المحتويات
مقدمة
تعتبر مدينة سجلماسة من بين أقدم المدن التي أسست في تاريخ المغرب، وهي أيضا من المدن التي عمرتها مجموعات بشرية متعددة وشهدت أحداث تاريخية كثيرة. ورغم هذه الأهمية التاريخية فإن المدينة لم يكتب لها الاستمرار بعدما عاشته من ازدهار لقرون لعدة (ما يناهز ستة قرون)، حيث أن المدينة تعد اليوم من بين المدن المندثرة، ولم يتبقى منها إلا بقايا وآثارها التي تنتشر على مناطق واسعة. وبفعل موقعا الإستراتيجي على طريق التجارة الصحراوية القديم الرابط بين السودان الغربي وأوربا عبر المغرب، فقد كانت كما قال الحسن الوزان “مدينة متحضرة جدا، دورها جميلة، وسكانها أثرياء بسبب تجارتهم مع السودان. وكان فيها مساجد جميلة، ومدارس ذات سقايات عديدة يجلب ماؤها من النهر، تأخذه الناعورات من واد زيز وتقذف به في قنوات تحمله إلى المدينة”[1]. كما أن غنى المناطق التي تحتضن سجلماسة على المستوى الفلاحي، خصوصا التمور والتاكَوت والحناء والنيلة. كما كانت المدينة بمثابة “دار سكة” للمغرب خلال فترات زمنية طويلة ابتداء من فترة حكم الإمارة المدرارية الصفرية (القرن 2ه/8م) إلى أواخر الدولة المرينية وبعدها (القرن 9ه/15م).
وتطلق سجلماسة في نفس الآن على مجال جغرافي واسع، وعلى المدينة، فهي إسم لمدينة ولمحيطها الجغرافي أيضا، وقد كان مجالها يتسع ويتقلص حسب الظروف السياسية التي عاشتها المنطقة. ويقع موقع المدينة على مشارف الصحراء الكبرى، يحدها من الغرب وادي زيز ومن الشرق ساقية الشرفاء، وفي شمالها نجد الأطلس الكبير الشرقي، وتقع ووسط مناطق واسعة تغطيها أشجار النخيل مشكلة واحدة من أهم واحات جنوب المغرب وهي واحة تافيلات، والتي تغذيها مياه وديان أولا حريز ووادي زيز الذي ينبع من الأطلس الكبير. فموقع خراب مدينة سجلماسة يقع بين خط طول 31 درجة و 7 درجة غربا وخط عرض 34 درجة و80 درجة شمال خط الإستواء. وقد بنيت المدينة على موقع طبيعي ممتاز وهو عبارة عن هضبة مرتفعة عن مستوى غمر مياه فيضانات وادي زيز. واختير هذا الموضع لبناء سجلماسة تبرره حاجة سكانها إلى الحماية اللازمة لتفادي غمر فيضانات هذا الوادي، وفسح المجال لممارسة النشاط الزراعي في الأراضي المنخفضة المجاورة[2]. ويقع موقع مدينة سجلماسة بالتقسيمات الإدارية الحالية في المغرب ب”جهة درعة تافيلالت” قرب مدينة الريصاني الحالية.
دلالة إسم سجلماسة
تنطق كلمة سجلماسة بكسر أول الكلمة وثانيها وسكون اللام وفتح الميم ثم ألف وسين مهملة كما أورد يقوت الحموي في معجمه[3]. وقد وردت عدة فرضيات وروايات تاريخية حول أصل كلمة سجلماسة. نذكر منها الرواية التي أوردها الحسن الوزان (ليون الإفريقي) في كتابه “وصف افريقيا”، والذي ذكر أن سجلماسة بناها قائد روماني وسماها سِجِلّوم مِيسَي لأنها كانت آخر مدن دولة ماسة ولأنها كانت كالخاتم الذي يسجل نهاية فتوحاته فحرف هذا الاسم بعد ذلك وتحول غلى سجلماسة [4]، ولا يعرف مصدر هذه الرواية التي أوردها الحسن الوزان والتي انفرد بها دون غيره من المؤرخين والجغرافيين والرحالة.
ويرى كولين Colin أن كلمة سجلماسة مشتقة من سجلوم Sigillum وهي كلمة لاتينية مأخوذة من الكلمة اليونانية سيجيليوم واستعملت في اللغة العربية للدلالة على صكوك المبايعات وعلى كتاب يكتب به القاضي صورة الدعاوي والحكم فيها، كما استعملت للدلالة على الكتابة عامة. والكلمة حسب فقهاء اللغة ومفسروا القرآن كلمة دخيلة على اللغة العربية، ونسبها بعضهم إلى اللغة الحبشية والبعض الآخر إلى الفارسية، والسجل في اللغة العربية هو الوثيقة المكتوبة[5].
