المحتويات
تقديم
ما زال مقتل بن بركة لغزا محيرا، كتبت بشأنه العديد من الكتابات وقدمت شهادات، واتهمت أطراف. اختفاء المهدي بالعاصمة الفرنسية باريس، أو بالأحرى اختطافه علم به رجل واحد بالمغرب، الحسن الثاني، شهادة موريس بوتان ليست رقما من الأرقام بقدر ما هي شهادة شاهد عيان للعديد من الأحداث والوقائع.
من خلال كتابه “الحسن الثاني … ديغول .. بن بركة ما أعرفه عنهم” سنسعى إلى تقريب أهم مضامينه، لتنضاف إلى باقي الأعمال البحثية في مسار العمل السياسي المغربي، وتجلية بعض الحقائق عن الصراع حول السلطة بين العرش والمعارضين. موريس بوتان الفرنسي المناهض للحماية الفرنسية، أهدى عمله إلى عائلة المهدي بن بركة، وإلى الأصدقاء والمناضلين المغاربة من أجل حقوق الإنسان. وكل قضاة التحقيق الذين ساهموا في القضية، وقام بترجمة العمل رشيد برهونست ومراجعة عثمان بناني، صدر عن دفاتر وجهة نظر عدد 29.
وأثناء توقيع الكتاب قدمت شهادات بخصوصه وأكدت في مجملها أهمية المؤلف، فقد اعتبره البشير بن بركة كتاب الأمل في أوقات الجبن السياسي، ووصفه عبد الرحمن بنعمر بواحد من أهم الكتب التي تناولت تاريخ المغرب الحديث، بينما شدّد حسن إيميلي على أن موريس بوتان لم يتعامل في مؤلفه كمؤرخ، بل كمشارك رئيسي في الأحداث، والعديد من الفصول يتحدث فيها بضمير المتكلم، خاصة عندما كان يلتقي فاعلين أساسيين في اغتيال المهدي بن بركة.
دواعي التأليف وأهدافه
قبل الحديث عن أسباب تأليف الكتاب لا بد من إثارة الظروف التي صاحبت إصداره في إطار مجموعة من وجهات النظر، حيث يؤكد مدير مجلة “وجهة نظر” عبد اللطيف حسني، إنه لولا تظافر جهود أطراف ثلاثة، ما كان للترجمة العربية من هذا الكتاب أن ترى النور، فقد تنازل موريس بوتان عن حقوق الترجمة، وكذلك فعلت دار النشر الأصلية صاحبة حقوق نشر الكتاب، ثم أتى دور “معهد بن بركة.. الذاكرة الحية” ليموّل ويدعم هذا العمل[1].
ويؤكد موريس توبان أنه لاسيتعاب التغيرات التي عرفها المغرب لاسيما لما أقدم على تبني خيار المصالحة الوطنية بتأسيس هيئة “الإنصاف والمصالحة” وطي ملف سنوات الرصاص، كان لزاما أولا قراءة الصفحة واستيعابها، ومن باب أولى صفحة سنوات الرصاص هاته التي تستحق أن تقرأ مرارا وتكرارا. ويضيف، يتعلق الأمر بواجب الذاكرة تجاه الأجيال الشابة التي من حقها أن تتعرف على هذه الفترة، ولكن أيضا واجب الحقيقة والعدالة تجاه الضحايا. فليس بالإمكان تحقيق مصالحة وطنية دون تسليط الضوء على الماضي، ودون إدانة المسؤولين عنه ومعاقبتهم. وقد عقد المؤلف العزم على تقديم شهادته انطلاقا من موقع المحامي عن حقبة مؤلمة اكتوى بنارها العديد من المناضلين المغاربة، خلال العشرية الأولى الموالية للاستقلال التي عرفها جيدا. وبدا له، على غرار الكثيرين قبله، أمرا مفيدا أن يسطًر متحديا النسيان حكاية الأحداث التي عايشها عموما في قاعات المحاكم، بعد أن وقع عليه الاختيار محاميا في كل المحاكمات السياسية إبَان تلك الفترة، وغالبا ما كان المحامي الفرنسي الوحيد إلى جانب زملائه وأصدقائه المغاربة.
ويطمح الكتاب إلى وضع لبنة في هذا الصرح، ولا يزعم لنفسه القيام بعمل المؤرخ. حيث أن بوتان لا يعتبر نفسه مؤرخا، وإن كان مجال التاريخ أحد المباحث التي كانت مصدر متعة كبرى له خلال سنين الدراسة الثانوية، بفضل بعض أساتذته الأجلاء.
