
المحتويات
توطئة
كان مولِد أحمد بن جعفر السبتي (أبو العباس السبتي) بحاضرة سبتة، أقصى شمال المغرب، سنة 524 هجرية الموافق لسنة 1129 ميلادية، فنشأ في بيئة متواضعة، ذاق فيها مرارة فَقْدِ الأبِ وحالِ الفَقْـرِ مَعاً. ولظروف العائلة العصيبة؛ قَرَّرَت أمُّه الدّفع به لتعلُّم الصنعةِ لإعانتها على نوائب الدَّهر، إلّا أنه كان يَفِرّ مِن مِهنة الحياكة إلى مجالس القراءة في الكتاتيب، وظَلَّ متنقِّلاً بينها إلى أنْ انتهى به المطاف في كُتّاب الفقيه العالِم عبد الله الفخّار، الذي أخَذَ عنه العِلم والــمَشْيَخَة، بعد أنْ اقتَنَعت والِدته بأهمية تعلُّم ولَدِها، وقنَعت بالمال الذي كان يَبعثُ به الشيخ الفخّار إليها أواخِر كلّ شهر.
الرحلة إلى العلم والتشوف إلى التصوّف
لم يكن يخُطر بخُلْدِ هاته الأمّ أنَّ فَتَاها الذي أقْبَل على تَعَلُّمِ الحساب والنحو بنهمٍ، وحِفْظِ القرآن في سنواتٍ معدودات، مع ذكاءٍ وفِطنة تَفوَّق بهما على أقرانه؛ سيصير أحد أقطاب العلم والإصلاح في المغرب، وشخصية مؤثِّرة في شرائح عديدة من المجتمع وعلى توالِي القُرون.
بعْدَ أنْ شبَّ واستقامَ تطلَّعت هِمّة أحمد بن جعفر السّبتي إلى خَوضِ غمار تجربة الارتحال عن الديار السَّبتية إلى الحاضرة المراكشية، منارة العلم وعاصمة الدولة المرابطية. “في طَلبِ العلم يَهون عليَّ سَفَرُك”، كذا علَّق الشيخ الفخّار على قرار رحيل تلميذه النجيب أحمد، فارتَحل إلى مراكش سيراً على الأقدام، فكان له في تِلك السَّفرة عِوض عمّن فارَقه، وأحوال وكرامات. حتى وصَل مراكش سنة 540م في عِزّ انتصار الموحِّدين على المرابِطين، وبدايات استِفرادهم بالحكم.
أوّل قرار اتخذَه أبو العباس السّبتي عند حلوله بمراكش؛ اتّخاذه لخُلوةٍ شخصية في جَبل جِـليز، معية خَديمهِ سيدي مسعود، قَصَد بها وجه الله، تَعبُّداً وتبتُّلاً وتدبُّراً في معاني سور القرآن الكريم، مع التركيز على الآيات التي حَضَّت على الإنفاق والصدقة والعطاء والبَذل والإحسان، وعلاقة ذلك بالطبيعة وتدبير خيرات الأرض ونهاية العالم والدار الآخِرة، وعامِلاً النَّظرَ والفِكَر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ولم يخرُج مِن خلوته إلّا سنة 580 هجرية حسَب تقدير المؤرخين، وهي السَّنة التي تُصادِف تَولِّي يعقوب المنصور حُكم الدّولة الموحدية[1] .
بَعد تجربة المكابَدة الباطنية للتربية، تخْلِيةً وتربية للنفس، وانقطاعاً عن الملذات في جَبل كَليز بمراكش، وظهور الكرامات على يديه في صفوف مَن كانوا يتسامعون به ويأتونَ أو يأتيهم أحياناً في دُورِهم، وإقبال الناس عليه وعلى أجوبته الدِّينية وفتوحاته الربانية، شاع صِيته، فأمَر السلطان أبو يعقوب منصور الموحِّدي بإنزال الشيخ السبتي مِن مآواه التبُّعدي بجبل كليز، وحَـبَّس عليه مَدْرسةً وداراً للسكن، ثم تزوَّج وطال به الاستقرار بعاصِمة الدولة الموحدية.
