مقدمة

كان للغُماريين المغاربة دورٌ بارز في الحركة العلمية والفكرية والصوفية والعسكرية في بلاد الشام وفلسطين، وكان منهم أفراد مارسُوا القضاء والإفتاء، عَـدَّ منهم الإمام الذَّهبي والمحدِّث الحافظ ابن حَجر العسقلاني حينَ تأريـخِـهِما لأعْلام الأمّة في القرن الثاني عشر الميلادي كلاَّ من السيد أحمد بن يعقوب الغماري، والسيد عبد الرحمن المالكي الغماري، والسيد محمد بن يوسف الغماري، كما كان لرجالاتهم أدوار بارزة في التطوّع للجهاد طيلة عهد االمرابطين والموحدين والـمَرينين، إنْ في اتجاه الشّمال صوب الأندلس كالمتصوف الـمجاهِد علي بن ميمون الغماري، أو في اتجاه المشرق صوبَ فلسطين وبلاد الشّام.

الجذور التاريخية لحضور الأسرة الغانمية بفلسطين

بَرَزت أسرة آل غانم الغمارية من بين الأسَر التي ساهمت في الدّفاع عن القدس الشريف وفلسطين، واستقرَّت بها عَقِبَ الانتصار التّاريخي للمسلمين في معركة حِـطِّـين يوم 4 يوليوز 1187، واشتهَرَ منهم العالِم المجاهِد غانم بن علي بن إبراهيم الغماري.

يُرجِع الإمام محمد بن أحمد الذّهـبي في كتابه “تاريخ الإسلام ووفَيَات الـمشاهير والأعلام”[1] جذورَ السيد غانم الغماري إلى قبيلة الخزرج الأنصارية بالمدينة الـمنوّرة، والده هو السيد علي الغماري، ابن منطقة غمارة على ساحل البحر الأبيض المتوسط[2] بين حاضِرَتَيْ شفشاون وتطوان. فيما يَرتفِعُ المؤرِّخ المغربي عبد الهادي التازي بنسَبِ غانمٍ إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، ويَصفِه بــ”شيخ الإسلام غانم الشَّريف”.

تَربّى الصبي غانم على يد والده وأسرته تربية دينية، في سياقٍ موسومٍ بتصاعد المواجهة بين المغاربة والاحتلالَين البرتغالي والإسباني في الغرب الإسلامي، وبين الاحتلال الصليبي والعرب في المشرق الإسلامي، فَزُرِعت فيه قِيم الكفاح والوطنية والدّفاع عن الأرض، والتعلُّق بمقدّسات وثوابت الأمّة. ثم كان أنْ انتَقل الوالِد علي الغماري إلى الحـجاز حاجًّا، فانتهى به الـمطاف بمَعية عدد من الـمغاربة مُستقِرّاً في مدينة نابلس بفلسطين سنة 558 هجرية.

آوتْـهم قَرية بورين التابعة لنابلس، فوَجَدت أسرة علي الغماري فيها الأجواء الـملائمة لتربية الأولاد وتعليمهم، وكان نصيبُ غانم بن علي مِن أخْذ العِلم وتلَقِّـيه على كبار المشايخ في الشام وفلسطين كبيرا، فنهَل من مَعِـينِـهِـم، وأُجيزَ في فنون المعارف على يَدِهِم. ثم لما شَبّ واستوى؛ تَزوّج، وأنجب ذرية حَملت معها روح المغرب في فلسطين، وأبانت عن إخلاصها في خدمة القدس الشريف، أوقافًا، وعلماً، وتعليمًا، ودفاعًا.

