توطئة

بَذَلَ المغربُ جُهوداً مُضْنِية ومتعَدِّدة الأوجُه من أجْل استرجاع صحرائه، رسميا وشعبيا، بالمقاومة المسلحة والنضال السّلمي والترافع الدبلوماسي، كما تَــتَــبَّع مساطرَ التفاوض الدّولية وصَبَر على طُولِ مُدَدَها وخصوصية إقرارها وتَنفيذها، وضُعْف فاعليتها أحيانا.

ففي سنة 1958 جدَّد الملك محمد الخامس أمام ممثِّلي القبائل الصَّحراوية في محاميد الغزلان التأكيد على مغربية الصَّحراء. وخِلال انعقاد مؤتمر قمة دول عدم الانحياز سنة 1961، “طالب الملك الحسن الثاني بحقِّ المغربِ المشروعِ في تحرير مناطقه الصحراوية، ولسنوات عِدّة؛ قام بمساعي لدى إسبانيا لإقناعها بالانسحاب مِن الصّحراء والاعتراف بحقوق المغرب فيها”[1]. وأمام الرّفض الإسباني لإرجاع الصّحراء إليه؛ قَرَّر المغرب بَسْط القضية على أنظار منظَّمة الأمم المتّحدة، مُطالِبًا لجنةَ تصفية الاستعمار بوضع سيدي إفني والصَّحراء الغربية على لائحة الأراضي التي يَتَعَيَّن تصفية الاستعمار بها.

التّدويل لنزاع الصحراء بين الطّرفين

لم يتمكّن المغرب مِن تَدويل نضاله مِن أجل وحدته الترابية في الأقاليم الـجنوبية وإدراج مطالبه فيها ضِمن أشغال عُصبة الأمم طيلة مُدّة خضوع الصحراء للاحتلال الإسباني الـمباشر، وتعَسّرَ عليه إدخال القضية للتداول في هيئة الأمم الـمتحدة قبْل استقلاله سَنة 1956، ولم تُـثَر قضية الصَّحراء المغربية لأول مرة أمام اللَّجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة إلا في سنة 1961، بطلبٍ من المغرب، لاعتباران أساسيان:

  • أوّلهما: كَوْن مَسَاعي المغرب في استكمال وحدته الترابية بالتفاوض لم تؤدِّ إلى نتيجة؛
  • ثانيهما: أنَّ الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد صادقت في 1960 على وثيقة دولية حول منْح الاستقلال للدُّول والشُّعوب المستعمَرة، الذي أصبَح معروفا منذ ذلك الوقت بالتَّصريح رقم 1514.[2]

ومنذئذ استطاع المغرب استِصدار عدد مِن القرارات الدّولية استنادا إلى مَبدأ تصفية الاستعمار، تُطالبُ الحكومة الإسبانية بالدّخول في مفاوضات لمعالجة مشكل الصّحراء المغربية المحتلة وتَسليمها للمغرب طِبقا لما تضمّنته التوصية رقم 1514، في حين كانت حكومات إسبانيا وزعيم الجمهورية فرانكو “يُريدونها مُـستَقِلة”[3] بتعبير الباحث جلال كشك، أيْ عن طريق استفتاء خاص، لتَؤول إما إلى تَبعية إسبانيا أو تَدبير جبهة البوليساريو في وقت لاحق.

قرارات أممية وبلاغات مغاربية بِشأن نزاع الصّحراء

في المرحلة الممتدة بين وفاة الملك محمد الخامس واعتلاء الحسن الثاني عرش المغرب وشروعه في ترتيب جولة سياسية ودبلوماسية جديدة لاسترداد الصحراء من قَبضة الاحتلال الإسباني الذي جثَم على البشر والحجر في المنطقة الصحراوية منذ 1913، ودَخُول القضية إلى رَدهات التدبير الأممي في هيئة الأمم المتحدة والجمعية العامة للهيئة؛ صَدَرت مجموعة من القرارات الأممية بشأن النزاع الذي عَمّر طويلاً بين المغربِ صاحبِ الحقوق المشروعة في أرضه، وإسبانيا القوة الاحتلالية للمنطقة.

ومن بين أهَمّ وأشهر القرارات الصادرة في الفترة الرابطة بين 1963 و1975، تاريخ تنظيم المسيرة الخضراء المغربية؛ نذكر:

