توطئة

حاز الأستاذ والمؤرخ محمد داود صفة مؤرّخ الحاضرة التطوانية، واستحوذ على شرف الاتصاف بها عن جدارة، لما بذله من مجهود مشهود في إعادة ترتيب وتصنيف أخبار هذه المدينة المغربية، فامتازت أعماله بمنهج علمي وعصري، ولم يتسنّ له ذلك إلا بعد رحلة تكوين متعدد المشارب؛ متنوع الروافد، فتحدّى ظروف الاستعمار وعاكس طريق التقليد والاجترار، فكان طالبا مجتهدا ومثقفا عضويا؛ حاملا لهموم شعبه ووطنه.

نشأة بين منارتين علميتين .. تطوان وفاس

حلّ ربيع سنة 1901م، بمدينة تطوان حاملا معه بُشرى ازدياد من سيكون جامع أخبارها ومترجم رجالها، محمد داود؛ الفتى الذي حفظ القرآن الكريم وتلقى تعليمه الأولي في مسقط رأسه، قبل أن يرحل -سنة 1920م- إلى فاس ليعمّق معارفه. بعد سنتين قفل راجعا إلى مدينته التي كان يطلق عليها العاصمة الخليفية ليزاوج فيها بتواضع بين طلب العلم وتدريسه، فواصل مسيرة الطلب عند شيوخ بارزين في مساجد تطوان العتيقة «أحمد الزواق: الجامع الكبير، أحمد الرهوني: مسجد العيون» كما حرص على تعلّم الإسبانية، وفي نفس المرحلة – بين 1926 و1929- دَرَّسَ النحو والمحفوظات في دوائر مغلقة لشخصيات أصبحت بارزة فيما بعد مثل عبد الخالق الطريس والطيب بنونة، وألقى دروسا للطلبة في المساجد «الجامع الكبير» والزوايا «التجانية، الريسونية، سيدي علي بركة»[1].

بالموازاة لمساره التكويني في المعرفة، حرص الشاب محمد أن يبني وعيا سياسيا وفكريا عميقا؛ يُسعفه على الانخراط في لحظته التاريخية، فانفتح على محيطه الثقافي الكبير، خصوصا فكر الحركة السلفية التي قادها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو، كما تتبع الأحوال السياسية في تركيا حيث كانت الخلافة العثمانية تعيش آخر لحظاتها، وما واكبها من خيانة الحلفاء للثورة العربية، واهتم أيضا بالحركة الفكرية السياسية في تونس وحركة جمعية العلماء في الجزائر، أما بالمغرب فتتبع الثورة الريفية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي[2].

مسؤوليات محمد داود في قطاع التعليم

إن التعليم في نظر الأستاذ محمد داود لهو «أحسن سلاح ضد الوجود الأجنبي في المغرب»[3]. وتَرجم هذا المنظور تجربة ومجهودات هذا الطالب الذي جدّ واجتهد وترقى في مراتب الأستاذية حتى بلغ مقام المسؤولية، ففكّر مع ثلّة من نخبة الوطنيين في تربية جيل على قيم العقيدة الإسلامية والتمسك باللغة العربية والتطلّع إلى بناء أمة مستقلّة، لتكون النتيجة إنشاء أول مدرسة عصرية حرّة بتطوان سنة 1924، أُطلق عليها المدرسة الأهلية «تسمى حاليا مدرسة الفضيلة الحرة». وهبت هذه المؤسسة المغرب جيلا من الشباب سيكون له دوره في تاريخ الحركة الوطنية.

أتاحت تجربة الأستاذ تكوين خبرة في ميدان التعليم على مستوى التدبير فاختير سنة 1930م، ليكون عضوا في لجنة إصلاح التعليم الإسلامي بشمال المغرب، ثم بعد أربع سنوات أصبح من أعضاء المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي، كما ولج عالم الوظيفة لأول مرة في حياته بعدما عيّنه الخليفة السلطاني مفتشا عاما في التعليم الإسلامي عام 1937م[4].

