المحتويات
مقدمة
الشيخ أبي زكرياء يحيى بن عبد الله المنّاني الحاحي، فقيه محدث ومسند أثري وشيخ صوفي، ظهر في ظرفية تاريخية تميزت بالإضطراب الشديد الذي تسرب إلى الدولة السعدية بعد وفاة السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي سنة 1603م/1012ه وما تلاه من صراع طاحن وحروب دامية بين أبناءه: محمد الشيخ المامون، وأبو فارس، وزيدان. ففي هذه الظرفية الصعبة والمضطربة ظهر على مصرح الأحداث السياسية والفكرية والدينية في منطقة سوس، باعتبارها كانت دائما “مركزا لصنع السلطات في المغرب[1]، -ظهرت- عدد من الحركات والزعامات المحلية كان من نتائجها تأسيس عدد من الإمارات، وخاصة حركة أبو حسون السملالي، وكذا الشيخ أبي زكرياء يحيى بن عبد الله الحاحي. وقد ظهرت حركة هذا الأخير في أيام زيدان ابن أحمد المنصور الذي كانت منطقة سوس تحت نفوذ حكمه في مراكش، قبل أن تشهد المنطقة بدورها ثورات عدة زعزعت أركان دولة زيدان وقلصت من نفوذه في سوس بشكل كبير، وكانت ثورة يحيى الحاحي إحدى هذه الثورات.
نسبه ونشأته
هو يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم المنّاني الحاحي، وهو سليل الأسرة المنّانية الحاحية المشهورة بمنطقة حاحة، في قبيلة إداو بوزيا، وفي قرية أيت داود نواحي مدينة الصويرة حيث أسس جدهم داود بن خالد زاوية الأسرة. وسموا بالحاحيين نسبة إلى منطقة حاحة وبلقب المنانيين -بتشديد النون الأولى- لاعتقاد الأسرة أن جدها داود، وفد على حاحة من منى بالحجاز فعرف جدهم داود بن خالد بالمناني الحاحي وكذلك عرفت الأسرة بنفس اللقب المزدوج. وتنتسب الأسرة المنانية الحاحية إلى فرع الشرفاء الأدارسة، وتربط نفسها بأحمد بن إدريس (الأصغر) بن إدريس الأكبر.[2]
أما زاوية تافيلالت بإدا أو زداغ (زداغة) فتأسست من طرف عبد الله ابن سعيد بن عبد المنعم الحاحي بعد انتقاله أو نفيه في عهد السلطان السعدي عبد الله الغالب من زاوية أجداده بمنطقة أيت داود بتمنار نواحي مدينة الصويرة، في النصف الثاني من القرن 16م/10ه، بمدشر تافيلالت في منطقة قبيلة إدا أو زداغ شمال شرق مدينة تارودانت بالسفح الجنوبي للأطلس الكبير (درن)، وذلك في منطقة وعرة ونائية. وزاوية عبد الله بن سعيد الحاحي (الزاوية الحاحية) زاوي شاذلية جزولية.[3]
بعد استقرار أبيه عبد الله بن سعيد الحاحي بإدا أو زداغ، وزواجه من السيدة عائشة بنت ابراهيم الشريفة (من إدا أوزيمر)، ولد يحي، وهو كبير إخوته: الحسن وصفية وزينب. ويرجح أن تكون ولادته في الفترة ما بين 965ه و970ه/1558م و1563م.[4]
كانت التنشئة الأولى ليحي بزاوية إدا أو زداغ (زداغة) التي كانت مركزا علميا متميزا، حيث تلقى تعليمه الأول بمدرستها على يد والده عبد الله بن سعيد، ثم شرع في تلقي مبادئ مختلف العلوم التي تلقن بالزاوية ومدرستها من حفظ للقرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية والفقه والتوحيد، وكذا التربية الصوفية.[5]
رحلاته في طلب العلم
لم يكد يتجاوز الشاب يحي منتصف العقد الثاني من عمره (15سنة) حتى بعثه والده في رحلة لطلب العلم، فقادته رحلته الأولى إلى مدينة فاس مستقر القرويين في الفترة مابين 980ه و986ه. وقد سمحت له الدراسة في فاس بالإنفتاح على آفاق علمية أرحب مما تلقى في زاوية أبيه في زداغة. فتتلمذ على يد ثلة من علماء العصر: كالإمام النحوي أحمد بن قاسم القدومي، وإمام فاس أحمد بن علي الزموري، وقاضي الجماعة أحمد المنجور المكناسي، والفقيه الحسن بن عبد الله الدرعي وغيرهم كثير. وقد تلقى على يد هؤلاء أصناف علمية متعددة كعلوم الفقه والحديث والتفسير والقراءات، والعروض والنحو وعلم الكلام والمنطق. وقد مكنه ذلك من تحصيل تكوين علمي متين وعميق انعكس على المستوى والمكانة العلمية الذي وصل إليها يحي الحاحي و”التي فاق بها معاصريه، وسرعان ما سنراه يصبح عالما مشاركا، وأديبا بليغا ناظما وناثرا، ومدرسا شهيرا، ومربيا صوفيا”.[6]
بعد سنين عديدة في فاس، انتقل يحي الحاحي إلى مدينة مراكش، والتي كانت خلال هذه الفترة المركز الثقافي الأول في كل الغرب الإسلامي. وفيها تلقى عن عدد من علماءها وشيوخها كأبو عبد الله محمد بن عبد الله الرجراجي الذي تولى الإفتاء وقضاء الجامعة بمراكش، ثم أحمد بن محمد السالمي…[7]
