأهميته في توحيد اللغة والتقريب بين الفصحى واللهجات.

وبالرغم من تنوع عناوين مباحث هذه الفصول، إلا أنها جميعا تخدم فكرة واحدة وهي الدعوة إلى عمل منظم من أجل حماية اللغة العربية وتطويرها وتنميتها، والتحلي باليقظة اللازمة حتى لا يزداد هذا الوضع سوءا.

على سبيل الختم

عوّدنا الدكتور الودغيري بقدرته العالية على الترافع كلما كانت اللغة العربية هي القضية، فقد أثبت على مدى سنوات أنه في جل كتبه وأبحاثه يؤكد على ريادة هذه اللغة، ويبرز مقومات هذه الريادة، ولا يفتأ يدعو إلى توحيد الجهود من أجل المحافظة عليها، والدفع بعجلتها لتواكبَ مستجدات العصر، وتتجاوز بسلاسة كل ما يعيق سيرها. وليس كتاب “اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية” إلا مرافعة من مرافعاته التي ما فتئنا نستمتع بها من حين لآخر، سواء كانت كتابا أو مقالا أو محاضرة.