المحتويات
مقدمة
تعد التبوريدة /الفروسية التقليدية من أهم الرياضات التقليدية المرتبطة بالفرس في المغرب، والتي استطاعت أن تحافظ على استمراريتها، وأن تتكيف مع مختلف التحولات الإجتماعية والثقافية التي عرفها تاريخ البلد. وباعتبارها أحد أهم مظاهر الثقافة الشعبية المغربية المرتبطة بالفرس فإنها استطاعت الصمود بل وتحولت إلى رياضة حديثة برهانات إجتماعية وتراثية متجددة، وأيضا برهانات اقتصادية تنموية مهمة. لقد أضحى فن التبوريدة رياضة رسمية معترف بها وطنيا من قبل الجامعة الملكية المغربية للفروسية؛ والتي دأبت منذ 2008 على تنظيم البطولة الوطنية للتبوريدة في المركب الملكي لريضات الفروسية والتبوريدة[1]، بدار السلام (الرباط) أثناء احتفالية “أسبوع الفرس”.
ورغم عمليات التحديث التي خضعت لها هذه الرياضة الشعبية فإن جوهرها التراثي والثقافي والفني، وأبعادها الإجتماعية والإنسانية تبقى متجذرة، الأمر الذي جعل اللجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي لليونسكو توافق على طلب المملكة المغربية بإدراج التبوريدة في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية وذلك في دجنبر 2021 تراثا ثقافيا لاماديا مغربيا[2]. فقد كانت التبوريدة دائما فضاء للتبادل والتنافس بين القبائل خلال المواسم التي تنظمها تلك القبائل، وهي مناسبة تلعب فيها التبوريدة دور المحرك المحوريا للتنشئة الإجتماعية وترسيخ الشعور بالانتماء للهوية الجماعية وذلك عبر السماح بتوارث العادات والتقاليد والأعراف بين الأجيال المختلفة، وهذا ما يعطيها أبعادا هوياتية ورمزية تجعلها من خصائص المجتمع المغربي.
وترتبط ممارسة التبوريدة باهتمام المغاربة بالفروسية والفرس بالنظر إلى المكانة التي كان يحظى بها هذا الأخير من الناحية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فبالإضافة إلى الوظائف التقليدية التي كانت تستعمل الفرس كوسيلة للنقل والتنقل والجر، سواء في أوقات الحرب أو السلم، فإن التبوريدة وظفت الفرس كأداة للفرجة والتسلية ووسيلة للتباهي والإفتخار.
أصول فن التبوريدة المغربية
يجد لفظ التبوريدة أصله اللغوي في كلمة البارود، وتعني لعب البارود أو لعب الخيل، وهو فن عريق في عالم الفروسية المغربية. وحسب المصادر التاريخية، يعود فن التبوريدة كشكل من أشكال الفروسية إلى بدايات القرن 15م. وتجسد مشهد لهجمات عسكرية متتالية على الأعداء. وترتبط استعراضات التبوريدة بمناسبات عدة؛ كالمواسم الفلاحية والدينية، وكذا الأعياد الوطنية والعائلية؛ مثل الأعراس ومناسبات العقيقة والختان وغيرها من المناسبات. وتنتشر في مناطق عدة من المغرب، وبشكل أساسي في المناطق القروية، وخاصة في مناطق: تادلا، ودكالة عبدة، وبني عمير، وشرقاوة، واحمر، والرحامنة، وبني وارين، وزمور زعير، وزيان، وبني يزناسن.[3] وبالنظر إلى أن فن التبوريدة يحيل على المجال العسكري والحربي، فإن الخيول البربرية (الأمازيغية) والهجيبنة (العربية-البربرية) هي الأكثر تكيفا مع فن التبوريدة[4].
التبوريدة من الإستعراض العسكري إلى عالم الرياضة
بالإضافة إلى المظهر العسكري للتبوريدة، فإنها أيضا ممارسة رياضية تنافسية، فهي من أهم ألعاب الفرجة والرياضات التقليدية التي تمارس في المغرب، حيث تنظم لها المنافسات في مختلف مناطق المملكة، بل واستطاعت أن تجد لها مكانا داخل المجال الرياضي منذ تسعينيات القرن 20، وذلك في إطار منافسات الفروسية التقليدية تحت لواء الجامعة الملكية للفروسية. وبذلك فلم تعد التبوريدة مجرد استعراضات احتفالية بالمحاصيل الزراعية بالمناطق القروية بالمغرب بعد انتهاء مواسم الحصاد[5].