العناية بالفقراء والقُرب من البُسطاء
بالموازاة مع عمله في التدريس، وانخراطه في التوعية بأهمية التضامن والعطاء والإنفاق، مَارس التبليغ في الناس، في أسواقهم، وطُرُقاتهم، قبْل أن تَظهر طريقة الدعوة والتبليغ بعشرات القرون، ومَدار حديثه الصَّدَقة، والإنفاق من المال، قَلَّ أو كَثُرَ، حتّى لُقِّبَ بــين العامّة بــ”تاجِر الله بين خَلْــقِه”.
كان دَيْدنُ أبي العباس السبتي؛ البحث عن الفقراء والمحتاجين ومَن يعيشون في ذائقة، فيأخذ بأيديهم، وله عجائب وغرائب في إغاثة الملهوف، وبركاتٍ أكْثَرَ مِن إيرادها بالعشرات ابن الزيات التادلي[2] رحمه الله في “التشوّف إلى رجال التصوف”[3]، وكان أيْضاً يَطوف على ذوي المال والجاه في المدينة، محفِّزاً إياهم على التصدّق والإعالة. ولم يقتصِر على تشجيع الأثرياء على العطاء، بل طالَب كل مَن يملك ولو قليلاً أنْ يتصدّق على مَن لا يملِك. وكان شعاره في ذلك “سَبَق درهمٌ مائةَ ألْفِ درْهمٍ”، وكان يقول لتلامذته “إنما أنا دَلّالُ خَير، وواسطة بين الخلق وخالِقِهم، أدُلُّهم على فَضله وإحسانه”.
أبو العباس السبتي.. مذهب جديد في الإحسان والـجود
بَعد أنْ اشتَهَر بين الناس ونَبَغ في وسائل إقناع فئات واسعة في المجتمع بأهمية الإنفاق والتضامن بين جَسَد الأمّة الواحد، وتناقَلَ أخبارَه المغاربة، صارَ يقصِده التّجار والحرفيون والعلماء والفقراء والأمراء، وأقْبلوا عليه بالتّعظيم والتكريم، ويأتي إليه المرضى طَلبا للدعاء بالشفاء، وكان لا يَفتأ يطلُب من كُلِّ ذي مَرَضٍ أنْ يَتَصَدّق، أو يَدفع “الفْـتوح”، لأنّه عَدَّ البُخْلَ مَرَضاً، وحُبَّ المال بإفراطٍ هو الشِّرك الخفي، وأنّ في الصَّدَقة أسرار، ليس أقَلُّها حلول بركة العافية والشفاء في المريض. وكان يقول لمن يشتكي له الجفاف “لو تَصَدَّقوا لـمُطِروا”، ويوقِنُ أنّ “البخل يُؤدِّي إلى الـجَـدْب”. لقد رَبَط الشيخ السَّبتي حقيقةَ التوحيد والإيمان بالجانب العملي؛ أيْ التَّضامن بين أفراد المجتمع، والإنفاق في سبيل الله، أي أنَّه كان يَعُدُّ “الإنفاق في مقدِّمة أعمال التديّن”، لذا، فــ”مقامُه أعَظَم بكثير من صوفية الـمعاني، لأنَّ مَـذهبَه عَمَلي”[4] وِفق تعبير الدكتور أحمد التوفيق.
وعن نفْسه؛ فَقَد عَقَد العَزْم على أنْ لا يكون له مَتاع أو مال أو أكْل أو لباس إلّا وشاطَرَه مع أصحابه والنّاس، وعمِل بالإيثار، وتَمَثَّل بأوامِر كثير من آيات القرآن التي تَحُضَّ على الإنفاق. ورأى أنَّ الإحسانَ أعلى قيمة يمكن أنْ يتّصِف بها الإنسان. فارتقى به الحال والمآل والتصدّق طيلة 60 عاماً، إلى أنْ صارَ في مقامٍ لا يقول معه: “يا رب” إلاّ قال لي: “لبَّيْكَ”، كما حكى عن نفسه.