  • القرار الأممي الصادر بتاريخ 16 اكتوبر1964: عن اللَّجنة الخاصة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في جلستها، بشأن سيدي إفني والصَّحراء المغربيتين الخاضعتين للسيطرة الإسبانية، عَبَّرَت فيه اللجنة عن أسَفها للتأخير الذي تُلْحِقُهُ الدّولة الحاكمة (المستعْمِرة) بتطبيق مقتضيات التّصريح 1514 بشأن تحرير هذه الأراضي من السيطرة الإسبانية، كما تدعو اللجنة السلطات الإسبانية إلى منْح الاستقلال للبلدان والشُّعوب المستعمَرة.
  • القرار الأممي الصادر بتاريخ 16 دجنبر 1965: حاملاً رقم 2072، اختَصَّ بمنطقة سيدي إفني والصَّحراء، وجاءَ مذكِّراً بالتّصريح 1514، وداعياً الحكومة الإسبانية إلى اتّخاذ الإجراءات الفَورية اللاّزمة لتحرير أراضي الصحراء المغربية وإفني، والدُّخول في مفاوضات حول قضايا السِّيادة الترابية للمملَكة المغربية.
  • القرار رقم 2229 الصادر بتاريخ 20 دجنبر 1966: أكّدَ على الحقّ الأزلي لشَعْبَيْ إفني والصّحراء في تقرير المصير، كما تضمَّنَ الموافقةَ على الفصْل بين إقليمَي إفني والصَّحراء الإسبانية الوارد في تقرير اللجنة الخاصة حول الحالة المتعلِّقة بتطبيق تصريحِ مَنْحِ الاستقلال، ومُطَالَبَةَ إسبانيا بتسريع تصفية الاستعمار، ونَقْل السُّلطة بالتَّنسيق مع الحكومة المغربية، ودعوة السلطة الحاكمة/الـمحْتَلَّة إلى إجراءات عَمَلِية لإقامة استِفتاء تحت إشراف الأمم المتَّحِدَة لأجْل تيسير الممارسة الحرة لحقّ تقرير المصير للسُّكان الوطنيين.
  • البلاغ الصادر بتاريخ 27 ماي 1970: طابعه مُشتَرك، صدر عن المغرب والجزائر، في سياق تَعزيز جهود التنسيق بين البَلدين لتحرير الأراضي وتَصفية الاستعمار منهما.
  • البلاغ الصادر في الدار لبيضاء بتاريخ 21 يونيو 1970: عن حكومة المغرب وحكومة الجمهورية الإسلامية الـموريتانية، نَصَّ على الإسراع بتحرير الأراضي المعنية بالقرارات الأممية، وذلكَ طِبْقاً لقرارات هيئة الأمم الـمتحدة.
  • القَرار الخاص الصادر بتاريخ 13 ديسمبر 1974: طَلَبَت المملكة المغربية في هذا القرار رقم 3292 مِن محكمة العدل الدّولية بلاهاي إصْدار رأي استِشاري حول الصَّحراء.

إثْر هذه الدّينامية السياسية والقانونية، ولظروف إقليمية ووطنية، وفي خِضمّ الحرب الباردَة؛ تَقَدَّم المغرب يوم 18 شتنبر 1974 بطلبِ رأي استشاري إلى محكمة العدل الدولية[4] بَعْدَ مُطالَبَتِهِ للجمعية العامة بإيقاف كلّ عَمَلية تتعلَّق بإجراء استفتاءٍ في الصَّحراء الغربية إلى غاية مَعرفة رأي محكمة العدل الدّولية في القضية.

وبتاريخ 16 أكتوبر 1975؛ أصْدَرَت المحكمة رأيها الاستشاري حول الصَّحراء، مُعْتَبِرَةً بأنَّ الصَّحراء الغربية كان لها مالِك قبل استعمارها مِن طَرَفِ إسبانيا، وأنه ثَمّة روابط وولاء وبيعة بينَ سلاطين المغرب والقبائل الصحراوية التي تُقيم بها. لكنَّ المحكمة قدَّمت رأيها _ من وجهة نظر قانونية لا حضورَ فيها للجانب الشرعي _ بالقول “إنَّها لم تتمكّن مِن إثبات وجود روابط شرعية يمكنها تغيير تطبيق القرار 1514 فيما يخص تصفية الاستعمار في الصَّحراء الغربية، وخاصة مبدأ تقرير المصير عن طريق حرية التعبير والرغبة الحقيقية للسكان “الأحرار”.[5]

مسار توقيعِ معاهدة مدريد  

إنّ ما هو ثابت بالوقائع والـحجج والمسارات التاريخية؛ صعوبة الـمخاض الذي أوْصَل الأطراف المعنية بنزاع الصحراء الغربية إلى توقيع معاهدة مدريد الثلاثية يوم 14 نوفمبر 1975، تلك الـمعاهدة التي أُبرِمت بين نواكشوط والرباط ومدريد، في أعقاب نجاح المسيرة الخضراء الـمُظفّرة، واستيعاب موريتانيا للوضع الـمعَقّد الذي أضحَت عليه باعتبارها الطّرف الأضعف في حلقة النزاع على إقليم وادي الذهب، وتأكُّدِ إسْبانيا من عَدم قُدرتها على استمرار الوضع الاستعماري الجائر، وبالتالي خُضوعها للمقررات الأممية وللنضالات الـمتكررة للمغرب ومُرافعاته مِن أجْل وحدة ترابه في الأقاليم الجنوبية، فخضَعت لأمْر الواقع وتوصّلت إلى “وَضْع حَدٍّ لمسؤولياتها وسلطتها في الأقاليم الجنوبية المحتلة، والشُّروع في إقَامة إدارةٍ مؤقَّتة في الإقليم بمشاركة المغرب وموريتانيا، وبِتَعَاوُنٍ مع الجماعة الصَّحراوية (البرلمان المحلي)، وتَعْيِين حاكِمين مساعدين باقتراح مِن المغرب وموريتانيا ليُساعدوا الحاكم العام للإقليم في مهامه فعليا ونهائيا قبل 28 فبراير 1976 (..) واحتِرام رأي سُكَّان الصَّحراء المعبَّر عنه من خِلال الجماعَة”[6] الصحراوية.