لقد انتقل إذن فن التبوريدة من وضعية احتفالية لتوفير الفرجة للجمهور إلى صناعة رياضية برهانات اقتصادية وتنموية أكبر. وقد وفر هذا الإنتقال فرصة كبيرة لتزايد الإهتمام بالتبوريدة ومَأْسَسَتها كغيرها من الرياضات الحديثة، فتم تنصيفها رياضة رسمية، وتنتظم من أجلها مسابقات وبطولات وطنية وجهوية متعددة، بل وفتح التنافس في تلك البطولات لفئات عمرية من غير الكبار، وخاصة الشباب. وتبقى مسابقة الحسن الثاني التبوريدة -بطولة المغرب فنون الفروسية التقليدية- التي يشارك فيها عشرات الفرق التي تمثل مختلف مناطق المغرب. وتشير إحصائيات الجامعة الملكية للفروسية أن المغرب يتوفر حاليا على أكثر من 300 فرقة للفروسية التقليدية (التبوريدة) منضوية تحت لوائها، كما يوجد أكثر من 5900 فرس تمارس فنون الفروسية التقليدية.[6] وبفضل هذه المَأْسَسَة فقد باتت مسابقات التبوريدة تجلب بشكل متزايد فئات واسعة من الجمهور، وأصبح الاهتمام بالفرس يحظى باهتمام أكبر لدى فئات غير الفئات التي كانت تهتم به فيما سبق، وأصبح المغرب ينظم معرضا دوليا كبيرا للفرس بمدينة الجديدة.
طقوس التبوريدة
تحاط استعراضات التبوريدة، باعتبارها أهم الإحتفالات الجماعية التي تقوم على أساس استعراض القوة والمهارة والتفاخر بالإنتماء الجماعي لمجموعة أو قبيلة أو منطقة، بمجموعة من التقاليد والطقوس، سواء تعلق الأمر بالفرس أو الفارس أو المجموعة التي ينتميان إليهما، وحتى بمختلف الوسائل المعبأة لاستعراضات التبوريدة:
الفرس:
بالنظر إلى أن الفرس يمثل وجه القبيلة والأسرة والمنطقة، فإن مشاركة الخيول في استعراضات التبوريدة تكون محكومة بمجموعة من الشروط ، من بينها[7]:
- أن تكون حرة؛ كأن تتعفف عن أكل علف غيرها.
- صغيرة في السن وألا تكون قد حملت السرج قط حتى يسهل ترويضها.
- اتساع خاصرتها وأن تكون عضلاتها مفتولة وذيلها قصيرا.
- أن تكون طويلة.
- أن تكون واسعة الصدر وعريضة الركبتين ومرفوعة الرأس.
- كما يجب أن تكون مروضة بشكل جيد.
الميدان أو “المحرَكْ”:
ويطلق عليه أيضا لفظ “المجبدْ”، وهو الفضاء المكاني الذي تلتئم فيها فعاليات التبوريدة وما يرتبط بها من أنشطة أخرى، وخاصة التجارة وبيع المنتوجات المحلية.
الخيمة أو الخْزانة (لفراك):
كانت الخيمة أو الخيام التي تنصب على هوامش المحرك خلال استعراضات التبوريدة فيما سبق منسوجة من صوف الغنم والمعز، أما في السنوات الأخيرة فقد أصبحت تنصب خيمات (الخْزايْن) أكبر مصنوعة بمواد غير الصوف وتكون أكبر حجما.
أزياء التبوريدة:
يتزيى الفرسان أثناء استعراضات التبوريدة بمجموعة من الأزياء التقليدية الخاصة بهذه المناسبة، وبالإضافة إلى ضرورة أن يكون الزي موحدا، فإن ملابس أعضاء المجموعة “السربة” تتكون من جلباب أبيض رقيق تحته “الفَرجية” أو “التشامير”، وسروال أبيض وواسع وفضفاض، وفوق الكل برنوس رقيق أبيض كذلك. كما يضع الفرسان عمامة بيضاء تسمى “الرزة”، كما يستعملون “الْحرافْ” وهي عبارة عن حبال حريرية حمراء، وأحيانا يَتَمَنْطَقُ الفارس بم”الكُمِّيَّة” أو الخنجر، وكذلك ب”الشْكّارة”، وهي حقيبة جلدية تعلق على الكتف بواسطة مجدول أحمر من الحرير أحيانا يوضع فيها نسخة من المصحف ونسخة كتاب “دليل الخيرات”. أما الحذاء فيسمى “التْماكْ” (أو التماغ) ويكون مصنوع من جلد خفيف يصل إلى أسفل الركبة[8].