وبفعل إسهاماته الكبيرة في تطوير قطاع التعليم العربي-الإسلامي، اختارته الإدارة الاستعمارية الإسبانية ليكون مديرا للمعارف «نيابة التعليم» في منطقة الحماية الإسبانية بين سنتي 1942م و 1948م، ثم أفاد بتجربته التي راكم فيها تصورات عن مسألة التعليم خلال عضويّته في اللجنة الملكية لإصلاح التعليم (1956م)، وكذلك في المجلس الأعلى للتربية الوطنية (1959م)[5].

وطنيّ أديب في رحاب الصحافة

ساهم سليل الأسرة الداودية الأندلسية إلى جانب الحاج عبد السلام بنونة في تأسيس مطبعة؛ لعبت دورا حاسما في الحياة الثقافية في الشمال، لتصدر أعداد هائلة من المؤلفات والمطبوعات حاملة اسمها: مطبعة “المهدية”[6]، فضلا عن ذلك مثّلت هذه المؤسسة وسيلة للاتصال بين رجال الفكر بالمنطقة وعموم الشعب عن طريق اللغة العربية، كما حازت فضل السبق في طبع أهم الكتب العربية والمجلات والصحف الوطنية بالمنطقة[7].

لقد كانت مطبعة المهديّة مفتاحا لمحمد داود حتى يلج أبواب الصحافة كصحفي مؤسس بعد أن جرّب مهمّة مراسل صحفي ليومية الأهرام المصرية خلال حرب الريف[8]، فأشرف على تأسيس وتدبير “جريدة السلام” الشهرية سنة 1933م، وهي أول جريدة وطنية في منطقة الشمال (10 أعداد)، كما أسس أسبوعية الأخبار الشهرية (5 أعداد) سنة 1936م.

بواسطة هذه الإصدارات عبّر الأستاذ داود عن فكره الوطني، وخدمته للوطنية من بوابة التعبير عن الرأي والمقاومة الثقافية، ما سبّب له متاعب جمّة خصوصا مع الإدارة الفرنسية التي كانت تعتبره شخصية غير مرغوب فيها[9].

امتدت علاقة الأستاذ بالمنشورات والكتب حتى بعد الاستقلال، حينما عيّن مديرا للمكتبة الملكية في الرباط بين سنتي 1969م و1974[10]، وهو اعتراف لما قدّمه هذا الرجل من إسهامات علمية وثقافية نوعية.

الوطني الزاهد في ألقاب السياسة

شجّع العلم صاحبه على الالتحام مع قضايا المجتمع ولم يفصله عنها، فقد كان بإمكان محمد داود «أن يعيش في طمأنينة كشأن مجموعة من المثقفين الذين عيّنوا في وظائف لدى المخزن، لكنه أدرك ضرورة الالتزام السياسي من أجل معالجة الوضع أنداك»[11]. فتصدّر للمشاركة السياسية بدافع وطني أصيل، لا تقيّده قيود الحزبيّة الضيّقة، حيث شارك مع علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني في إعداد القانون الأساسي للحزب الوطني، كما شارك في لجنة إعداد المطالب التي قدمت للجمهورية الإسبانية سنة 1931م، وانتخب عضوا في أول مجلس بلدي لتطوان في عهد الجمهورية الإسبانية[12].

لقد فعل كل هذا وهو يتحاشى التقيّد بعضوية حزب محدد، ويقول عن ذلك في مقال نشر على جريدة “الريف” سنة 1940م: «إنني رغما عن احترامي للأحزاب ما رضيت في يوم من الأيام بأن أتقيّد برأي أي حزب منها… ولست سوى فرد من أفراد الشعب»[13].

وكما اختصت وطنيّته برحابة المشاركة مع مختلف أطياف حركة المقاومة السياسية، فقد ترفّعت عن الانجرار وراء ريع الاستعمار وإغراءات السلطة، فالتاريخ لا ينس رفضه لمنحة نقدية -20 ألف بسيطة إسبانية- عرضها عليه المندوب السامي بيكبيدر، واعتراضه عن إدارة جريدة “الريف”، وكذلك استقالته من منصب مدير المعارف بعد أحداث تطوان فبراير 1948م، وربّ شهادة عدوٍ أبلغ من كل الشهادات في هذا الأمر، إذ قال عنه طوماس غرسيا فيغيراس -نائب الشؤون الوطنية و المسؤول الأمني الأول عن الشؤون السياسية- في إحدى مراسلاته الرسمية: “إنني متيقن بأن داود لن يتعاون معا أبدا”[14].

