توطئة

تشهد صفحاتُ التاريخِ على نُهُجٍ وأساليب متعددةٍ تبنتها المجتمعاتُ البشريةُ لدرءِ الغزاة والمحتلينَ عن مجالها الطبيعي، تباينت بين حركاتٍ اتخذت من المقاومة المسلحة خيارا لها، وبين أخرى آثرت النضال السلمي رهانا للتحرير والتحرر، كما هو الحال مع النهج الذي اعتمده غاندي ضد الاستعمار البريطاني في الهند. ولَإِن كان غاندي قد اعتمد أول مقاطعة اقتصادية وعصيانٍ مدني سلمي كلل بنيل الاستقلال ودفع الاستعمار، فإن حدث المسيرة الخضراء قد دُوِّنَ بمدادٍ من ذهب بوصفه أول مسيرة شعبية سلمية تدفع غازيا عن حوزة الوطن عبر التاريخ، وتكون حَرِيَّةً ليس فقط بالتدوين التاريخي، بل بوصفها نموذجا أعلى من نماذج التحرر السلمي التي أثبتت أن الكفاح المسلح ليس النهج الوحيد، بل للكفاح عدَّةُ أوجه من بينها: الإيمان بقوة الحق الطبيعي والتاريخي، وما ينتج عن تلاحم البنية الفوقية (السلطة الحاكمة) بالبنيات التحتية (الشعب ومكوناته).

أوليات تاريخية لفهم المسيرة الخضراء

لا تُمثل المسيرة الخضراءُ مجردَ حدثٍ أنتجته الصدفة التاريخية، بل له أولياته في الفعل التاريخي المغربي أَمسَهُ ويَومَه، فهو تجل من تجليات الإرث السلطاني المغربي في تدبير الأزمات والتهديدات العابرة للحدود. فمنذ الدولة المرينية، إلى فترة المنصور الذهبي خلال الدولة السعدية، ثم زمن العلويين الأوائل كالمولى الرشيدِ وإسماعيلَ، ثم العلويين الأواخر قبل الاستعمار، نجدهم يؤثرون العمل السياسي والدبلوماسي لاحتواء التهديدات الخارجية. فليستِ القوةُ الصلبةُ دوماً دواءً لكلِّ العللِ كما تراها المدرسة الواقعية في التحليل السياسي، بل للقوة عدة مفاهيم تتجاوز المقاربات التقليدية، منها الثقل السياسي في النظام الدولي، والرؤية الاستراتيجية التي تحسن التموضع في المجال الجغرافي. وآخر هذه القوى التي تحدث عنها مفكرو القرن التاسع عشر والعشرين، كغوستاف لوبون وجوزيف ناي، هي قوة الرأي العام والشعوب في تشكيل الواقع التاريخي.

قد ينقدح في ذهن البعض سؤال ملح تقتضيه الإجابة حول دواعي عدم خروج المحتل الإسباني من عموم التراب الوطني رغم نيل الاستقلال، فقد أصرت إسبانيا على أن اتفاق الاستقلال وإلغاء نظام الحماية يتعلق فقط بالمناطق التي ضمتها سنة 1912، أما ما كان بحوزتها من أراضي الأقاليم الجنوبية التي ألحقتها منذ سنة 1884، فاعتبرتها غير معنية باتفاق الاستقلال، وأعلنتها رسميا منذ سنة 1958 تحت مسمى “إقليم الصحراء الإسبانية”. ورغم كل محاولات جيش التحرير الجنوبي في مواصلة المقاومة المسلحة لطرد المستعمر الإسباني من بقية المناطق، إلا أنه اندحر أمام الآلة العسكرية الإسبانية[1]، ما فتح المجال لمحاولة البحث عن استراتيجية بديلة للنضال من أجل استقلال باقي الأقاليم دون القبول بأمر الواقع، ودون رضوخ لمبدئ القوة والعنف.