السرج أو السناح:
وبالنظر إلى الطابع الإستعراضي للتبوريدة فإن الفارس يزين فرسه قبل دخوله إلى ساحة التبوريدة، ويزين السرج ومتعلقاته، الذي يضعه فوق صهوة جواده، بطقم من الزينة ومنه[9]:
- “اللبدْة”؛ وهو عبارة عن نسيج صوفي ناعم يوضع مباشرة فوق ظهر الفرس.
- “الطْرَاشَحْ”؛ وهو عبارة عن ستة سجاجيد من “المَلْفْ” لحماية صهوة الفرس من الاحتكاك ب”القربوس” الذي يكون مصنوعا من الخشب أو المعدن.
- القربوس: وهو الذي يوضع عليه السرج مباشرة ويعطيه شكله ومظهره العام. أما ووظيفته فهي ربط السرج إلى الفرس من مقدمة البطن برباط محكم يسمى “تاكْسْتْ” (الحزام) وبآخر في صدر الفرس ويسمى “الدِّيرْ”.
- برقوع أو التاج: وهو وشاح ذهبي اللون تزين به رقبة الفرس.
وهناك عناصر أخرى تعلق فيها أجراس صغيرة (الناقوس) وهي عبارة عن خيوط حريرية تربط فيها حبات “الْموزونْ”، و”أقْبِضْ” وهو وشاح ذهبي اللون في رقبة الخيل و”تسْكِرِّيتْ” التي تربط اللجام في ناصية الفرس[10]. كما أن شكل وألوان الأزياء المرافقة للتبوريدة، يتباين في أحيان عدة من منطقة إلى أخرى أو من سربة إلى أخرى.
الفرسان:
يعتبر الفارس العنصر الأهم إلى جانب الفرس في استعراضات التبوريدة المغربية، وهناك مجموعة من المهام التي توزع بشكل دقيق داخل السربة، حتى يتسنى أداء مهمتها على أكمل وجه، وهذه المهام هي:
- العلام، أو المقدم: وهو الفارس الذي يتم تكليفه بتسيير وقيادة السربة، والسربة عبارة عن فرقة من الفرسان مكونة بين 15 و25 فارس. ويشترط في العلام شرط الأقدمية المرفوقة بالتمرس والعلم بدقائق التبوريدة وطقوسها المتعددة. وتظهر أهمية العلام داخل المجموعة (السربة) من خلال حرصه الدائم على، وفي أغلب الأوقات، على الوقوف على الركاب في وقت يجلس فيه باقي أعضاء السربة، حتى يتسنى له مراقبة ما يحدث حوله داخل السربة، ويصدر أوامره وتوجيهاته إذا اختل جانب من جوانب السربة و الإستعراض؛ سواء تعلق الأمر بالرقص أو انضباط فرس من أفراس المجموعة، أو تعلق الأمر بعملية إطلاق البارود[11].
- العمار: وهو الشخص الذي يتكلف بحشو بنادق الفرسان (بنادق من فئة بوحبة) بالبارود، ويشترط فيه بدوره الإلمام بقواعد عمله ومعرفة تفاصيل ميدان البنادق والبارود.[12]
كيف تجري أطوار التبوريدة؟
تمر عملية الإستعراض داخل ميدان التبوريدة (المحرك) بمرحلتين:
مرحلة الهدة أو التحية (التسليمة):
تعتبر هذه الرحلة بمثابة التسخينات الأولية والتجريبية، وتبدأ مع وصول السربات أو المجموعات إلى ميدان التبوريدة، حيث يتم تبادل التحايا بين الفرسان ثم يطلبون التسليم “لرجال البلاد” أي للشرفاء والصلحاء والأولياء، وتصطف جميع السربات الواحدة وراء الأخرى. وتبدأ بمجرد ما يسمع الفرسان العلام يقول: “بالي الحافظ الله”، هذه المرحلة لا يطلق فيها الفرسان البارود ولا يصلون فيها إلى نهاية المحرك (المجبد).[13]
التخريجة أو الطلقة:
بالنظر إلى أن هذه التخريجة هي الركن الأساسي في فن التبوريدة، فإنها تخضع لنظام محكم ودقيق. ففي بداية هذه المرحلة تقف كل السربات مصطفة في بداية ميدان التبوريدة (المحرك) في انتظار دورها في الخرجة الرسمية. فبعد أن تكون البنادق معبأة بمادة البارود، وبمجرد ما يأتي دور السربة يتقدم العلام منفردا إلى نقطة الإنطلاقة ثم يتبعه باقي أعضاء السربة الذي يصطفون في صف واحد يتوسطه العلام. وقبل الإنطلاقة يتفقد العلام سربته ثم تشرع الخيول في التقدم إلى الأمام ببطء، ومع إعطاء العلام إشارة الإنطلاقة مرددا عبارة: “والحافظ الله” (طلبا لسلامة السربة) يقف الفرسان على الركاب ويشرعون في عملية ترقيص الخيول والتقدم في الميدان. وبعد الإشارة الثانية للعلام بكلمة ” آالمكاحل” (البنادق) يضع الفرسان بنادقهم فوق أكتافهم ثم يحركونها إلى الأمام وإلى الخلف. وبعد الإشارة الثالثة من العلام عبر النداء بعبارة: “أَرَوْ الخيل” (دور الخيل) تندفع الخيل بأقصى سرعتها إلى الأمام. وعلى طول الميدان وبسرعة وخفة يقوم الفرسان بتحريك بنادقهم وفق تعليمات العلام، فينقلون بنادقهم بدقة وسرعة بين الكتفين وفي اتجاه الخلف والأرض، وتدعى هذه العملية ب”الخرطة”، ثم يعيدونها نحو صدروهم (التَجْنيحَةَ). وبعد ذلك يستعد كل فارس للإطلاق البارود عبر وضع سبابته على الزناد منتظرا إشارة العلام، ثم يطلقون النار مرة واحدة وبشكل متزامن، ثم تعود السربة إلى رأس المحرك[14]. وخلال هذه المرحلة يجب أن يكون أداء الفرسان تحت قيادة المقدم أداء متقنا ومتناسقا سواء على مستوى الاصطفاف المثالي والانطلاقة المنظمة والمتزامنة، أو خلال إطلاق طلقة البارود بشكل متزامن، وغيرها من الطقوس والحركات المطلوبة خلال هذه المرحلة، والمرحلة التي تسبقها.
يشار إلى أن فن التبوريدة هو فن رجالي (الرجال البالغين) بامتياز عبر تطوره التاريخي، لكنه في السنوات الأخيرة، تشكلت عدد من المجموعات والسربات النسائية تضم في صفوفها نساء شابات ينحدرن من أسر ذات باع في ميدان تربية الخيل ولعبة التبوريدة، حيث تشكلت على الأقل 5 فرق (سربات) نسائية. كما تشكلت فرق (سربات) للفئات السِّنية بين 11 و16 سنة (25 سربة).[15]
المراجع
[1] رضوان ايت إعزى ونبيل تاخلويشت، التبوريدة المغربية بين التراث والرياضة، مجلة ليكسوس، العدد 45، يناير 2023، صص: 81-95.[2] الموقع الرسمي لليونسكو على الرابط: https://bit.ly/3HkuQzg .
[3] الموقع الرسمي لليونسكو على الرابط: https://ich.unesco.org/doc/src/42475-FR.pdf .
[4] أنظر الموقع الرسمي للشركة الملكية لتشجيع الفرس: https://bit.ly/3kyJZnx .
[5] رضوان أيت إعزى ونبيل تاخلويشت، التبوريدة المغربية بين التراث والرياضة، مجلة ليكسوس، مرجع سابق، صص: 81-95.
[6] الموقع الرسمي للجامعة الملكية المغربية للفرووسية: https://bit.ly/3ZFfkoP .
[7] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، ع 10، صيف 2010، صص: 50-57.
[8] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، مرجع سابق، ص: 55./ الموقع الرسمي الشركة الملكية لتشجيع الفرس: https://bit.ly/3kyJZnx .
[9] أنظر الموقع الرسمي الشركة الملكية لتشجيع الفرس: https://bit.ly/3kyJZnx .
[10] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، مرجع سابق، ص: 55.
[11] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، مرجع سابق، ص: 55.
[12] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، مرجع سابق، ص: 56.
[13] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، مرجع سابق، ص: 56.
[14] الركوك علال، أصالة الفروسية بالمغرب، مجلة الثقافة الشعبية، مرجع سابق، ص: 56.
[15] الموقع الرسمي لليونسكو على الرابط: https://ich.unesco.org/doc/src/42475-FR.pdf .