
المحتويات
توطئة
يعتقد الكثير من المغاربة وبعض الباحثين أن الاستعمار بدأ مع توقيع “معاهدة الحماية” التي نعتبرها “استعمارا” تحت قناع أسموه “الحماية”، والحقيقة أنه “تشكيل” تم التخطيط له منذ أن استعمرت فرنسا الجزائر. وقبل توقيع “معاهدة الحماية” الاستعمارية، حيث مرّ الاختراق الفرنسي للمغرب بمرحلتين: “مرحلة التطويق والتدمير “، و”مرحلة مركزة وتدوير المغرب النافع”. وتعد هذه المرحلة الثانية موضوع الكتاب، حيث رصد فيها د. إدريس كرم: معارضة احتلال المغرب في البرلمان الفرنسي، والمسألة المغربية في البرلمان الإسباني، ودور الكنيسة في غزو المغرب، وخطة “منجان” لتنظيم الجيش المغربي، ومحنة القوات الفرنسية الزاحفة نحو فاس، والبرنامج الفرنسي الموصى بتنفيذه بعد احتلال فاس… إلى غير ذلك من الأحداث التاريخية الأخرى.
في منتصف القرن التاسع عشر بعدما غزت فرنسا الجزائر وجدت نفسها في تماس مع المغرب فقررت الاستفادة من “الحقوق” الجغرافية والتاريخية للقيام بغزو متعاقب للمغرب وسكانه المحصورين بين الجبال والبحر لإقامة إمبراطورية فرنسية جنوب المتوسط على أنقاض “إمبراطورية الغنى” التي توجد في مأزق يُسَهل أمر غزوها وتحقيق ما كانت تطمح فيه كل الحكومات الفرنسية حسب تصريح النائب “موريس روفيير” بالجمعية الفرنسية… من هنا يأتي التدوير الذي يثير هذا الكتاب الانتباه له.
مضامين الكتاب
يقع كتاب “مركزة وتدوير المغرب النافع ” في 261 صفحة، تأليف الدكتور إدريس كرم، والصادر عن مركز بلعربي العلوي للدراسات التاريخية التابع لمنتدى إحياء، الطبعة الأولى سنة 2020م. وهو عمل توثيقي هام بذل فيه البحاثة الدكتور إدريس كرم مجهودا مشكورا توزع بين البحث والتفتيش، والجمع والتصنيف، والترجمة العربية لوثائق كتبت بالفرنسية .
وقد جمع الأستاذ هذه المادة ثم قدمها بشكل رسم صورة ناصعة متكاملة عن الغزو المعاصر للمغرب صورة تجلي خلفياته وسياقاته، وتشرح مخططاته وبرامجه… كان موضوع الجزء الأول من الموسوعة هو: “مرحلة التطويق والتدمير” ومقاومة المغاربة للغزو من سنة 1906 إلى سنة 1910، هذا الغزو الذي تم تنفيذه بشكل مأساوي سنة 1907م لتدمير الدار البيضاء، وإحراق ساكنتها واختراق الشاوية وإبادة سكانها، واحتلال واحات تافيلالت وتقويض مبانيها، مما أدى إلى ظهور مقاومة عنيفة شعبية بقيادة سلطان الجهاد مولاي عبد الحفيظ. تلك الحركة التي جعلت القوات الغازية تعيد النظر في تكتيكها المؤدي إلى إخضاع المغرب، وإعادة تركيب ديمغرافيته السكانية عن طريق إغراقه بالمهاجرين الأوروبيين الراغبين في الغنى والثروة بعد تدمير مؤسساته الاجتماعية وبنياته الاقتصادية، وذلك باعتماد تقارير عسكرية ومراسلات ديبلوماسية وشهادات لضباط وجنود وصحفيي الخبر الذين شاركوا في تدمير بني يزناسن وتافيلالت والشاوية.
أما في هذا الجزء الثاني فأبرز المشاريع والبرامج التي وضعت المرحلة من 1906 إلى 1912م، والتي استهدفت “مركزة وتدوير المغرب النافع”. وقد قدم فيه د. إدريس كرم معلومات هامة حول معارضة احتلال المغرب في البرلمان الفرنسي، والمسألة المغربية في البرلمان الإسباني، ودور الكنيسة في غزو المغرب، وخطة «مانجان» لتنظيم الجيش المغربي، ومحنة القوات الفرنسية الراحلة نحو فاس، والبرنامج الفرنسي الموصى بتنفيذه بعد احتلال فاس، وموقف ألمانيا من غزو فاس والعرائش، وتقرير «كيار» حول الأوضاع بناحية فاس وغيرها من المواضيع.