إنَّ الشيخ السَّبتي صُوفِيٌّ ذاقَ جمالية الفِعل التعبُّدي في الإسلام، فكانت صَلاته غير صلاةِ غيره، وصومه غير صوم غيره، وفهْمُه مؤيَّدٌ بالتعبُّد مطبوع بالتزهُّد في كل شيء، مُبادِراً، متطوِّعاً، سَخِيّاً، جواداً، مُتمثِّلاً قول علي بن أبي طالبٍ “الجُود حارس الأعراض”[5]، دائم الحركة في الأسواق والطرقات، قَصَده ذوو الفاقة فآواهم، وآتاه البعض عُراةً فكساهم، وجَوْعى فأطْعَمَهم. ومِن أغْرَب ما حُكِيَ عن زُهدِه وإحسانه، أنّه في ذات ليلةٍ مطيرة بارِدة، اشتدَّ البَرد على الشيخ السَّبتي فأخذَ يَطْلُب من أبنائه مَدَّه باللحاف ليتدفَّأ، فما يزالَ يطوف بالبيت ذهاباً وجيئةً، إلى أنْ سمِع أحاديث جيرانه وقد انتصف الليل، فخرَج إليهم وسألهم عن سبب بقائهم أيْقاظاً، فَـأجابوهُ أنهم لم يناموا مِن الأصْل، لابْتِلالِ أغْطِيتهم وافْتِقارهم إلى الأغشية، فيعودُ الشيخ إلى أبنائه ويقول لهم: “تَصدَّقوا بأغطيتي لجيرانكم، فمن هُنا كان يأتيني البَرد”، وما أبْلَغ قولَ أبي الطيب المتنبئ في التعبير عن هذا الحال:
لولا الـمَـشَقَّة ساد الناسُ كُلُّهم *** الـجُودِ يُـفْـقِـرُ والإقدامُ قَـــتَّــالُ
تقدير الأقربينَ وثَــناء الأبْعَـدين
لقد كرَّس السّبْتي حياته لعمل جليل، فأحَبَّه الناس وقَدّروه. ذَكَـرَ الفقيه الصومعي أنّ السبتي “كانت له هِمّة عالية، وكان بقُدْرة العزيز الجبّار تَنْفَعِل له الأشياء على مُقتضى مُرادِه، فكان يتعجَّب منه العدو، ويَزيدُ في مَحَبَّـتِه الصَّديق”. وأكَثَر القولَ في مذهبه وَجُودِهِ وأسْرارِه خَلْقٌ كثير. فالشيخ الأكبر صوفيُّ الأندلس وعالِمها محيي الدين بن عربي، في كتابه المعروف “الفتوحات المكية”[6] وصَفَه بــ”صاحِب الصَّدَقة بمراكش”، وقد كان ممن التَقى بهم في جولته الشّهيرة إلى المغرب وتعقُّبه آثارَ الأولياء والصالحين، فاجتَمع بأبي العباس ولازمه أيامًا.
وقال عنه ابن الزيات في مرجِعه الشهير “التشوّف إلى رجال التصوّف” إنّ “شأْنَه من عجائب الزمان، كان رحمه الله قد أُعْطِيَ بَسْطة في اللِّسان وقُدرةً على الكلام، لا يُناظِرُه أحدٌ إلّا أفْـحَمَهُ، وكان سريع الجواب”، و”كان جميل الصورة أبيض اللون، حَسَن الثياب، مفوَّهاً، حليماً صَبوراً”. ووصَفه السيّد أحمد بن الخطيب بــ” الفقيه العالِم الـمحقِّق (..) آية في الـمناظَرَة”.
