النشأة والتعليم

أبا عبيدة، أحمد بن مُحمّد بن مولاي المُحْرِز العلوي: أحد أبرز علماء مرّاكش المتأخّرين، ولد سنة 1934 بدرب أمْسَكِّي، من حومة “الرحبة القديمة”، بمرّاكش؛ ويتناقل بعض محبّيه إرهاصات ولادته، وسياق كنيته ب “أبا عبيدة”، هكذا بالفتح، أضربنا عن الخوض فيها.

ولمّا بلغ سنّ التمييز (حوالي السنة الخامسة) حمله والده إلى كتّاب الحومة، حسبما درج عليه مغاربة ذلك الزمان، لِيكِلَهُ إلى نظر الطالب علّال، الذي جمع على يده نصف كتاب الله، قبل أن ينتقل إلى كتّاب آخر، حيث كان المشرف عليه الطالب محمّد الفلالي، المُكنّى ب “الطالب لكحل”، ممّا ترك بعض الحسرة في نفس الطالب علّال الذي لم ترُقه تلك المغادرة.

لكن يبدو هذا الاختيار موفّقا، لأنّ الطالب لكحل كان ملمّا بكلّ ما يتّصل بضبط القرآن الكريم، حفظاً وتجويداً وأداءً، وبكلّ ما يتّصل بمحكم الكتاب ومتشابهه. فكان بحقّ رأس طبقة المتأخرين من قرّاء مرّاكش.

وعلى يديه حذق المترَجم القرءانَ كاملا، حفظا ورسما وضبطا، وعمرُه يناهز العاشرة. وعن الطالب لكحل تلقّى التجويد، حين وجّهه هذا لأول نصّ، يعدّ أساساً في هذا الفنّ؛ وكما كانت له عليه اليد الطولى في حذق القرآن وتحصيل علومه، كانت له عليه دالّة في السلوك العامّ، من زهد في الدنيا، وخفض الجناح للمتعلّمين، وتواضع للسائلين، وتورّع عن مختلف الشبهات، حتّى كان يستنكف عن تسخير تلاميذه لقضاء بعض المآرب التي تعنيه، على عكس ما كان جاريّا لدى كثير من أمثاله. وكان المترجَم، من جهته، دائمَ الثناء على شيخه، معجبا بلهجته الفيلاليّة. ومن جملة ما تواتر لدى تلاميذ المترجم وطلبته، أنّه كان، بفرط محبّته لشيخه، يدعو له قائلا: اللهم انقص من عمري، وزده في عمره، أو ما يشبهه. ونظرا لما امتاز به المترجم من نجابة، فقد كلّفه الشيخ الفلالي مبكّرا بكتْب ألواح التلاميذ، ومساعدته في ضبطهم.

رحلة طلب العلم

بعد جمع القرآن الكريم، انتقل مباشرة إلى طلب العلم، فصار يتردّد على الحِلق التي كان علماء مرّاكش يعقدونها بمسجد ابن يوسف، حيث أخذت بشغاف قلبه حلقةُ الشيخ محمّد بن عبد القادر مسّو.

ويبدو أنّ نبوغ المترجم كان مبكّرا، حتّى إنّه دأب على مغادرة حلقة المبتدئين، ليتسلّل إلى حلقة الشادِين. فكان يكمن وراء إحدى سواري المسجد لمتابعة دروس هؤلاء.

وممّا يروى في هذا المقام أنْ أشكل على هؤلاء جوابٌ عن إحدى المسائل النحويّة العويصة، ذات يوم، فتصدّى لها المترجَم بالإجابة الشافيّة.

كان ذلك إيذانا بتفتّق قريحة الطفل اليافع أحمد المحرزي، لينضمّ إلى سلك الطلبة الكبار، لتحصيل علوم الآلة، والمتون الأوليّة، في النحو والفقه وعلوم القرءان واللغة والعقيدة، قبل أن يشدّ الرحال إلى مدينة الصويرة ليأخذ القراءات السبع، من طريق الشاطبيّة، عن شيخ يدعى “بلْكُونْتْري”، فأتقنها. ثمّ أردفها بحفظ منظومات، في الرسم والضبط، كالمنبّهة لأبي عمرو الداني، وحرز الأماني للشاطبي، والدرر اللوامع لابن برّي، وغيرها من المنظومات.