أما ماك كوك فقد ذكر أن كلمة سجلماسة مركبة من شقين سجل (أو سجيل) وماسة[6]. وانطلاقا من ذلك يمكن الإستنتاج أن الشق الأول من الكلمة وليد فترة الفتوحات الإسلامية لشمال افريقيا. أما الشق الثاني فهو إسم لمدينة قديمة بالمناطق الجنوبية للمغرب وهي ماسة، وعليه، تكون هذه الكلمة مركبة من سجيل وماسة، حسب أصحاب هذا الراي[7].
أما الأستاذ العربي مزين في تحليله لكلمة سجلماسة فقد استنتج أن تركيبها غريب عن اللغة اللاتينية والعربية معا، وأكد بأن اشتقاقها جاء من اللغة الأمازيغية. فهو يرى أن المتأمل للمجموعة الصوتية س.ج.ل.م.س التي تتكون منها اسم سجلماسة، سيلاحظ بأن اللغة الأمازيغية تحتوي على ألفاظ كثيرة نجد فيها تلك السلسلة أو جزء منها، مع استبدال حرف السين بالكاف: كأكلموس، إكَلماس، إسكَلمس، اكلمام، أكَلمان أوكَماس. أو نجد أيضا: ألميس، تالمست، أولماس، ماست. وبصفة عامة فإننا نشاهد المشترك في كل تلك الكلمات أنها تشير إلى أماكن ثرية بالماء الشيء الذي يعني أن: م+أ+س كانت تعني الماء في اللغة الأمازيغية قبل أن تتأثر بالعربية[8].
وانطلاقا من هذا التحليل، فإن معنى كلمة سجلماسة في الأمازيغية هو المكان المشرف على الماء، فالكلمة مركبة من سيج+إلماس وأدخلت عليها بعض الإضافات التعريبية، بحيث أن تاء الآخر في الكلمة العربية هي التي تعوض نون الآخر في الكلمة الأمازيغية، ككلمة كَلميمة التي تسمى في الأمازيغية إكَلميمن وكلمة كَديميوة وأصلها الأمازيغي إكَدميون وكلمة وولاتة وصيغتها الأمازيغية هي إيولاتن، ونفس الأمر بالنسبة لكمة سجلماسة[9].
ويطلق على مجالات سجلماسة في بعض المصادر كلمة تافيلالت، وخاصة بعد اختفاء المدينة وتحولها إلى خرائب، كما لم تعد تستعمل على المستوى المحلي إلا ناذرا، وحتى إسم المدينة أصبح يعرف باسم “المدينة العامرة”. وإذا كان لفظ سجلماسة يطلق، بالإضافة إلى المدينة، على مناطق واسعة حول المدينة، فإن لفظ تافيلالت في الوقت الحالي يطلق فقط على المناطق الواقعة جنوب تيزيمي والممتدة حتى قصر تنغراس، وهو المجال الذي يتوسطه بقايا آثار مدينة سجلماسة[10].
قصة تأسيس مدينة سجلماسة
وكما اختلف حول دلالة كلمة سجلماسة، فإن روايات المؤرخين والجغرافيين القدامى حول تأسيس المدينة ومؤسسيها وتاريخ ذلك تباينت أيضا. وعموما فيمكن تصنيف تلك الروايات إلى مجموعتين؛ الأولى تعود بتأسيس المدينة إلى الفترة السابقة عن الفتح الإسلامي للمنطقة أي في الفترة حكم الرومان للمغرب، والثانية فترجع بتأسيس المدينة إلى الفترة الإسلامية.
الفترة الرومانية:
من الروايات التي قالت بتأسيس المدينة في الفترة الرومانية، رواية ابن سعيد الغرناطي الذي أورد أن سجلماسة بنهاها الإسكندر الأكبر. أما الحسن الوزان فقد روى أن “مؤسس هذه المدينة –حسب بعض مؤلفينا- قائد روماني ذهب من موريطانيا فاحتل نوميديا بأسرها، ثم زحف شطر الغرب حتى ماسة، فبنى المدينة”[11]. وقال أيضا: “وحسب رواية أخرى هي في الواقع رواية الشعب ورواية جغرافينا البكري، فإن المدينة أسسها الإسكندر الكبير لفائدة المرضى والمعطوبين من جنوده”[12]. وفي نفس سياق تأسيس المدينة في الفترة السابقة عن الفترة الإسلامية في المغرب، فقد ذهب صاحب الترجمانة أبو القاسم الزياني إلى أن تأسيس مدينة سجلماسة كان على يد بني مدرار المكناسيين قبل الإسلام[13].