ضروريات النهج السلمي في حدث المسيرة

بالعودة إلى كتاب “ذاكرة ملك” الذي يضم إفادات بالغة الأهمية من قبل جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني حول حدث المسيرة الخضراء وقضية الوحدة الترابية. فقد لفت العاهل الراحل عن خبايا وكواليس ما اكتنف هذه المسيرة المظفرة مما لم يتم رصده من خلفيات الأحداث، التي أبرزت أن المسيرة الخضراء كانت نتاج قراءة عميقة للواقع الجيوستراتيجي بالوسط الإقليمي، وإدراك متبصر لموازين القوى بين ضفتي المتوسط، وفهم لذهنية القادة والفاعلين. كل هذا استحضرته العقلية السياسية للملك الحسن الثاني، لينتج استجابة خلاقة وناجحة حققت بالحكمة والمرونة ما لم يكن بالإمكان تحقيقه بوسائل أخرى.

لقد كان على رأس القيادة الإسبانية خلال الفترة الزمنية التي مهدت لانطلاق المسيرة الخضراء، الجنرال الإسباني فرانكو، وهو قائد عسكري خبر الحرب، ووصل إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري. ولم يكن يؤمن في بناء سياساته إلا بمنطق القوة والغرور العسكري، وأن ما نيل بالقوة لا ينتزع إلا بالقوة، وقد انتهى الملك الراحل الحسن الثاني إلى هذا الاستنتاج بعد صولاتٍ وجولات من محاولات التفاوض معه، والتي لم تجد لدى الرجل آذانا صاغية. فقد كان شديد التشبث بمواقفه إلى حد العناد رغم تقديم الملك المغربي مبادرات اقتصادية وتعاونية بالإقليم تعود بالنفع على الجار الشمالي، سواء فيما يتعلق باستثمار الثروات السطحية أو الباطنية التي تزخر بها المنطقة أو فيما يتعلق بالثروة البحرية، وذهب إلى حد اقتراح إقامة قواعد عسكرية إسبانية في إطار اتفاق يتم على قدم المساواة. وهو التصلب الذي قال الحسن الثاني عنه: “أدركت لماذا أكد هتلر بعد أزيد من أربع ساعات من التفاوض معه – لكي يسمح للقوات الألمانية بعبور إسبانيا في اتجاهها إلى إفريقيا الشمالية – بأنه كان يفضل الذهاب عند طبيب أسنانه للعلاج بدون بنج على أن يذهب للتفاوض مع فرانكو”[2].

لم يثن الجمود في الموقف الإسباني المغرب عن مواصلة العمل لتحقيق التكامل الترابي مع باقي الأقاليم الجنوبية. فقد أتبع جهوده السياسية، بجهود قانونية تمثلت في ترافعه لدى هيئة محكمة العدل الدولية بلاهاي حول الحق التاريخي المغربي بالصحراء المغربية، مستندة في دعواها القانونية إلى روابط البيعة التي جمعت بين الأهالي الصحراويين وبين سلاطين المغرب عبر العصور. وهي الأدلة الدامغة التي دفعت بالمحكمة إلى إصدار قرار استشاري في السادس عشر من أكتوبر سنة 1975 يقر بالحقوق التاريخية للمغرب بهذا المجال المترافع عليه، وهو القرار الذي سيشكل منعطفا تاريخيا في مسار الملف، والذي سيحسن الملك الراحل توظيفه من خلال إتباعه بعد أقل من شهر واحد بما عرف بالمسيرة الخضراء في السادس من نونبر من نفس السنة.