بعد هذه المرحلة انتقل إلى مجاورة النصوص الكبرى الأساسيّة في هذه العلوم، على أيدي شيوخ نذكر منهم: محمّدا بن عبد القادر مسّو، سابق الذكر، وأحمد أكَرّام، وبلحسن الدباغ، وعبد الجليل بلقزيز، وأحمد أملّاح، والرحّالي الفاروق، وعمر بن عبَاد… مثابراً على التحصيل، مواظباً على حضور جميع الدروس التي يلقيها هؤلاء العلماء، من فقه وتفسير وحديث، وعربيّة ونحو وعقيدة وسلوك وغيرها سواء في جامع ابن يوسف، أو في باقي مساجد مرّاكش.

ولعلّ هذا ما حدا بأحد أنجب طلبته أن يثني عليه، فيقول: “كان الشيخ مولاي أحمد المحرزي في العربيّة خليلَ فنونها، وفي القراءات شاطبيَّ علومها، وفي الفقهيات مالكَ معارفها، وفي نوادر التفسير غرناطيَّ نُكتها، وفي المعارف الإلهيّة [السلوكيّة] إسكندريَّ حِكمها”. ومع هذا كلّه، فقد عُرف برسوخ القدم في علم النحو، فعليه المدارُ فيه، والتحقّق بعلوم القرءان، من قراءات وتوجيه ورسم وضبط وتجويد، وله دراية فائقة بمذهب مالك بن أنس، يحفظ مختصر خليل وبعض شروحه مثل مواهب الجليل للحطّاب، والمرشد المعين، ويستحضر مدوّنة سحنون، ورسالة ابن أبي زيد، وكتب ابن عبد البر، وتنبيهات عياض. ومن الكتب التي ولع بها فتحُ الباري لابن حجر، والمغني لابن قدامة، والمحلّى لابن حزم، وكلّ مؤلّفات ابن تيمية وابن القيم. هذا بالنسبة للمتقدّمين. أمّا من المتأخّرين، فقد شغف بنيل الأوطار للشوكاني، وسبل السلام للصنعاني، ومؤلّفات تقي الدين الهلالي وناصر الدين الألباني وابن العثيمين وابن باز، فضلا عن شيوخه الذين تلقّى عنهم مباشرة.

ولعلّ ما أثار انتباهَ كثير من الذين خالطوا المترجم من قريب، في الجانب السلوكي، شدّةُ خموله، حتّى كأنّه، في نظر البعض، كان يترسّم خطوات أصحاب العرفان الراسخين، ويتّخذ جار الله الزمخشري أنموذجا يُحتذى.

وأحْرِ بمن كان هؤلاء شيوخَه وهذا سلوكَه، ولازم مجالس العلم بصدق طلبٍ وقوّة عزيمة، أن يطول في المعارف باعُه، وترسخ في العلوم قدمُه، وتتّسع في مختلف مجالات الثقافة فهومُه.

اعتلاء كرسي الأستاذية

لمّا تضلّع من مختلف العلوم الرائجة يومئذ وامتلأ وطابه واكتمل، واشتدّ عوده واتّصل، وأصبح مؤهّلا لأن يكون أحد شيوخ مرّاكش، تصدّر كراسي العلم بمساجد المدينة، في سنّي الستّين من القرن الماضي، ولاسيّما في مساجد أحياء “ضباشي” وابن صالح و”أزبزط”، لِيبُثّ خلالها علوم التوحيد والفقه والتفسير واللغة والنحو، قبل أن يلتحق بسلك التعليم حيث عمل معلّما بمدرسة باب الخميس، ثم انتقل إلى سلك الثانوي بمؤسّسة ابن يوسف (دار البارود) للتعليم الأصيل، قضى بها عشرين سنة في تدريس مادّة التجويد، قبل إحالته على التقاعد. وعلى الرغم من التزامه بالتدريس النظامي، فلم يقطع صلته بحلق العلم، سواء في مساجد المدينة، أو في منزله حيث يتوافد عليه كثيرٌ من طلبته ومحبّيه لمدارسة بعض القضايا العلميّة الدقيقة، حتّى كانت لياليه وأيامُ عُطله تكاد تكون امتداداً لمجالسه العلميّة في المسجد. فبعد صلاة العشاء يتوافد عليه بعض الطلبة والعلماء، فتستمرّ حلق المسجد في شكل مسامرات علميّة قد تتّصل أحيانا حتّى أذان الفجر. والغريب أنّ المترجم لم يكن يضجر لهذا “البرنامج القاسي” الذي صار ديدنه بعد تقاعده، حتّى اعتقد البعض أنّ القدرة على السهر من طبائع الفطرة وسنن الكون الثابتة التي لا خيار لأبا عبيدة فيها ولا دخل. فكان بيته يعجّ بهؤلاء “الرواد”، ولا يضيق بهم؛ بل بقدر ما كانت المجالس تكتظّ بقدر ما كانت قريحة الشيخ تشحذ، فيتبحّر في الشروح، ويكثر من الشواهد والاستطرادات المفيدة؛ بل يرجّح ويستدرك ويصحّح، ويرجع إلى ما أثبت من طرر على حواشي بعض الكتب. ولا تجده في بيته إلّا محاطا بعُمد كتب الفنّ الذي يتدارسه مع زواره.