إن هذا الكتاب الثاني من سلسلة غزو المغرب التي تم فيها تحديد “المغرب النافع” سيكون بدون شك مختبر قادة الغزو الفرنسي لرسم البرامج المناسبة للسيطرة والتدوير بعد فرض الحماية سنة 1912م لإقامة “مغرب جديد” مغاير للمغرب الذي وصفه ليوطى بـ “المغرب المحتضر”، الذي تفترسه الثورات والفوضى والتطلع للاستيلاء على العرش. مغرب يتم فيه لحم المغارب الثلاثة: مغرب السهل، مغرب الجبل، مغرب الصحراء، لتعمير بلد وإقامة دولة وجمع أمة، وهو ما تم التخطيط له من خلال معاهدة الحماية، وخاصة الفصلين الأول والثاني، الذي بمجرد ما تم التوقيع على المعاهدة حتى وضع ليوطي مخططه المكون من كلمتي: “اصنع المغرب”: اقتصاديا وإداريا واجتماعيا على أنقاض ذلك المغرب المنهك، الذي توالت على حكمه إحدى عشر أسرة حاكمة طيلة خمسة عشر قرنا لم تشيد فيه شيئا يذكر” (الكتاب، ص: 13).
لقد أتاحت سنوات الغزو المستعرضة في هذا الكتاب والسابقة لمعاهدة الحماية الفرصة لإيجاد طرق وأسلوب التعامل مع المغاربة لاختراق أراضيهم، وكسر شوكتهم، وإعادة صياغة قناعاتهم، وتسفيه معتقداتهم، وفق مقاربات متعددة تقتضيها التطورات الظرفية سواء في الداخل أو الخارج، وذلك لتثبيت ما تم اختراقه وغزوه وتنظيمه وتقسيمه إداريا، ودراسته اجتماعيا واقتصاديا وإثنيا وتاريخيا من قبل خبراء ابتعثوا من مؤسسات مختلفة لتقديم معرفة كافية منوعة تسهل مأمورية القوات الغازية، وإدارة الاستعمار الاستيطاني والإجهاز على الخصوصيات الوطنية والدينية البانية للعلاقات الاجتماعية والمحددة لها، وبناء عليه تم تقسيم المغرب إلى قسمين: “مغرب المخزن” و”مغرب السيبة”. والأول هو ما سمي بالمغرب النافع الذي يتكون من مغرب السهل مغرب الغنى الفلاحي، مغرب المدن الكبرى المخزنية، مغرب التجارة الناهضة، والذي لخص المقيم العام ليوطي ومعاونيه طريقة الاستيلاء عليه في ثلاثة عناصر: التقسيم فالعزل ثم الإخماد.
وقد تطلب ما سبق عملية تدوير ممنهجة لم تستقر على حال بسبب عدم الملائمة بين المرغوب والواقع المعاند، انطلقت من مشارف تافيلالت وحدود بني يزناسن مع الجزائر، والشاوية في مطلع القرن العشرين، لتصل بعد عشرين سنة من الفرك والعجن والقتل والتدمير إلى سوس سنة 1934م حيث دارت آخر المعارك مع المغاربة المتشبثين بالإسلام الموحد لهم منذ أن آمنوا به كما قال المقيم العام “نوكَيس” وغيره من الضباط والباحثين الذين أجمعوا على وجوب احترام نمط تدين المغاربة، والبحث في كيفية تطبيق المبادئ الثلاثة لليوطي السالف ذكرها على ذلك النمط، حتى لا تبقى الحياة الدينية للمغاربة أساس وحدتهم، مدافعة ومناهضة كل ما يأتي من مختلف الجهات الخارجية لتجديد طرق الحياة الإنسانية بإمبراطورية الغنى هذه، رافضة كل سلطة قادمة لإدارتهم من الخارج، لتحقيق الحلم الفرنسي بإقامة إمبراطورية جنوب المتوسط.
خاتمة
لقد تحول إذن الغزو والإدارة المباشرة للتهدئة باسم السلطان، والاستعمار الاستيطاني، إلى مسعى للتطوير ونشر السلم في بلاد يدافع سكانها بقوة وشراسة كل محاولة ملغومة للتجديد، وبنفس القوة والحماسة كل سلطة غازية قادمة من الخارج. متحدين حول الإسلام الذي اعتبره الغزاة هو المهيء لهم الفرصة للحرب والغنى، فلم يترددوا في خلط العقيدة الإسلامية بتمثلاتهم الوثنية البدائية التي تدفعهم لكره الكفار وكل ما هو آت من الخارج، حسب زعمهم.
وعليه فمقاومة الغزو لا يمكن تقييمها إلا من خلال العمليات المنجزة من قبل جيوش الاحتلال والتحولات التي مرت بها العمليات العسكرية سواء على مستوى الإعداد أو قوة النيران أو طرق الانتشار، وأساليب التدمير والإبادة وآليات التحكم في المجال وإعادة تقسيمه وتحديد الولاءات والتطلعات وكل ما له علاقة بتدبير الشأن العام. وهو ما سيعرض له المؤلف في الكتب القادمة.