أمّا فيلسوف قرطبة ابن رُشد لَـمَّا أطْلَعه أحدُ مبعوثيه إلى المغرب على أمْرِ وحالِ ومَذهب أبي العباس السبتي؛ قال عنه إنّ “هذا رَجُلٌ مَذْهَبُه أنَّ الوجود ينْفَعِل بالجود”. ووصَفه أحمد المقرّي التلمساني في موسوعته “نفح الطِّيب من غُصن الأندلس الرطيب” بـ”الولي العارِف بالله، صاحب الحالات والكرامات الظاهرة، والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة”. وشبَّههُ العلّامة أحمد بابا التّنـبُكتي في “كِفاية المحتاج لمعرفة مَن ليس في الدِّيباج”[7] بــ”الولِي الزّاهد، الغَوث العارِف باللهِ تعالى”. وقال علّامة الأندلس لسان الدين ابن الخطيب” كان سيدي أبو العبّاس السبتي رضي الله عنه مقصوداً في حياته، مُستَغاثًا به في الأزمات، وحالُه مِن أعْظَم الآيات الخارِقة للعادات، ومَبْنى أمْرِه على انْفِعالِ العالَم عن الجود وكَونُه حِكمة في تأثير الوجود”. وحلّاه بأوصافٍ جليلة العلاّمة القاضي إبراهيم التعارجي المراكشي في منظومته “إظهار الكمال في تَتميم مناقِب سبعة رجال” في أبيات، منها:
وأحــمدُ المجد يعلو قَدْرُه أبَـــــداًإفْضاله عَمَّ لا يَخْشى من إقــــــــتارِ
أمّا كَرامــاته فالعَـــــدُّ ممتنِـــعٌجَلَّت عن الـحَصْر لا تُحْصى لإكْــــــــثارِ
نَعم، إنّ العطاء والجود في مذهب أبي العباس، مَسْلكٌ ذَوقي وتربوي وجمالي وتَعَبُّدي أيضاً، وعلى ضوء هذا؛ لم يكن رحمه الله ينظُر إلى المجتمع بنظرة تَفْيِـيئية تَجعله طَبَقتان: أغنياء، وفقراء، بل إلى شريحتين: مُنْفِقين وبُخلاء، فالبخيل قد يكون فقيراً أو قد يكون غنيا. لذا لم ينهَج السّبتي منهج أبي ذرٍّ الغِفاري ولا منهج الحركات الاجتماعية الثورية التي آمنت بالعدالة الاجتماعية وسَعت لأخذ الأموال من الأغنياء ورَدِّها على الفُقراء، بل كان يرى ذلكَ واجباً مفروغاً منه، فجَعل مَنهجه قائماً على الـجُود الـجماعي، بحيث كُلّ فَردٍ في المجتمع بإمكانه أنْ يَتَصدَّق، ويُنفِق مما آتاه الله، ماديا أو عَينيا. وجَعَل ثَورَتَه سِلمية هادئة، لم تُثِر ضِدَّه حَنق الأثرياء والأمراء، بل آلَفَتْ بين القلوب، وشجّعت على الإحسان العمومي، ودعّمت التضامن، ودَعت للـمُشاطَرة ولو بِشِقِّ تَمرة، فاتّفَقت على مَحبته العامة والنخبة. وظَلَّ بجميل صَبْره وحُسْن خُلُقه ولِينِ دَعْوته ودائِبِ سَعْيه لصالح البسطاء؛ يَترقَّى في سُلَّمَ الـمحْبوبية حتى أحَبّه أهل المغرب حَيا وميّتاً.