أفادَت التربية الروحية وبَركة أكناف بيت الـمقدس في صلاح واستقامة مترجَــمِـنا غانم الغماري، فكان كما وصَفه المؤرخ الذهّبي “زاهدا، عابدا، مُـخبِتا، قانتا لله، صاحب أحوال وكرامات”[3]، ووصَفه الباحث موسى المودّن بــ”العالم الـجليل”، وأنه كان مِن “المصلِحين الزّهاد الـعُبّاد الذين ذاع صيتهم في كل الأرجاء، وأصبحوا مقصد كلّ متلهِّفٍ لتَلَـقّي العلم والنّصائح والإرشاد”، ومِن أبْرز المغاربة اشتهارا بـ”الكرامات والأحوال”، كانت له خَلوات يختلي بها في القُــبَّة السُّليمانية والمسجد الأقصى، ذاكِرا الله وشاكِرا له ومتأمِّلا في ملكوته، وكان على حدّ شهادة ابنه عبد الله الغماري ذا “أخلاق كريمة وهَـيْـبَة عظيمة”، معروفا بين الـمَقدِسِـيِّـين بـ”الشيخ غانم النابلسي”.

آل غانم في مواجهة الحملات الصليبية

إنَّ أهمّ ما ميّز حياة الشيخ غانم الغماري وأولادَه؛ انخراطهم في حروب التّحرير ضد الصليبيين، بحيث شارَك غانمٌ أميرا على سَرية أهل فلسطين مُكلَّفا بلواء المغاربة في معركة حِطِّين مع القائد الـمظفّـر صلاح الدّين الأيوبي رحمه الله (1138م-1193م).

ما إنْ وَصَلَت طلائِع الـمجاهِدين لفلسطين بقيادة الأيّوبيين؛ حتّى هَبّ غانم الغماري معية كثير من المغاربة والمتطوّعين الذين أنْـفَذَهُم السلطان يعقوب بن يوسف الـموحدي (1184 م– 1199م) لدعم حركة الجهاد ضد الصليبيين؛ مناصِرا لجيش الأمير الأيوبي[4]، ومجاهِدا في سبيل استرجاع بيت الـمقدس وأحوازه.

في أعقاب الانتصار الكبير في حطّين؛ واستتباب الوضع للمسلمين؛ كافأَ الأميرُ صلاح الدِّين الشيخَ غانم الغماري؛ بتوليته مـشيخة الحرم القدسي، وكان أوّلَ مَن ولِيَ هذه الـمَشيخة بعدَ تحرير القُدس. كما استْصْدَرَ السلطان المنتصِر أمْرا ببناء حارة للمغاربة وإسكان أسرة آل غانم فيها وإبقاءها وقْفا إلى آخر الزمان، واستَقَلُّوا لاحِقاً بحارةٍ أخرى عُرِفَت باسم “حارة الغْـوانْمة”.

اختار الشيخ غانم الـغماري السَّكن بالقرب من باب الوليد، أحد الأبواب المعروفة في الحرم القُدسي، وهو الذي يُطلِقُ عليه قاطِـنو مدينة القدس الآن بابَ الغوانْـمة[5] الواقع على السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك من جهة الشمال، وقد اشْـتَـقُّوا اسمه من اسم الشيخ غانم، وأبنائه وذُريته التي تعاقَبَتْ مِن بَعده، في إشارةٍ منهم لتقديرِ وتوقير آل غانم المغربيين. فيما تُرجِّح مُقاربات تأريخية أخرى؛ أنَّ أصْلَ الباب يعود لمرحلة حُكم الخليفة الأُمَوي الوليد بن عبد الملك بن مروان (705م-715م)، ثمَّ رُمِّم وجُدِّدَ على عهد السلطان المملوكي الناصر لدين الله محمد بن قلاوون حوالي سنة 1307م.

ووَرَد في كتاب “الذّاكرة التاريخية الـمشتَرَكَة؛ الـمغربية-الفلسطينية”[6]؛ أنَّ السلطان صلاح الدين الأيوبي وهَبَ لــــغانم وأسرته بلدة بورين، و”مُعظم الأراضي بين القُدس ونابُلس، واستمرَّت أسرته في تلك الـمنطقة إلى يومنا هذا”، مُشتهِرةً بالعلم والصلاح، والقيام بالفُتيا والقضاء، وحبّ الأقصى وفلسطين وخِدمَتَهُما.