المؤرّخ الولوع بالتاريخ المونوغرافي

اعتنى محمد داود المؤرّخ بجمع الأخبار منذ ريعان شبابه، وصرف في هذا الأمر بضعا من وقته، ثم نما ولعه بالتاريخ حتى استحوذ على اهتمامه وعمله، فغدى ميدانه وحرفته، فلا يكتمل عمل يجمع أخبار مؤرخي المغرب في القرن العشرين إلاّ بسيرته.

يتجلى مشروع هذا المؤرّخ البارز في كتابة التاريخ الوطني انطلاقا من تاريخ مدينته تطوان[15]، بحيث تكون الأولوية للتاريخ المحلي، باعتباره المقدمة المنطقية والضرورية لكتابة تاريخ الوطن العربي في امتداده القومي[16]، لذلك يلمس من يطالع حصيلة كتاباته التاريخية توجها نحو التاريخ المونوغرافي.

من أجل ذلك لم يكلّ أو يملّ مؤرخ تطوان في الارتحال شرقا وغربا بحثا عن الوثائق[17]، التي اعتنى بها بجمعها وترتيبها سواء الرسمية أو غير الرسمية، إلاّ أنه لم يهتم كثيرا بتحليلها، بل اكتفى بالتعليق عليها بشكل موجز[18].

أما من حيث المنهج فلن نبالغ في تنسيب طريقته في كتابة التاريخ إلى رموز مدرسة الحوليات الذين انتقلوا بالتاريخ من ضيق السياسة إلى رحابة المجتمع والاقتصاد، مع ذلك، لا يمكن تجاهل تقاطع هذا المنهج التاريخي مع المنهج الذي تبنّاه في كتاباته، فهو يرى أن تاريخ الشعوب ينبغي ألا يقتصر على «الاطلاع على عظائم الأشياء»، وإنما يتوجب على النظر أن يمتد إلى «الجليل والحقير» و«يبحث في مختلف الشؤون والأحوال»[19].

كما أن التاريخ في نظر داود ليس أخبارا جامدة، أو حكايات يُتسامر بها، بل وسيلة إصلاحية وأداة ثقافية للردع، حتى «يعرف المجدون المخلصون أن جهودهم لم تضع، وأن أعمالهم الصالحة، ومشاريعهم النافعة، ستدرّ لهم الإعجاب بهم، والرحمات عليهم، ويعلم الجبابرة والظالمون، والمقصّرون والمهملون أن أعمالهم الضارة، وآثارهم السيئة، ستخلّد في صفحات سوداء تجعل أسماءهم مقرونة بالاشمئزاز والاحتقار»[20].

وفق هذا التصور قسّم التاريخ إلى قسمين: تاريخ موجّه يهدف إلى بناء الروح القومية للأمة، ويكون انتقائيا لا يثبت إلا المفاخر والأمجاد، وتاريخ حقيقي كالمرآة، يُكتب بقلم صادق وحر، ويثبت الحوادث كما وقعت من أجل الاعتبار[21].

فاض نهر هذا المؤرخ بأعمال مهمّة يتحقق منها ما طمح إليه على مستوى التصور، إذ أصدر جملة من الكتب في حياته كما خلّف وراءه مثلها مخطوطة، أهمها: مختصر تاريخ تطوان (1955)، تاريخ تطوان الذي صدر منه ثمانية أجزاء في حياة المؤلّف أولها سنة 1959م، ثم أكملت ابنته الأستاذة حسناء داود إصدار باقي الأجزاء الأربعة، ولم يتوقف برّ هذه الكريمة بوالدها عند هذه الكتب بل راجعت وصنّفت كتبه لتخرّجها في أحسن صورة، وهي عديدة: كالأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية (1999)، الرسائل المتبادلة بين علال الفاسي ومحمد داود (2000)، على رأس الأربعين (2001)، وعلى رأس الثمانين (2011)، الرحلة المشرقية (2014)..[22].