الارتقاء إلى مَرتبة الأولياء
أكْسَبته أعماله الجليلة وذَكاؤه في فهمِ وتفسير القرآن واستِيعاب طَبيعة المجتمع وحاجياته؛ سُمعةً طيبة، وتناقَل الناس أخبارَه، واجتمَع حولَه الأتباع، وتَشكَّلت في مجالسه مجموعات من التلامِذة الأوفياء، منهم ابنه عبد الله السّبتي، وعيسى بن شعيب، وأبو بكر بن مُساعد، ويوسف بن الحسين الأنصاري، ومحمد بن خالِص الأنصاري، وأبو يعقوب الحكيم، وأبو الحسن البلنسي، فضلاً عن خَديمه القديم سيدي مسعود. وقال الفقيه أحمد الصومعي إنّ أتباع الشيخ السبتي وتلامذته وأبناءه لم يَرِثوا عنه شيئا، “لِصعوبة طَريقه، إذْ هي مَـبنية على البَذل والإيثار الكلّي”، فمنهج الشيخ يَقرن الإيمان بالعمل، ويُلِزِم النفس نصيباً من التمرُّن على الكفاف وعَيش النُّدْرة، والإحساس بآلام الآخرين.
وكان هو في حياته نموذجاً وقُدوة، لا يدّخِر ولا يكتنِز، ولا يتوانى عن خِدمة الناس ومُشاطَرَتهم ما يَملِك، ناهِجاً في الصَّدَقَة مَسْلَكاً لم يُسبَق إليه، حتى وثِق فيه مَن يملكون إرْثاً، أو متاعاً، ومَن يرغبون في إيداع أموالِهم لصرفها في طُرُقها النافعة، حيثُ كان بعض السّادة الفقهاء إذا توفِيَّ أحدُهم أوصى بَنيه بتسليم جزء من ثروته المالية للشيخ أبي العباس السبتي، كما في القصة التي رواها العلّامة أبو القاسم بن رضوان.
لقد عاش القُطْب أحمد السبتي حياةً زاهدة، مبنية على العِلم والعمل، والإنفاق والتصدُّق، والاقتناع التام بكَون “أصْل الخير في الدنيا والآخِرة؛ الإحسان”، وكان لسانُ حاله دائما قَولُه “من يُعطِي دِرْهمين يُزال عنه وَجع الرأس”، ودعاءه الذي لا يتوقّف عن ترديده “يا مُصْلِح الأسرار صَفِّ أسْرارَنا”، ومُلاحَظته التي يُردّدها بمرارة قولُه لقد “رَكَن العلماء إلى الدُّنيا وبَخلوا بها”. فعاشَ كما قال فيه صديقه يوسف بن الحسين الأنصاري:
يَدُلُّ بنا طريقَ الحقّ قصْداً فليسَ يعوجُ عنه ولا يَميلُ
فتنتعِشُ مِن عوارِفهُ جُسومٌ وتَنْعَمُ مِن مَعارِفهِ عُقـولُ
وإذا كان غالبية متصوِّفة المغرب والمشرق؛ قد تركَّزت جهودهم على التربية والتزكية والمشاركة في تحرير الثُّغور والدفاع عن الأوطان؛ فإنّ صُوفية الشيخ السّـبتي قد رَكّزت على قيمتَي العطاء والتضامن كَشَرطَيْن عَمليين عميقين للتوحيد وللتربية أيْضاً.