كان الشّيخ غانم بن علي في جهاده نِعْمَ الـقدوة والـمُربِّي بالنصيحة للأتباع والـمجاهدين، وفي أخلاقه وعلمه نِعْم الـمَرجِع، وفي علاقاته مع المغاربيين والـمقدسيين نِعم الجار والصديق، جَعل من المقاومة فُرصة للتزكية والتَّهذيب، وأوْقَفَ بَــنِـيهِ على خِدمة المسجد الأقصى وخانُقَاهْ الإسماعيلية، ونَبغَ في التدريس والتعليم حتّى عَدَّه مُجايِـلوه ومَن كَتَبوا عن سيرته “شيخَ الإسلام، وجِيه وُجهاء بيت الـمَقدِس، والعارِف بالله، حُجّة الزمان”.

شبكة العلاقات الاجتماعية والعِلمية للأسرة الغانمية

ارتبَط الشيخ غانم الغماري المقدِسي وبعض بَنيه بالصّوفية في مرحلة تالية مِن حياتهم، وصحِبوا كبار مشايخ التصوف، الذين سيكون لهم يدٌ فُضلى في تعريفهم بباقي بلدان الـمشرق، وانضمامهم لحركة الـكفاح في الشام.

توسَّعت علاقات الشيخ غانم وأسرته بباقي العائلات التي استقَرَّت بباب الغوانمة وحي المغاربة، وتناقَل الناس أخباراً طيبة عنه وعن أسرته، فكان أنْ انتَـقل في أخريات عـمْره إلى دِمشق وأقام بها، مُعلِّمًا، وواعِظاً، ومُحِضًّا شبابَ البلاد على الجهاد لحماية الثّـغور وبَـيضة الإسلام، وذاعَت مكانته بين العوام والـخواص، وأقْبَل عليه الناس من كلّ مكان في الشام، وكان دائم الافتخارِ بمعركة حِطّين وجهاد الـمُسلمين الذي تُوِّجَ بتحرير فلسطين ومدينتها الـمقدَّسة ومَسجدها الأقصى الـمبارك.

خَلَّف غانم الغماري المغربي أصلاً، المقدسي داراً واستقراراً، الدِّمَشْقِي وفاةً وإقبارا؛ ذريةً مِن بَعده مَلأت فلسطين والشّام ومصر عِلمًا وعطاءً، وشَغلت مناصِب دينية واجتماعية وسياسية رفيعة، اشتهر منهم السيد أحمد بن غانم وولَده عبد السلام الـمتوفى في القاهرة سنة 1280م، ومحمد شمس الدين بن غانم العالم الأديب، وإبراهيم بن أحمد بن غانم المتوفى سنة 761 هجرية، ونور الدين علي بن غانم كبير فقهاء الحنفية في زمانه، عاش في القُدس، وتُوفي في القاهرة سنة 1004 هجرية.

أما الشيخ العلاّمة الـمجاهِد غانم حاملُ لواء المتطوِّعين المغاربة في حرب التَّحرير الأيوبية، فقد وافته المنية بعد حياةٍ حافِلة بالعطاء والكفاح، والتنقُّل في الأقطار ومُجاوَرة بيت الـمقدِس.

تقبل الله جهاده وعلمه ومُرابَطته، ورحمه تعالى رحمة واسعة وباقي أفراد أسرته التي توارثت تجسيدَ الصِّلة بين المغرب وفلسطين.

المراجع
[1] الذهبي محمد بن أحمد بن قامياز، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق وتعليق الدكتور بشار عوّاد معروف، 20 مجلّدا، الطبعة الأولى، 2003، نسخة إلكترونية 2015.
[2] الوزان الحسن بن محمد، وصف إفريقيا، الجزء الأول، ترجمه عن الفرنسية محمد حجي، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، 1982.
[3] الذهبي محمد بن أحمد بن قامياز، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، مرجع سابق.
[4] الصلابي علي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير القدس، دار المعرفة للنشر، نسخة إلكترونية بتاريخ 6 يوليوز 2013. 
[5] تعرف على أبواب المسد الأقصى ال15، موقع الجزيرة نت، الرابط: https://bit.ly/3MJy02D .
[6] المودن عبد الحميد ومغربي عبد الرحمن محمد، ضمن: الذّاكرة التاريخية الـمشتَرَكَة؛ الـمغربية-الفلسطينية، جزآن، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2018.