وبعد محطة فاس ومراكش اتجه يحيى الحاحي إلى منطقة درعة ليتتلمذ على يد شيخها الكبير أحمد بن محمد أدفال السوساني الدرعي، وقد أخذ عنه في مجالات عدة؛ من فقه وتفسير ونحو وفرائض وحساب، كما أجازه في علوم الحديث إجازة عامة. وقبل ذلك كله فقد استكمل تربيته الصوفية، وعزز عبر رحلته تلك إلى الشيخ أحمد أدفال السند الشاذلي بأخذ الوظيفة الزروقية.[8]
ومن الشخصيات العلمية الهامة التي أجازت يحيى الحاحي نجد العالم السوداني (من السودان الغربي) الكبير الشيخ أبو العباس بابا التنبكتي، هذا الأخير كان تواجده في المغرب نتيجة تعرضه للأسر هو وأهله في السودان الغربي من طرف قائد السلطان أحمد المنصور السعدي: محمود بن زرقون سنة 1002ه، وبعد إطلاق سراحه سنة 1004ه تولى مهمة التدريس بجامع الشرفاء بمراكش. وقد أرخت هذه الإجازة بتاريخ 13 ذي القعدة سنة 1008ه[9].
العودة إلى زاوية تافيلالت
لقد حصل يحيى الحاحي خلال رحلته العلمية على تكوين رصين في حقول معرفية وعلمية متعددة شملت اللغة العربية وقواعدها وآدابها؛ خصوصا في ميدان الشعر، وفي الفقه والحديث والعقائد وسائر العلوم الشرعية، إضافة إلى سلوك طريق القوم والتحلي بأخلاق الصوفية على نهج والده وجده. وقد لفت هذا التكوين عددا ممن أوردوا ترجمة الشيخ يحيى الحاحي، كما هو الشأن مع الحضيكَي الذي وصفة ب”الفقيه المحدث الصوفي النحوي، اللغوي العروضي، الأديب البليغ، الناظم الناثر، رئيس النبلاء، عالم العلماء، جهبذة الجهابذة، علم الأعلام، ذو المفاضل والمفاخر المتفق على تقديمه وتفضيله في فنون شتىن فريد عصره علما وزهدا، وورعان وعملا، وحالا”.[10]
وعاد إلى مسقط رأسه بإداو أو زداع ليشتغل إلى جانب والده بالتدريس والتربية في الزاوية بتافيلالت. ولما توفي والده عبد الله بن سعيد سنة 1012ه/1603م جراه الطاعون الجارف الذي ضرب المغرب خلفه يحي على رأس الزاوية والتدريس بها ونشر العلم في كل ربوع سوس، وقد قام بهذه المهمة على أحسن وجه، فتكاثر عدد طلبته ومريديه، فكانت أوقاته معمورة بالمجالس العلمية وحلقات الأذكار خلال النهار وطرفا من الليل، يختم صحيح البخاري كل رمضان في مجالس مشهودة، وكان من جملة من أخده عنه فيها عبد الرحمان التمنارتي ووصف ذلك في كتابه الفوائد الجمة.[11] كما أعطاه ذلك نفوذا كبيرا وشهرة واسعة في سوس والأطلس الكبير الأمر الذي جعله وزاويته تكون مقصدا للكثير من الزوار والأتباع من مختلف القبائل، سواء من داخل سوس أو من مناطق أخرى بعيدة في المغرب. وقد خوله هذا النفوذ الروحي والديني بين قبائل المنطقة أن يلعب دور التحكيم في مختلف النزاعات والصراعات التي تنشب بينها، ودور الوساطة بين هذه القبائل والمخزن السعدي ممثلا في شخص زيدان بن أحمد المنصور.
وخلال فترة تفرغه للتدريس، والتي تربو عن ربع قرن، تمكن من تكوين جيل من العلماء الذين جمعوا بين متانة التكوين الشرعي ورفعة المقام الأدبي والتحكم في نواصي القوافي، من أمثال: داود بن عبد المنعم الدغوغي (التانوتي)، ومحمد بن الحسن بن قاسم اللكوسي (المانوزي)، وأحمد بن الحسن بن عبد الله الحاحي، وأبو زيد عبد الرحمان التمنارتي قاضي الجماعة بتارودانت.[12]
اعلان الثورة وتأسيس إمارة تارودانت
ولما ثار أحمد بن أبي محلي (بفتح الميم والحاء وكسر اللام المشددة) على السعديين سنة 1019ه/1610 وهزم جيوش السلطان زيدان بن أحمد المنصور وأخرجه من عاصمته مراكش واستقر في القصر البديع سنة 1020ه/1611م، استنجد هذا الأخير بيحيى الحاحي، وذلك بالنظر إلى العلاقات الحسنة التي كانت تربطهما. وقد أنجده يحيى الحاحي رغم تردده في بداية الأمر، فاستضافه في زاويته بزداغة، وهاجم الثائر ابن أبي محلي وقضى عليه في معركة كَيليز سنة 1022ه/1613م، وقتل ابن أبي محلي فقطع رأسه وعلق على سور مراكش مع رؤوس جماعة من أصحابه طيلة 12 سنة[13]، فعاد زيدان بن أحمد المنصور إلى عاصمته مراكش، بعد خروج أبي زكرياء يحيى منها بضغط من اتباعه.
