توطئة

شكلت كتابات المؤرخين -الرحلات الحجازية أو الحجية- مادة للاشتغال ضمن حقل الأنثروبولوجيين، الذين انكبوا على تفكيكها من خلال الوثائق والمخطوطات، بخلاف المسار الذي خطه عبد الرحيم العطري من خلال حكيه عن تجربة حجية جديدة جمع فيها بين الحاج والباحث الممارس لطقوس العمرة والحج. وهي كتابات بدأت تشكل موضوعا ضمن الحقل السوسيولوجي والأنثروبولوجي في كتابات مغاربة من قبيل الأستاذ عبد الله حمودي وغيرهم.

وقد وسع عبد الرحيم العطري من دائرة التأمل في التجربة الدينية، بجعلها مشرعة على «نقد منفتح» – بتوصيفه. وهذه الدراسة قول في الحج وعمل أيضا، كونها صدرت بعد تجربة حجية خاضها الكاتب، مع اطلاعه على تجارب الآخرين في رحلاتهم الحجية، المكية والحجازية، باختلاف الأزمنة والتأملات والأمكنة والطرقات…

تقديم الكاتب

كاتب وباحث مغربي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، نشر عددا من الكتب تراوحت بين القصة والشعر وأدب الرحلة والمقالة والدراسات الاجتماعية، من أعماله: دفاعا عن السوسيولوجيا، سوسيولوجيا الشباب المغربي، المؤسسة العقابية بالمغرب، صناعة النخبة بالمغرب، الليل العاري؛ قصص من أجل ياسمين، الحركات الاحتجاجية بالمغرب، القارة السابعة (قصص)، تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، قرابة الملح: الهندسة الاجتماعية للطعام، بركة الأولياء: بحث في المقدس الضرائحي، الرحامنة: القبيلة بين المخزن والزاوية، سوسيولوجيا الأعيان: آليات إنتاج الوجاهة السياسية، مدرسة القلق الفكري: بورتريهات السوسيولوجيا المغربية، سوسيولوجيا السلطة السياسية: آليات إنتاج نفوذ الأعيان. وقد فاز العطري بجائزة المغرب للكتاب، في صنف العلوم الاجتماعية، وذلك عن كتابه: “سوسيولوجيا السلطة السياسية”.

مضامين الكتاب

وفق منهجية دقيقة، وتصور متقدم للبحث في العلوم الاجتماعية، وضع عبد الرحيم العطري ثلاثة مداخل لكتابه “أنثروبولوجيا الحج الإسلامي”، أو ثلاث عتبات، بعبارته، وهي التفكير في الحج، والحج مُعَاشًا ومُلاحظًا، ثم جوارات النص الحجي، وصولا إلى مدخل في النقد المنفتح… غايته السوسيولوجية من ذلك هي بناء الفهم التأويلي، الذي يستوجب «عبورا» وانتقالا من عتبة إلى أخرى، لأجل بلوغ المداخل والمسالك المُفْضِيَةِ إلى المعنى المخبوء.

قدم العطري عملا بحثيا يعتمد على تقنتي الملاحظة بالمشاركة والمقابلة، حيث عمد الباحث لتسجيل عدد من المقابلات مع الحجاج والمعتمرين، بغية توفير معطيات ميدانية وتحقيق معرفة قابلة للتأويل. وقد أكد على صعوبة الفصل بين الباحث والمبحوث في الكثير من مواطن الكتاب، خاصة وأنه بدأ كتابه بمفهوم اللابداية وختمه بمفهوم اللانهاية، وهو ما يشير إلى الحاجة على الانفتاح نحو مسارات منهجية ومعرفية جديدة تعيد التفكير في الدين والتدين، إضافة لما تشكله سجالات الدين وطرح السؤال حوله طقوسه التدينية من مراقبة مجتمعية، تظل محفوفة بكثير من المزالق كالتبديع والتكفير وإهدار الدم، خاصة في مجتمع يؤمن بالمطلق.