خاتمة

غادر الأستاذ والمؤرخ محمد داود إلى دار البقاء يوم 4 يونيو 1984م، بعد نضال في جبهات متعددة، وقد ساهم في التحرير والتنوير، ونفع بالعلم في حياته كمدرّس ومؤلّف، كما نفع بعد مماته بما أورثه من وثائق ومصنّفات وجرائد مسخّرة للباحثين؛ تؤثّث رفوف مكتبة “مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة” التي تأسست سنة 2011.

المراجع
[1] حسناء دود، على رأس الثمانين، جمعية تطاون أسمير، الطبعة الأولى، 2011، ص، 8.
[2] محمد عزيمان، "الأستاذ محمد داود في ميدان التربية والتعليم"، ضمن كتاب: محمد داود..الحركة الوطنية في الشمال والمسألة الثقافية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى، الرباط، 1990، ص، 38.
[3] عبد المجيد بنجلون، "الأستاذ داود وعمله في الحقل السياسي والميدانين التعليمي والثقافي"، المرجع السابق، ص، 44.
[4] حسناء دود، على رأس الثمانين، مرجع سابق، ص، 199.
[5] حسناء محمد داود، "الأستاذ محمد داود في ميدان التعليم"، ضمن كتاب: محمد داود.. مرجع سابق، ص، 52 و53.
[6] عبد المجيد بنجلون، "الأستاذ داود وعمله في الحقل السياسي والميدانين التعليمي والثقافي"، ص، 45.
[7] المجلات التي صدرت عن مطبعة المهدية: مجلة السلام، جريدة الحياة، جريدة الأخبار، جريدة الريف، مجلة المغرب الجديد، مجلة الأنوار، جريدة الأمة.../ أنظر: حسن الصفر، "الفقيه محمد داود: الحركة الوطنية في الشمال والمسألة الثقافية"، ضمن كتاب: محمد داود..مرجع سابق، ص، 13.
[8] عمر رياض، "مراسلات الأمير شكيب أرسلان مع مؤرخ تطوان محمد داود"، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2015، ص، 31.
[9] عمر رياض، "مراسلات الأمير شكيب أرسلان مع مؤرخ تطوان محمد داود"، مرجع سابق، ص، 32.
[10] عمر رياض، مراسلات الأمير شكيب أرسلان مع مؤرخ تطوان محمد داود، ص، 34.
[11] عبد المجيد بنجلون، "الأستاذ داود وعمله في الحقل السياسي والميدانين التعليمي والثقافي"، 44.
[12] محمد عزيمان، "الأستاذ محمد داود في ميدان التربية والتعليم"،ضمن كتاب: محمد داود.. مرجع سابق، ص، 39.
[13] عبد المجيد بنجلون، "الأستاذ داود وعمله في الحقل السياسي والميدانين التعليمي والثقافي"، ص، 47.
[14] عبد المجيد بنجلون، "الأستاذ داود وعمله في الحقل السياسي والميدانين التعليمي والثقافي"، ص، 48.
[15] محمد بكور، "أمية الوثيقة في كتابة التاريخ المحلي عند محمد داود"، ضمن: الكتابة التاريخية: مقاربات ونماذج، رؤية للنشر والتوزيع، 2018، ص، 167.
[16] محمد بكور، "أمية الوثيقة في كتابة التاريخ المحلي عند محمد داود"، مرجع سابق، ص، 186.
[17] محمد داود، تاريخ تطوان، المجلد الأول، معهد مولاي الحسن، 1379-1959، تطوان، ص، 30.
[18] محمد بكور، "أمية الوثيقة في كتابة التاريخ المحلي عند محمد داود"، ص، 179- 185.
[19] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص، 23.
[20] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص، 23.
[21] محمد داود، تاريخ تطوان، مرجع سابق، ص، 33 و34.
[22] أنظر: مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة -تطوان- الخزانة الدادوية- دليل المنشورات، 2018.