المحتويات
مقدمة
أحمد بن خالد الناصري، من أعلام الفكر والعلم في المغرب، وهو علامة ومؤرخ ترك بصمة لا تخطئها العين في ميدان التأليف التاريخي بالخصوص، خاصة وأن مؤلفه المشهور” الإستقصا لأخبار دور المغرب الأقصى” يعتبر من المؤلفات والمصادر التي لا غنى عنها لكل باحث في تاريخ المغرب ودوله. وقد وصف محمد الحجوي الثعالبي الناصري بقوله: “كان المترجم علامة عصره، مشاركا متقنا متفننا حافظا، دراكة، بعيد الغور، عالي الهمة، حسن الأخلاق، له مكارم جمة تنبئ عن شرف أصله، وكرم فضله. له التاريخ الشهير المسمى ب (الإستقصا في أخبار المغرب الأقصى)”[1]. فقد كان الناصري من الشخصيات المغربية التي تمكنت من الجمع بين فضائل متعددة؛ فكان إلى جانب عمله العلمي والتربوي وتأليف الكتب، والإنشغال بقضايا الأمة المغربية إن على المستوى السياسي والثقافي والعلمي، فإن الرجل كان أيضا من الشخصيات التي تحملت مسؤوليات كبيرة في دواليب المخزن المغربي على عهدي السلطانين الحسن الأول (1836م-1894م) وابنه المولى عبد العزيز (1878م-1943م). ورغم التعدد الوظيفي الذي طبع مساره فإن مهماته المخزنية لم تمنعه عن القيام برسالته في التدريس والتعليم وكذا في التأليف والتدوين، والتأريخ على لمسار المغرب التاريخي، بل وقد أفادته كثيرا المهام التي تحملها في عمله التاريخي، وسعت مداركه وآفاق نظرته إلى المغرب والمجتمع المغربي.
النسب والنشأة
هو أبو العباس أحمد بن خالد بن مُحمد المدعو حماداٌ بن مُحمد الكبير بن أحمد بن مَحمد الصغير بن الشيخ مَحمد الشهير بابن ناصر الدرعي مؤسس الزاوية الناصرية بتامكروت بمنطقة درعة. فأحمد الناصري سليل أسرة مشهورة في العلم والتصوف والرياسة، هي أسرة ابن ناصر. وقد رفع المترجم له نسب هذه الأسرة إلى جعفر بن أبي طالب، وأشار إلى أن أول من قدم إلى المغرب من أفرادها المسمى ناصر. وكان قدومه، في جمع من بني معقل؛ ضمن قبائل بني هلال وبني سليم في أواسط القرن الخامس الهجري (11م) بعدما كانوا مستقرين بداية في منطقة صعيد مصر.[2] وقد نسل من هذه الأسرة بعد تأسيس الزاوية الناصرية علماء كبار على رأسهم: الشيخ المؤسس، وابنه أحمد، وعبد الله بن مَحمد ابن ناصر، ومحمد المكي بن موسى، وأخوه أحمد، وسليمان بن يوسف، والحافظ محمد بن عبد السلام وغيرهم. ومع انتشار نفوذ الزاوية انتقل عدد من أفراد الأسرة الناصرية للإستقرار في مناطق كثيرة من المغرب حيث لا تكاد تخلو منطقة من طبقة من طبقات الناصريين، وخاصة في سوس (بمنطقة أولوز)، وبلاد زايان، بالإضافة إلى مناطق أخرى كمنطقة: مْزوضة (إقليم شيشاوة) وسطات، وتيدلي ومكناس، ودمسيرة (إقليم شيشاوة) ودكالة، وورزازات، ومسيوة، وونيلة، وهنتيفة، وتادلا، وآيت زينب، والسراغنة، وشفشاون، وتدغة، وفاس، والرباط، وسلا… ويعتبر الفرع الذي انتقل على مدينة سلا من بين أشهر فروع أسرة الناصريين، وهي التي ينتمي إليها المؤرخ أحمد بن خالد الناصري.[3] ففي في حدود 1220ه/1805م انتقل والد المترجم له من درعة إلى مدينة سلا، وذلك قبل أن ينتقل إلى مدينة طنجة ثم العرائش بعدما ذاع صيته في المنطقة الممتدة من سلا إلى طنجة. أما أمه فهي السيدة فاطمة بنت محمد بن زروق العلمي من شرفاء جبل العلم وتزوجها أبوه لما كان مستقرا في مدينة العرائش والتي ولد فيها جميع أبناءه باستثناء أحمد صاحب الترجمة، حيث رجع أبوه إلى مدينة سلا مرة أخرى وأحمد حمل في بطن أمه وذلك سنة 1250ه/1834م.[4]
ولد أحمد بن خالد الناصري السلوي بمدينة سلا فجر يوم السبت 22 ذي الحجة عام 1250ه/ 22 مارس 1835م، وبها نشأ وتعلم على يد ثلة من العلماء والأساتذة، فأخذ علوم القرآن على شيخه الحاج محمد لعلو السلاوي، وبعده على يد محمد بن الجيلاني الحمادي ومحمد بن طلحة الصباحي، وعلوم التجويد وحفظ المتون والكتب الأمهات كمنظومة الشاطبي وخلاصة ابن مالك وتلخيص المفتاح على الشيخ عبد السلام بن طلحة الصباحي، وعلوم اللغة العربية من نحو وبلاغة وأدب ومنطق وكلام وأصول الدين وفقه على الشيخ محمد بن عبد العزيز محبوبة. كما كان قاضي سلا أبو بكر عواد السلاوي من الشخصيات التي لازمها واخذ عنها الناصري لمدة طويلة، فأخذ عنه الأصول والمعاني و البيان والبديع والحديث والسيرة النبوية والتصوف وفلسفة الدين. وبالإضافة على مجالسة الشيوخ والعلماء فإن أحمد بن خالد الناصري كان شخصا شغوفا بمطالعة الكتب والمجلات والجرائد في علوم كثيرة خاصة كتب التاريخ والجغرافيا.[5]