اعتبر العطري “خطاب المقدمة أول ما يقرأ ويستفز، إن استطاع تحقيق ذلك، إلا أنه في استراتيجية الكتابة بعد آخر ما يكتب، وآخر ما يمارس الاستعصاء ويثير قلق النهاية واللانهاية، للأمر علاقة بمخاض الكتابة وعنف “الولادة”، وكل ما يتصل بها من مخاوف وآمال، فهل سيولد خديجا؟ أم سيضيف قلقا إلى قلق؟ أم أنه لن يكون غير “كتابة” على “الكتابة” قد لا تضيف شيئا إلى السجل التداولي؟ وهل سيجيب عن قلق الرمزي؟. وكانت خاتمة العمل لانهاية، وحفزًا على مزيد من الحفر والنقد المنفتح في قارات الدين والتدين، ولا عجب أن تكون المقدمة أيضا، مفتوحة بدورها على اللابداية واللايقين، وأن تقتل بدورها بقلق اللابداية. فمن أين يكون البدء؟ وكيف يكون البدء؟ من اللابداية طبعا، ومن ضرورة الاعتراف بأن هذا كتاب لا ينفصل عما سبقه من أعمال، إنه استئناف، بشكل ما، لنقد منفتح، نراه ضروريا لفهم الوقائع والأشياء، وإنه تطوير محتمل لأفكار ونقاشات سابقة، جرى تثويرها، وتغيير مسارات انطراحها. كما أنه تفكير في تجربة دينية مخصوصة، أثارت الكثير من الأسئلة المربكة، بصدد المعاني التي تحيل عليها الممارسات والخطابات التي تعتمل في النص الحجي. (الكتاب ص 11)

وقد جعل الغرض من هذا العمل، تبشير النظر في التجربة الدينية والعبور إلى جواراتها السوسيوسياسية والاقتصادية، لأجل تحرير النص الأصلي من عوالقه وشراحه وملاكه الذين يستثمرون فيه، ويراكمون مَزِيدَ سُلطات ورساميل رمزية ومادية، تتحصل لهم، جراء الاستثمار في هذا “الاقتصاد الرمزي”. يريد المؤلف، والحالة هاته، أن يكشف عن شروط انبناء النص الحجي باعتباره “كونا دلاليا” و”كلا ثقافيا” يستدمج في تاريخيته جملة من الحكايات التأسيساتية والتناصات المعتقدية، ويعكس في الآن ذاته الكثير من التوظيفات والاستعمالات والصراعات الإيديودينية. (الكتاب ص 12)

وفي اللابداية واللانهاية، وإن كان من هدف آخر، ممكن أو مستحيل لهذا الكتاب، فهو المساهمة في كشف اللاشعور المجتمعي للنص الحجي، بالتنقيب والحفر في الأشكال والمضامين الخفية لانبناء الممارسات وانتظام الخطابات، وكل ذلك وفق ثلاث مسالك للفهم والتفهم، يقترحها في النقد المنفتح وهي: النقد التأسيسي، والفهم التأويلي، والنحت المعرفي مع تجديد وتضعيف التوكيد على أن فهم وتأويل النص الحجي، كما باقي التجارب الدينية الأخرى، يتضمن سيرورة / صيرورة لانهائية من البحث والتركيب والإضافة والنقد والإزاحة والتجاوز والإدراك، وهو ما يوجب استئنافات أخرى للاجتهاد، تلوح في فتح قارات جديدة بحث في الدين والتدين. (الكتاب ص 13)

خاتمة

تشترك الأعمال البحثية، ومهما كان انتماؤها المعرفي، في ملكية واحدة وهي إزاحة الغموض وإنتاج المعنى، كشفاً وبناء، فلا بد من كشف البنيات الحديثة التي تختفي خلف الظاهر، وتبرر منطق الإسرار والإلغاز الذي تجبر النص الحجي، وبالتالي إعمال فكرة إزاحة الغموض واستنوار (la mise en lumière) الحجب، وذلك عبر المزيد من التساؤل النقدي حول التجربة الدينية وامتداداتها المجتمعية. فما معنى أن يصير الفرد حاجا؟ وما الشروط المنتجة للقرار الحجي؟ وما الدلالات السلوكية والأخلاقية للحج في تربة المجال التداولي الإسلامي؟ وماذا عن النص الحجي في مبانيه ومعانيه؟ وماذا عن نصوصه الموازية وتناصاته السياسية والاقتصادية؟ فلماذا تحج الصلاة وكيف نحج؟ وما الذي يتحقق للحاج والمجتمع من هذه التجربة الدينية؟.

قد يثمر هذا الجهد المعرفي، وهذا ما يتمناه الكاتب، تحررا وتحريرا، أي تحررا من سلطة النص إلى تحريره واستضاءته. فلا بد من التحرر من النصوص المشوشة على النص الأصلي، ولا بد تحرير السؤال في شأن تحطيم آليات التوثين” و”التحنيط” والتقديس والتي تمنع العقل من استعمال ذاته في مواجهة أسئلة الدين والتدين. فما يميز التوثين والتحنيط على الأقل أنهما يُسهمان في صناعة حقيقة جمادية وميتة من التماثيل والمومياوات، ومحاطة بهالة من السحرية والسرية والقداسة، ومحاصرة بسياج دوغمائي يرفض الكشف عن شروط والتسليم بالمطلقية. (الكتاب ص 308)