يجمع تلاميذه ومحبّوه على أنّه عالم عصاميّ، سلفيٌّ أثري، حافظ ضابط، لا تأخذه لومة لائم في الصدع بالحق، وبخاصّة حينما يتصدّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

من أخلاقه وصفاته

ومن صفاته الحميدة، أنّه كان صبورا على الإفادة، حريصا على الاستفادة، متواضعا ورعا، ملازما لبيته، عاكفا على التحصيل والقراءة، ساعده على ذلك فهمُه الثاقب وذكاؤه الحادّ، وقوّةُ حافظته، حتّى أثار إعجاب كلّ من عاشره من طلبة وعلماء؛ يستحضر الشواهد بنصوصها بدقّة متناهيّة، ويصل ما يوصل منها ببراعة؛ فأحبّه كلّ من حظي بمجالسته، وعدّوه آية من آيات الله في ميدان العلم. لذلك كلّه ليس من المبالغة في شيء أن نقول إنّه أحد أوعية العلم في زمانه. فضلا عن أنّه كان كريما بشوشا، محبّا للدعابة، كدأب أهل مرّاكش، لا تغادره الابتسامة مع جدّيته ورزانته؛ وكأنّ لسان حاله يردّد ما قال ابن عرفة (ت. 803):

إذا لم يكن في مجلس العلم نكتةٌ *** بتقرير إيـضاح لمشـكل صـورةِ

وعزوُ غريبِ النّقل أو حلُّ مقفل *** وإشـكالٍ أيّـدتـهُ نـتـيـجةُ فـكـرةِ

فدَعْ سعيَهُ وانظر لنفسك واجتهد *** ولا تـتركَـنْ فالتّركُ أقـبحُ خـلّةِ

وتكاد مجالسه تكون كفيلة بكلّها، حسب تلميذه الأبّي (محمّد بن خِلْفة، ت. 827)، الذي قال مجيبا:

يـمـيـنـا بـمـن أولاك أرفع رتبة *** وزان بـك الدنـيا بأكـمل زينـة

لمجلسُك الأعلى الكفيل بكلّها *** على أحسن ما عـنه المحاسنُ ولّتِ

فأبـقـاك مـن أبراك للناس رحمةً *** وللـدّيـن سيـفاً قاطعا كـلّ بدعةِ

ومع هذا كلّه ظلّ المترجم كارها للظهور، ومتجنّبا للتصدّر، زاهدا في الدنيا في ملبسه ومأكله. وعلى الرغم من أنّه سعى إلى العيش في الظلّ فلم يكن خامل الذكر؛ بل انثال على مجالسه الطلبةُ أينما حلّ وارتحل، قبل أن ينهي مرحلة الطلب.

وممّا اشتهر به المترجم أنّه كان محبّا لتلاميذه، وبخاصّة من كان منهم ذا لسان سؤول وقلب عقول؛ وقد يفرح كثيرا بمن يثير استشكالا عن قضية أو مسألة علميّة، وحتّى تأثيل لفظة أو ترسيسها، خافضا الجناح للجميع، غامرا لهم بعلمه ونبل أخلاقه وجمّ تواضعه؛ لا يَضِنّ عليهم بما حوته خزانتُه العامرة من كتب نفيسة. وبذلك كان بيتُه مثابة للطّلبة والمحبّين من مختلف الفئات، يتوافدون عليه في كلّ وقت وحين، فيقابل الجميع بالبشر والكرم والنكت العلميّة، والتوجيهات التربويّة النافعة.