المسيرة الخضراء.. مُجرياتُ حَدَث

اعتمرت فكرة المسيرة الخضراء فكر الملك الحسن الثاني بعدما شهده من تظاهرات شعبية بكافة المدن المغربية للمطالبة باستعادة الصحراء، وتسائل “لماذا إذن لا ننظم تجمهرا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟”[3]. وباشر فكرته -رحمه الله- بحكمة بالغة، فقد قدر أن تعداد المسيرة يجب أن يناهز 350.000 متظاهر، وهو تعداد غفير راهن من خلاله الملك على بعد سيكولوجي، حيث كان يعرف أن فرانكو وحاشيته عسكريون، ورغم عسكريتهم إلا أنه قدر عدم استطاعتهم إطلاق النار على هذا الطوفان البشري الهائل الذي كان يصبو من خلاله ابتزاز إسبانيا، لكنه في الآن ذاته -بحد تعبيره- ابتزاز مباح لا يعاقب عليه أي قانون. وقد تسائل أيضا، هل سيشبه الشباب المغربي المدلل الآن بمظاهر التقدم آبائهم؟ وهل ستكون لهم الشجاعة لمواجهة الدبابات؟ وكان كل من طرح عليهم السؤال يردون قائلين، إن الشباب المغربي لم يتغير، إنه من طينة نفس الشعب[4]. آمن الملك بالفكرة، وكلف دائرة صغيرة مكونة من وزيرين هما وزيري المالية والتجارة بتأمين احتياجات المسيرة، فيما كلف ثلاث قيادات عسكرية هما الجنرال أشهبار الكاتب العام لإدارة الدفاع، والجنرال بناني والكولونيل ماجور الزياتي بتأمين المسيرة والحرص على سرية الإعداد لها حتى لا يحاول خصوم المغرب وئد فكرتها في مهدها.

وفي السادس من نونبر سنة 1975، انطلقت الحافلات وشاحنات النقل من مختلف المدن صوب الأقاليم الجنوبية، وتحولت الصحافة المغربية إلى منبر للتعبئة والتحفيز الوطني، عنونت خلالها جريدة العلم افتتاحيتها بعبارات تؤكد أن “المسيرة ليست غزوا، بل رجوع إلى الأصل واسترجاع الحق بالسلام”[5]. أما جريدة البيان المقربة من حزب التقدم والاشتراكية، فقد وصفت المسيرة بأنها “صفحة مضيئة في تاريخ الكفاح الوطني، تكتبها جماهير الشعب بقيادة عاهلها المؤمن”[6]. وخصصت جريدة المحرر سلسلة مقالات تعبر عن الحماس الشعبي الكبير، وتنقل صور المتطوعين في مختلف المدن وهم يستعدون للمشاركة، معتبرة الحدث “ملحمة جماعية تجسد وحدة العرش والشعب”[7]. وبعد نجاح المسيرة في بلوغ أهدافها، ركزت الصحافة المغربية على النتائج السياسية التي تمخضت عنها، وخاصة اتفاق مدريد الثلاثي في الرابع عشر من نونبر سنة 1975، الذي نص على إنهاء الوجود الإسباني في الصحراء وتسليم إدارتها للمغرب وموريتانيا. وقدمت الصحف الحدث بوصفه انتصارا للدبلوماسية المغربية ودرسا للعالم في كيفية انتزاع الحقوق بوسائل سلمية.

المراجع
[1]جبرون (إبراهيم)، من تصفية استعمار إلى الحكم الذاتي، محاضرة نشرت بتاريخ 1 نونبر 2025، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=_50mo86poaQ.
[2] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، حوار مع إيريك لوران، (الشرق الأوسط، ط2، 1993)، ص111.
[3] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مصدر سابق.
[4] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مصدر سابق.
[5] وكالة المغرب العربي للأنباء، ملف خاص حول المسيرة الخضراء، نشر في موقع الوكالة الرسمي ضمن ركن "تاريخ المغرب المعاصر".
[6] وكالة المغرب العربي للأنباء، ملف خاص حول المسيرة الخضراء، المرجع السابق.
[7] وكالة المغرب العربي للأنباء، ملف خاص حول المسيرة الخضراء، المرجع السابق.