هذا؛ وقَدْ وَقَّع هذه المعاهدةَ عن الطَّرف المغربي الوزير أحمد عصمان، وعن الإسباني رئيس الحكومة كارلوس أرياس نافارو، وعن الموريتاني السيّد حمْدي ولد مكناس، وتَمَّ وضْع الاتفاقية[7] في أرشيف الأمم المتحِدة، ورَفَعَ عامل إقليم العيون يوم 28 فبراير 1976 راية المغرب بالمدينة، وتَمَّ إنزال الراية الإسبانية بحضور الحاكِم الإسباني العام، لتنتهي بذلك حِقـبة أليمة وعصيبة في تاريخ المغرب الرّاهن.

خاتمة

آلَ الاحتلال الـمباشِر لأقاليمنا الجنوبية إلى الفشل، ومن ثَمّ الزوال، وثَبت المغرب في الـمطالَبة بحقوقه التاريخية والقانونية والدينية في صحرائه، ولم يَدّخِر وُسعا ولا طَرِيقا مَشروعا إلّا سَلَكه في هذا السبيل والـمَسعى، واجتهد لتجاوُز محنة الظروف الدولية التي شطَرت العالَمين شَطْرَيْن في مرحلة الستينات والسبعينات، فأعلنَ انحيازه للمعسكر الغربي، وصَبَر على طُول الـمسطرة الإدارية والقانونية لإدراج مِلَفّه ضمن أشغال اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار، وهيئة الأمم المتحدة، فتَوّجَ صبْرَه باستصدار قرارات تلو أخرى، تعامَل معها بإيجابية وطُول نَفِس، وجعَل الطّرف الإسباني مُضطرا للتنازل على سياساته الـمتشدّدة، والتوجه للانشغال بالوضع الداخلي حيثُ كانت إسبانيا تعيش على إيقاع انتقال كبير في الحُكم سنة 1975، وخوض تجربة الانتقال الديمقراطي، فيما انتَصرَ المنطق العقلاني الهادئ الذي لـطالَما عبَّـر عنه بعض العقلاء السياسيين والعسكرين الإسبان في عِزّ مرحلة الصراع، ذلك الرأي الذي كان يَرى أنّه “من بين كل الدول الـمُجاوِرة التي تُثير مسألة الصحراء؛ أَرى أنّ الحقّ مع المغرب”[8]، وهو ما حَصل في نهاية المطاف، ليُدشّن المغرب مرحلة جديدة، عنوانها الاستثمار في الانتصار السياسي والدّبلوماسي لما بَـعدية المسيرة الـخضراء.

المراجع
[1] (عصمان) أحمد: مقال: "الصحراء الغربية وثوابت القيم الوطنية"، ضمن أعمال نَدوة "المغرب الصحراوي"، مطبعة الخليج العربي، تطوان، الطبعة الأولى، 2009، ص: 92.
[2] (القادري) عبد القادر: "مفاهيم القانون الدولي"، دار توبقال للنَّشر، الدَّار البيضاء، الطَّبعة الأولى، 1990، ص: 81
[3] (كشك) جلال: "مغربية الصّحراء؛ مسؤولية عربية"، منشورات دار الصياد، طبعة دون تاريخ، ص: 11.
[4] انظر: (الجابري) محمد عابد: "في غمار السياسة فكراً وممارسة"، الجزء 3، القسم التاسع، الفصول: من 29 إلى 37، الطبعة الأولى، 2010.
[5] (دي لارامندي) ميغيل هرناندو: "السياسة الـخارجية لإسبانيا"، ترجمة عبد العالي بروكي، منشورات الزّمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005، ص: 315.
[6] (دهبي) عبد الحق: "قضية الصحراء المغربية ومخطط التسوية الأممي؛ دراسة قانونية وسياسية في مسارات التسوية في نطاق المنظمات الدولية "، منشورات دار أبي رقراق، الطبعة الأولى 2003، ص: 424-432.
[7] انظر: (المساري) محمد العربي: مقال: "جذور الفهم الاسباني لقضية الصحراء مصدر الالتباس بشأن اتفاقية مدريد"، ضمن أشغال ندوة المغرب الصَّحراوي، الطبعة الأولى 2009، مَطبعة النَّجاح العربي تطوان.
[8] جريدة لوبينيون: تصريح صحفي، رافاييل غارسيا بالينوم، سنة 1966.