تلاميذه

ومن تلاميذه الذين برّزوا في ميادين علوم القرءان والقراءات: الشيخ مولاي المصطفى البحياوي، صاحب كرسي التفسير ـ انطلاقا من المحرّر الوجيز لابن عطيّة ـ في إذاعة محمّد السادس للقرآن الكريم، والشيخ أحمد بحيح، والشيخ عبد القادر البوعمري، والدكتور أبو مالك باقشيش، والشيخ مولاي المصطفى أبو حازم “لحبيضي”، ومولاي المهدي جواني الفاسي، وأشهر شيوخ القراءات القرآنيّة، اليوم في المغرب، مثل عبد الرحيم نابلسي، وعمر لقزابري، وغيرهم من لا يحصون عددا. وقد تنافس هؤلاء في مدحه والثناء عليه؛ نقتطف أبياتا من قصيدة لتلميذه الجهبذ العالم، الناظم الناثر الدكتور عادل رفّوش، يقول:

شيخي الإمام بقـيّة السلف الذي *** أعـيا بهمّتـه الشـباب وأفحما

رغم المشيب فروحُه في أوجها *** تختال في ثوب الشباب وتنعما

وغرامه البيت العتـيق فما يُرى *** مـتحـلّلا حـتّى تـراه مـحـرما

 وممّا ينبغي ذكره أيضا في ترجمة الشيخ المحرزي أنّه جاور حوالي عشرين سنة بمكّة المكرّمة، حيث سكن ب “ستر اللحياني”، أحد أحياء مكّة، يقع بين العزيزيّة الجنوبيّة والعوالي. وهذا مّا يسّر له أداء مناسك الحجّ والعمرة مرّات عديدة؛ فلقي بالحرم المكّي أعلاما من المشرق والمغرب، حتّى كان منزله قبلة لكثير من الزوار والمحبّين والمعجبين الذين كان يُقْرِيهم، ويناظر علماءهم، ويعلّم طلبتهم، ويباسط عامّتهم.

ولا يمكن أن يكتمل الانطباع عن معالم شخصيّة المترجم دون الحديث عن شغفه بالكتاب التراثي المخطوط؛ فقد كان مدمنا على المشاركة في ما يُدعى ب”دّلالةّ” الكتب التي تنعقد عادة، بجوار مسجد ابن يوسف، بعد عصر يوم الجمعة. وكانت هذه إحدى الوسائل التي اقتنى بواسطتها عددا من المخطوطات.

وممّا يُذكر أنّه اعتاد كلّما سافر إلى مدينة فاس، أن يحضر أيضا عمليّة “دلالة” الكتب، حيث تقام بجوار مسجد القرويّين، حتّى تواتر عنه أنّه، في إحدى “الدلالات” باع البرنوس الذي كان شيخُه ابنُ عبد القادر قد أهداه إليه، في سبيل اقتناء نسخة جيّدة من كتاب سيبويه.

وكان يحرص في مقتنياته على عتاقة النسخة وجودتها، حسبما تعارف عليه خبراء هذا الميدان. ولذلك فلا غرابة أن يمتلك خزانة تراثيّة حوت كثيرا من النفائس والأعلاق، نتمنّى أن يوفّق الله ورثته لفتحها في وجوه المهتمّين.

أعماله الدعوية والإصلاحية

وعلى الرغم من أنّ أبا عبيدة يعدّ فريد عصره، فلم ينفكّ عن السياق الذي نشأ فيه، حيث طبعته بيئة “الصحوة الإسلاميّة” التي كانت إبّانها في طور القوّة؛ فلم يكن من الغريب أن ينخرط فيها، بما حملت من دعوة إلى نبذ التعصّب للمذهبيّة والتعلّق بالسنّة والجماعة، وما كان عليه الصحابة في الأصول والفروع؛ ومعلوم أنّ هذا التوجّه قد زاغ عن موئله ليتحوّل إلى ما عرف ب “السلفيّة”، أو “الوهّابيّة” المغرضة.

لكنّ المترجم لم ينْسَق مع توجّهات هذا التيّار السياسيّة، بل ظلّ يدعو إلى الثوابت التي تواضع عليها علماء الأمّة المغربيّة، والتي تدور حول الوسطيّة بروافدها الأساسيّة: المذهب المالكي والعقيدة الأشعريّة والتصوّف الجنيدي. ولم يكن يفتي إلّا بالدليل القاطع، من الكتاب والسنّة الصحيحة، ولا يستدلّ إلّا بالثابت، ويُنكر التقليد والتعصّب والجمود. من أجل ذلك لم يكن من الغريب أن يثني عليه أقرانُه الشيوخ وتلاميذه. فمنهم من نعته ب “زين مشايخ العلم، ومفخرة العربيّة… الإمام الأجلّ، والحافظ لعلوم المتقدّمين والمتأخّرين، العارف بالله تعالى، الزاهد الورع التقيّ النقيّ… كان أستاذا مبرّزا في شتى العلوم والمعارف، محبّا للكتب”. ومنهم من ذهب إلى أنّه: “كان آية في الحفظ، بلغ الغاية في الفهم، مع ذكاء خارق، وصبر على التحصيل”. ومنهم من جعله “أحد من ألقت إليه العلوم الشرعيّة مقاليدَها، وأخرجت له اللغة العربيّة أخبارها وأسرارها… له جهود مباركة في الدعوة إلى الله على أرض قطرنا المغربي، أينعت ثمارها فانتفع بقطافها خلقٌ كثير”. ومنهم من قال: “لقد كانت دُعابة الشيخ علما، وحكايتُه حِكَماً، وسكوته حِلما، ومجالسته عبادة وقُرْبة… لا ينصرف عن مجلسه زائر إلّا بفائدة نفيسة، لا تُدرَك إلّا بإنفاق الأعمار بين الكتب والمزاحمة في مجالس العلماء”. وجمع أحدهم كلّ ذلك في مقال وجيز فقال: “وإن تكلّم في فنّ ظننت أنّه لا يُتْقن إلّا هذا الفن”. ونجد أجمع من هذا عند آخر حين قال: “لو أنصفوه لأعطوه في كلّ فنّ دكتوراة”.