وتبقى هذه الروايات حول تأسيس سجلماسة في تلك الحقبة غير قائمة على أسس علمية قوية وعلى أدلة علمية مقنعة. ويبقى التنقيب الأثري وحده هو الكفيل والوسيلة التي تمكننا من معرفة الحقيقة في موضوع كهذا[14].
الفترة الإسلامية:
أما الرويات التي تعود بتأسيس المدينة إلى الفترة الإسلامية، فإن أقدمها هي رواية أبو عبيد الله البكري في كتابه المسالك والممالك، الذي أورد تاريخين مختلفين لتأسيس المدينة؛ 140ه/757م و 104ه/723م، وعلى يد ثلاثة أمراء من بني مدرار وهم: مدرار بن اليسع، وأبو القاسم سمكو بن واسول، وأخيرا عيسى بن يزيد الأسود. وهي نفس الرواية التي يتفق معها صاحب الإستبصار (مجهول) الذي ذكر أن تاريخ تأسيس المدينة يعود إلى سنة 140ه/757م، وعن هذا الأخير نقل عدد كبير من الجغرافيين العرب رواياتهم عن تأسيس سجلماسة، وخاصة الحميري[15].
وتبقى هذه الروايات التي أكدت تأسيس سجلماسة في مرحلة التاريخ الإسلامي الأكثر قربا من الحقيقة والأكثر تماسكا. فرغم التضارب الذي يمكن ملاحظته على هذه الروايات فيما يتعلق بتاريخ التأسيس، فإن أغلب الروايات تؤكد أن المدينة بنيت عام 140ه/757م في عهد أول أمير خارجي (صفري) لإمارة بنو مدرار عيسى بن يزيد الأسود، والذي خلفه بعد 15 سنة من تأسيس المدينة أبي القاسم سمكو بن واسول[16].
مصير المدينة
لقد استمر وجود مدينة سجلماسة خلال فترة مؤسسيها المدراريين وفي عهد الإمارة المغراوية وكذا في فترة الدول المغربية الكبرى كالدولة المرابطية والموحدية والمرينية. ولا يعرف بالضبط تاريخ الخراب النهائي لمدينة سجلماسة.
ويعتبر الملازم في الجيش الفرنسي هيسيث داستغ أول من حدد الموقع الأثري للمدينة بصفة نهائية وكان ذلك سنة 1867م. وقد تم تنفيذ أول تنقيب أثري حقيقي في موقع مدينة سجلماسة خلال سبعينيات القرن الماضي (1971-1972). وفي سنة 1988-1989 قام فريق من الباحثين المغاربة والأمريكيين بعدة حملات تنقيبية في موقع المدينة. ومنذ عام 2012 قام فريق مغربي فرنسي متعدد التخصصات بقيادة الأستاذين العربي الرباطي وفرانسوا كزافيي فوفيل بتحريات جديدة في موقع المدينة وفي المواقع المحيطة[17].
المراجع
[1] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، ج2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1983، ص 127.[2] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، منشورات وزارة الأوقاف المغربية، 1997، ص 85.
[3] شهاب أبي عبد الله الحموي، معجم البلدان، دار صار، بيروت، ص 192.
[4] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، مرجع سابق، ص 127.
[5] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 86.
[6] ماك كول، الروايات التاريخية عن تأسيس جلماسة وغانة، تعريب وتعليق محمد الحمداوي، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1395، ص 40-42.
[7] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 86-87.
[8] مزين العربي، سجلماسة، ضمن مذكرات من التراث المغربي (علي الصقلي)، المجلد 2، الرباط، 1984، ص 25.
[9] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 89.
[10] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 89-91.
[11] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، مرجع سابق، ص 127.
[12] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، مرجع سابق، ص 127.
[13] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 96.
[14] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 98.
[15]حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 95.
[16] حسن حافظي علوي، سجلماسة وإقليمها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، مرجع سابق، ص 94.
[17] أنظر موقع طريق الإمبراطوريات: https://laroutedesempires.ma/presentation-du-site-de-sijilmasa/ .