الناصري والدرس الشرعي والعلمي
كانت البداية الأولى للناصري مع عالم الوظيفة بدخوله ميدان التدريس في مجالس علمية كانت مقصد عدد كبير من التلاميذ الذي يرغبون في الإستزادة من علمه في حقول علمية مختلفة كالتفسير والفقه وعلم القراءات والبلاغة وغيرها، خاصة وأن مسلكه في التدريس كان جديدا بالنسبة لعلماء عصره، حيث “أنه كان يراعي في تدريسه التفهيم ويطرق المسائل الاجتماعية والدينية ويتكلم عليها بالكلام البليغ الذي يؤثر في عقول الحاضرين فكانت دروسه من أجل ذلك أندية تزدحم عليها الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مقاصدهم وأغراضهم فكانوا يبكرون إلى المجلس قبل الوقت بالساعة والساعتين”.[6]
وفي الفترة الممتدة بين سنة 1863م/1280ه و سنة 1873م/1290ه قام الناصري بعدة جولات في مناطق متعددة من المغرب مكنته من التعرف على تلك المناطق ودراسة أحولها وعرف أحوال ساكنتها، والالتقاء بعلمائها وأدبائها وكبرائها، فزار أولا مدينة فاس، ومكناس وزاوية زرهون، ثم سافر لجبال الريف ومنطقة غمارة ودخل مدينة تطوان والعرائش وأصيلا والقصر الكبير بعدما زار ضريح الشيخ عبد السلام بن مشيش العلمي بجل العلم. كما كانت له جولة أخرى ببلاد الشاوية ونواحيها، وزار مدينة أزمور.[7]
المؤرخ الناصري بين المسار الوظيفي والتأليف العلمي
رغم تردده بل ورفضه في بداية أمره، فإن الناصري استجاب لدعوة السلطان المولى الحسن الأول للانتظام في سلك الوظيفة الإدارية، وذلك لخوفه من الإنشغال عن العلم ومجالسه، لكن إلحاح السلطان عليه جعله يقبل، فأسند إليه وظيفة خطة الشهادة بمدينة سلا عام 1280ه/1863م نائبا عن قاضيها الفقيه محمد العربي بن أحمد بن منصور، ثم خطة العدالة والصائر على الأحباس الكبرى بنفس المدينة سنة 1868م/1280ه، وكان من أعماله الجليلة خلال مدة توليه لهذه المسؤولية عمله على إنقاذ المدرسة المرينية بطالعة سلا من الإندثار والزوال. كما عمل نائبا مستشارا لأستاذه أبي بكر عواد قاضي سلا في النوازل المهمة التي تعرض عليه للإفتاء فيها وإبداء رأيه في أحكامها، كما كان يسند إليه النيابة عنه في الخطابة بالمسجد الأعظم بسلا يوم الجمعة.[8]
وفي سنة 1292ه/1875م عينه السلطان للخدمة في مرسى الدار البيضاء، ثم ببنيقة الصاير بمراكش (إدارة الشؤون المالية)، كما قدم بهذه المدينة دروسا بجامع ابن يوسف في علوم مختلفة، كما جمع المادة العلمية لكتابة أشهر مؤلفاته “الإستقصا…”. وبعد ذلك عينه السلطان للخدمة بمرسى مدينة الجديدة، وهناك أتم جمع كتابه “الإستقصا”، وقد انتهى من مهمته في مرسى الجديدة سنة 1299ه/1881م . كما كان السلطان يستشيره خلال هذه الفترة في أمور البلاد السياسية والإقتصادية، فهو من حرر قانون الخراج والمداخل المالية بالمغرب.[9]
وقد عاد إلى سلا مرة أخرى للتفرغ للكتابة والتأليف والتدريس، لكنه لم يلبث أن تولى الوظيفة من جديد في مرسى الدار البيضاء سنة 1883م/1301ه، فعمل بها لمدة ثلاثة سنوات، وذلك قبل أن يعينه السلطان سنة 1886م/1304ه للفصل في إحدى القضايا التجارية بمدينة طنجة كان أحد أطرفها الأجانب. وفي السنة الموالية كلف بمهمة الشؤون المالية بمدينة فاس بقسم الصائر، وفي نفس الوقت عمل على تدريس مختصر الشيخ خليل بجامعة القرويين.[10]