وخلاصة القول، فإنّ ثناء العلماء عليه كثير. يكفي أن نذكر منهم العالم الموسوعي، محمّداً تقي الدين الهلالي، ومحدّث عصره، محمّداً ناصر الدين الألباني، ومفتي الديار السعودية السابق الفقيه عبد العزيز ابن باز، رحم الله الجميع.

مآثره العلمية

وعلى الرغم من نبوغه وقوّة حافظته وعلوّ كعبه في بعض العلوم، كالنحو والعربيّة والتفسير والحديث والقراءات، فلم نعثر له على تصنيف يذكر، ولم يخلّف أيّ أثر مكتوب يمكن الرجوع إليه، سوى ما حصّلته ذاكرة بعض جلسائه، وما اختلسه خاصّته في تسجيلات متفرّقة، حين تصدّره لإلقاء الدروس والخطب في بعض مساجد مرّاكش، أو ما زبره بخطّ يده، من فوائد ونكت ومتفرّقات، في عدّة دفاتر مدرسيّة لا تزال مخطوطة.

ويُحتَمل حسب شهادات بعض النابهين من تلامذته أنّها مفيدة لأنّها تحوي اجتهاداته العلميّة وبعض أنظاره في العلوم التي برّز فيها، لاسيّما وأنّه ملك خزانة كتب من أكبر الخزانات الشخصيّة في مدينة مرّاكش، جمعت نفائس المصادر، بين مخطوط ومطبوع.

ولذلك يعتقد كثيرٌ من جلسائه أنّه لو تصدّى للتأليف لأتى بالعجب العجاب، حسبما اعترف له به العلماء الذين جالسوه أو ناظروه أو رافقوه، كالذين سبق ذكرهم. وهذه إحدى الآفات التي تكاد تكون لازمة لكثير من علماء مرّاكش، حسبما تردّد لدى بعض أصحاب التراجم المرّاكشيّين متأسّفين. ولذلك لم يجانب الصواب من قال: “إذا مات شيخ من شيوخ مرّاكش فكأنّما خزانة احترقت”.

وفاته

توفّي الشيخ أبا عبيدة مولاي أحمد المحرزي رحمه الله، بوباء “كورونا” يوم الأحد سادس محرّم، مفتتح عام 1443/15 غشت 2021، عن عمر يناهز سبعاً وثمانين سنة؛ ودفن بجبّانة الرحمة، بمدينة مرّاكش. وقد رثاه عدد من تلاميذه، منهم الشيخ المقريء عمر بن أحمد القزابري بقصيدة مطلعها:

مسافرٌ في ظلال الحزنِ يحملُهُ *** ليلٌ غريبٌ طواهُ في الأسى الأبدُ

أبا عـبـيـدة شيخي يَا سَـنا أمَلي *** تركـتَ فـي البـيـد قـلـباً ما لهُ جلدُ.

المراجع
[1] أبو العبّاس البسيلي: نكت وتنبيهات، 1/82.
[2] الزركلي: الأعلام، 6/115 و7/43.
[3] وديع عمر غوجان: صفحات من حياة شيخنا العلّامة أبا عبيدة مولاي أحمد محرزي.
[4] خالد طاهر صيدقي: تمتيع أهل البلدة بأخبار مولاي أحمد أبا عبيدة.
[5] مولاي المهدي جواني الفاسي: نُبَذٌ عجلى من سيرة الإمام مولاي أحمد أبا عبيدة المحرزي.
[6] ثلاث روايات شفوية عن بعض أقرب أصدقائه وأصفيائه وأحد أصهاره.