خاتمة
لم ينقطِع ذِكر السّبتي في الناس مُذ وافته المنية يوم الإثنين 3 جمادى الثانية 601 هجرية، الموافق لــ 26 يناير 1205 بمدينة مراكش، بحيث مَدَحه الشعراء، وتوسَّل ببركته البُسطاء، وكَتَب عن سيرته وكراماته المؤرِّخون والفقهاء، وشُيِّدَ له ضريحٌ حضِيَ بعناية المجتمع والحكام والأمراء، واستُحْدِثَت صَدقاتٌ باسمه، بقِيَت تشْمَل الفقراء وذوي الحاجات والتيامى والأرامل قَرْناً على صَدْرِ قَرْنٍ، حتى قال مَن شاهَد ضريحه في باب أغمات “روضَة هذا الولِيّ ديوان اللهِ تعالى في المغرب، لا يُحْصى دَخْلُه، ولا تُحْصَرُ جِبايته”، وحَضَّ المؤرّخ والكاتب محمد الصَّغير الإفراني الناسَ على تخليد مناقِب ومنهج أبي العباس السبتي في أبياتٍ منها قولُه:
زُر أبا العبّاس تَظْفَردون شـــــكٍّ بالأمانِ
إنّمـا السَّبتِيُّ ذُخْـرٌومَــلاذٌ للمـــــعانِي
إنّـما السَّبتِيُّ بَحْــرٌلــيسَ يَفنى بالأوانِي
ورغْم بُعد الزّمن الذي يَفصْلنا عن الشيخ السبتي؛ إلّا أنَّ ذِكْرَاه ومذْهَبَه في الجود وحِكَمَه وأدوارَه الإحسانية ما تَزال مَحطّ تقديرٍ وحُضور واستِحْضار، يُكَرَّم مَزارُ الشيخ، وتُقام حَفَلات “العبّاسية”[8] إكراماً لمذهبه وطَريقته، ويُطْلَق اسمه على المدارس والشّوارع والممرات والمكتبات، وتُكتَب عن سيرته وكراماته الكُتب والمقالات والرِّوايات[9]، ويُذْكَر مقروناً بالسَّبعة الكِبار في مراكش، ويُحتَفى به في البرامج التّلفزية، وتُعقَد النّدوات لمدارسَة منهجه في الجود والإحسان ونُبوغِه في خِدمة العامّة، ويُـحيى السلاطين ليالي القدر بضريح أبي العباس، وتذكُره الذاكرة الجمعية للمغاربة كرَمْز مُشْرِقٍ مُؤثِّر في ماضي المغرب وحاضِره ومُستقبَله.
أنا السَّبْتِيُّ الذي قد طابَ أصْلي
وقَرَّبَني الـمُــــهيمِنُ واجتــبانِي
المراجع
[1] (الفاسي) علي بن أبي زرع: "الأنيس المُطْرب برَوض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، دار المنصور للطِّباعة والوراقة، الرباط، الطبعة الأولى 1972، ص: 208.[2]انظر: (القبلي) محمد: "الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط؛ علائق وتفاعُل"، دار توبقال للنشر، طبعة 1987،ص: 22.
[3] (التادلي) يوسف بن يحيى بن الزيات: "التشوّف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي"، تحقيق الدكتور أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الثانية 1997.
[4] مقتَطف من حوار أجْراه موقع الجزيرة.نت مع الدكتور الأديب أحمد التوفيق بتاريخ 3 مارس 2021.
[5] (ابن أبي طالب) علي: "نهج البلاغة"، جمع وترتيب الشريف الرضي، شرح العلامة محمد عبده، مراجعة أحمد زهوة، دار الكتاب العربي، ص: 462.
[6] (الحاتمي) محيي الدين بن محمد: "الفتوحات المكية"، ضبْط وتصحيح وتعليق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 386
[7] (التنبُكتي) أحمد بابا: "كفاية الـمُحتاج لمعرفة من ليس في الدِّيباج"، جزآن، دراسة وتحقيق الأستاذ محمد مطيع، تقديم الدكتور الوزير عبد الكبير العلوي المدغري، الطبعة الأولى 2002، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
[8] انظر: (بن صالح) عدنان: مُساهمة ضمن تقرير صحفي بعنوان "العباسية مذهب تضامني عمره ثمانية قرون"، من إنجاز الإعلامية سناء قويطي، لفائدة موقع TRTعربي، منشور بتاريخ 18 فبراير 2021.
[9] أنظر مثلا: رواية "جيران أبي العباس" للأديب والوزير أحمد التوفيق، الصادرة سنة 2021.