وبعد عودته إلى زاويته واستيلاء فكرة الرياسة والسلطان على نفسه فترت همته في التدريس وتلقين الأوراد، وفي التأليف أيضا، وأخذ يراسل السلطان زيدان ويمن عليه بمناصرته. وفي الأخير، أعلن ثورته في سوس سنة 1023ه/1614م ضد زيدان السعدي بدعوى حماية الدين وجمع كلمة المسلمين، خاصة بعد أن تنصل السلطان زيدان بن أحمد المنصور من الشروط التي من أجلها ناصره يحيى الحاحي؛ وهي مراجعة نظام الجبايات، وإشاعة العدل، والتخلي عن الرذائل، وإبعاد اليهود عن شغل المناصب الهامة في البلاط.[14] وهكذا قام بالإستيلاء على مدينة تارودانت بعد طرد أحد أفراد آل الشيخ أحمد بن موسى وهو علي بن محمد بودميعة (أبو حسون السملالي) منها مؤسس الإمارة السلملالية، فاتخذها عاصمة لإمارته (إمارة تارودانت أو الإمارة الحاحية)، والتي لم يستطع توسيع دائرة نفوذها إلى أن مات.[15]
الإرث العلمي ليحي الحاحي
خلف يحيى الحاحي عددا من المؤلفات ذات الطابع التعليمي، وأغلبها شروحات، كما أن أغلب إنتاجاته كان شعرا، وخاصة في هجو خصمه أحمد بن أبي محلي والرد عليه. يشار إلى أن الرجلين كانا صديقين وزميلين أيام طلب العلم في مدينة فاس، وكانا يسكنان في نفس البيت، لكنهما اختلفا ونشبت العداوة بينها بسبب الرغبة في الحكم والسلطان. وقد جمع الحسن بن عبد الله الحاحي هذه الأشعار في مجلد ضخم سماه “التجلي فيما وقع بين سيدي يحي وأبي محلي” وذلك على غرار نقائض جرير والفرزدق.[16]، وفيما يلي المؤلفات التي نجت من الضياع:
- تحصيل المنافع من كتاب الدرر اللوامع في القراءات.
- العقيدة.
- شرح قصيدة لامية له باسم “الرشفة الهنيّة من رسالة التهنيّة”.
- “أجوبة فقهية” في موضوعات شتى في مجلد.
- “مؤلَّف في الجداول”.
- أورجوزة في “الشهداء” على بحر الرجز.
- منظومة في “شعب الإيمان”.
- منظومة في “التوسل”.
ويبدو أن للشيخ مؤلفات أخرى ضاعت من بين ما ضاع من إرث زاوية تافيلالت إدا أو زداغ (زداغة)، خصوصا مكتبتها الضخمة، بحيث لم يبق منها إلا ما ظل متفرقا في المكتبات الخاصة في سوس وخارجه.[17]
توفي يحي الحاحي مسموما بمدينة تارودانت ليلية الخميس 6 جمادى الثانية 1035ه/5مارس 1626م، ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه بإدا أو زداغ (زداغة) حيث ووري الثرى إلى جانب قبر والده عبد الله بن سعيد.
المراجع
[1] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت؛ الجزء الاول: من الدعوة إلى الامارة، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ط1، الرباط، 2010، ص 6.[2] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت؛ ج1، مرجع سابق ص 33.
[3] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق ص 49 وما بعدها.
[4] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق، ص 65.
[5] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق، مرجع سابق ص 65.
[6] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق، مرجع سابق ص 66-67.
[7] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق، مرجع سابق ص 67-68.
[8] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق، مرجع سابق ص 68-69.
[9] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق، مرجع سابق ص 70.
[10] الحضيكي محمد بن أحمد، الطبقات، ج2، تقديم وتحقيق أحمد بومزكو، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006، ص 598.
[11] حجي محمد، معلمة المغرب، ج10، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1998، ص 3269.
[12] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق ص 73-74.
[13] حجي محمد، الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، ط2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1988، مرجع سابق، ص 144.
[14] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1، مرجع سابق ص 112.
[15] حجي محمد ،معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 3269.
[16] حجي محمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 3270.
[17] صادق نور الدين، حركة الشيخ يحيى الحاجي وقيام إمارة تارودانت، ج1،مرجع سابق ص 77.