وفي سنة 1308ه/1890م عاد الناصري إلى مدينة سلا ليستريح من الأشغال التي كلف بها وللتفرغ للدرس والتأليف، لكن أمرا سلطانيا جاء ليعينه سنة 1893م/1310ه مرة ثالثة للخدمة بمرسى الدار البيضاء، لكنه عاد إلى مسقط رأسه إثر وفاة السلطان المولى الحسن الأول 1894م/1311ه. ثم استدعاه السلطان الجديد المولى عبد العزيز بن الحسن وكلفه عام 1312ه/1895م بمهمة إحصاء الأملاك المخزنية بالدار البيضاء. وبعد الفراغ من مهتمه تلك تفرغ في بلده سلا للكتابة والتأليف وتوقف بشكل نهائي عن القيام بأية أعمال رسمية ومخزنية.[11]
مؤلفاته وإنتاجاته العلمية
خلف المترجم له عدد مهما من التأليف في فروع علمية عديدة، لكن غالبيتها العظمى لم يطبع بل ما تزال مخطوطة، وهي كالآتي:[12]
- “الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، وهي موسوعة تاريخية، وبها عرف بالمؤرخ السلوي في كثير من التآليف الأجنبية، وطبع أول الأمر في مصر بالمطبعة البهية سنة 1312ه/1895-1896م، وصدرت فيما بعد في ثلاث طبعات أخرى بالمغرب وفي أجزاء مختلفة. وقد ترجم المؤلف إلى اللغة الفرنسية من إنجاز مجموعة مستشرقين؛
- “زهر الأفنان من حديث ابن الونان”، وهو شرح على أرجوزة ابن الونان المعروفة بالشمقمقية (فاس 1314ه/1896م)؛
- “طلعة المشتري في النسب الجعفري (فاس 1902م/1320ه)؛
- “كشف العرين عن ليوث بني مرين”؛
- “رسالة في تحقيق أمر سبعة رجال دفناء مراكش”؛
- “تعليق على شرح ابن بدرون لقصيدة ابن عبدون”؛
- “تعليق على رقم الحلل في أخبار الدول لابن الخطيب السلماني”؛
- “تعليق على بداية القدماء وهداية الحكماء”؛
- “تعليق على ديوان أبي الطيب المتنبي”؛
- “تعليق على قصيدة عمرو بن مدرك الشيباني”؛
- “تقييد في البربر“؛
- “تأليف في مسألة إعطاء الرسوم”؛
- “الفوائد المحققة في إبطال دعوى أن التاء طاء مرققة”؛
- “شرح مساعدة الإخوان” وهي شرح لقصيدة الشيخ مَحمد ابن ناصر”
- “تعظيم المنة بنصرة السنة في إنكار البدع والرد على الطرق فيما خرجوا فيه عن السنة”؛
- “رسالة في الرد على الطبيعيين”؛
- “رسالتان في فن الموسيقى”؛
- “رسالة في تحديد السلطة للولاة”؛
- “رسالة الحواريين”؛
- “قانون في الترتيب والجبايات المالية بالمغرب”؛
- “تقييد مختصر في حصر جمهرة آل ناصر”؛
- “وصية وعظية”؛
- “مجموع فتاويه الفقهية”؛
- “دفتر محررات وأصول تاريخية”؛
- “تعليق على سفينة الراغب”؛
- “الفلك المشحون، بنفائس تبصرة ابن فرحون”؛
- “ديوان شعري”؛
توفي رحمه الله يوم 16 جمادى الأولى 1315ه/ 12 أكتوبر 1897، ودفن بمقبرة باب معلقة بمدينة سلا.
المراجع
[1] محمد الحجوي الثعالبي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، ج2، اعتنى به أيمن صالح شعبان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995، ص 369.[2] أحمد بن خالد الناصري، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، تحقيق وتعليق جعفر الناصري وحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1997، ص 09.
[3] عمالك أحمد، معلمة المغرب، ج22، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2005، ص 7375-7376.
[4] الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 10-11.
[5] المريني نجاة، معلمة المغرب، ج22، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، ص 7384. / الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، ص 11-13.
[6] الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 14.
[7] الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 18.
[8] المريني نجاة، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7384-7385./ الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 17-18.
[9] المريني نجاة، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7385./ الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 14.
[10] الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 20-21.
[11] المريني نجاة، معلمة المغرب، ج22، مرجع سابق، ص 7385./ الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 21-22.
[12] الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج1، مرجع سابق، ص 27-34.