كتب كتابه لغاية مهمة؛ “لأوجه تحية إكبار لكل الأجيال شبانا وشيوخا ممن يواصلون النضال منذ سنوات داخل مختلف المنظمات غير الحكومية (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وفرع المغرب التابع لمنظمة العفو الدولية ومنتدى الحقيقة والإنصاف وغيرها) لفضح الخروقات الفظيعة لحقوق الإنسان طوال “سنوات الرصاص” في عهد الحسن الثاني. ولي اليقين أن هؤلاء المناضلين يدركون تمام الإدراك أن المشاكل التي يواجهها الشعب المغربي لا يمكن التعامل معها بعمق ووعي إلا إذا تم الكشف عن حقائق الماضي وأسراره، لهذا تراهم أيضا يطالبون بحقهم في معرفة الحقيقة” (ص 386).
محتويات المؤَلَّف
عرض موريس في الجزء الأول لمقاومة الشعب المغربي للحماية ونظام الإدارة المباشرة الذي جاءت به خطأ، والدور الذي لعبه في السنوات الأخيرة بعض الفرنسيين بالمغرب الذين كنت أتقاسم معهم القناعات ووحدة المعركة.
وسلط الجزء الثاني من الكتاب، الذي يتناول الفترة الممتدة من1956 إلى1965، الأضواء على الصعود المدوًي لنجم الأمير مولاي الحسن الذي سيصبح فيما بعد الملك الحسن الثاني، معرًجا على اللعبة التي مارسها مع القوة الاستعمارية السابقة، ورغبته العارمة واستعجاله اعتلاء العرش حاكما مطلقا ممسكا برقاب الشعب المغربي، وحقده على كل من تسول له نفسه معارضته، وخاصة أحد الأشخاص القلائل، وربما الوحيد الذي كان يقف معه موقف الند للند، ويعني المهدي بن بركة.
وتطرق في الجزء الثالث إلى تطور قضية المهدي بن بركة. “قضية حياتك”، كما قال له البعض. وفيه توقف عند “اختفاء” الزعيم المغربي في 29 أكتوبر1965، والآثار المباشرة الناجمة عن ذلك في المغرب وفي فرنسا، وأول دعوى مقدًمة في هذا الشأن بتهمة “الاختطاف”، والمحاكمتين اللتين تلتاها سنتي 1966 و1967، والدعوة الثانية المقدمة في أكتوبر 1975، والتي مازالت أطوارها جارية حد اليوم بقصر العدالة بباريس، بتهمة “الاغتيال” هذه المرة. وهي إذن حكاية المعركة التي خضتُها طوال أربعين سنة من أجل عائلة بن بركة وإلى جانبها، علً الحقيقة الكاملة حول هذه المسألة تنكشف يوما ما.
تنطوي الشهادة التي قدمها حول الفترة الممتدة من 1965 إلى1966 على تحليل سياسي اختصره في عبارة مقتضبة: “الحسن الثاني والمهدي بن بركة، وجها لوجه”. ولا شك أن البعض لن يقتنع بهذه الصيغة، ويرى أن سرده لأحداث تلك الحقبة أقرب إلى الذاتية منه إلى الموضوعية. ولا ينكر أنه في كل المحاكمات التي رافع فيها، وجد نفسه في مواجهة السلطة الملكية. دع أن اختزال العشر سنوات الأولى من استقلال المغرب في مواجهة بين الرجلين ينطوي دون شك على تبسيط لتاريخ هذا البلد آنئذ. ولكنه في نظره يعبًر على الحبكة الأساس التي كانت تعتمل في قلب الأحداث، ويميط اللثام عن العداء الذي يكنًه الحسن الثاني لكل من وما عداه[2].
وتشكل ذكرياته ووثائقه الشخصية وملفاته القضائية المصادر التي استقى منها مادة هذا الكتاب، وقد عمل على استكمالها ببعض المصادر الأخرى للمعلومات من جرائد تعود إلى تلك الفترة وشهادة بعض الأصدقاء المغاربة، إضافة إلى أرشيفات فرنسية مختلفة. لهذا، فكل ما ذكره من تفاصيل وطرائف وحكايات ليست من صنع الخيال. وختم التمهيد بذكر السبب الذي جعل إصدار هذا المؤلف يأتي متأخرا بعد كل هذه السنوات، مع أن أجزاءه الأولى تتطرق إلى الفترة من1952 ألى 1966.
وسيلاحظ القارئ وهو يقرأ نص المرافعة التي قدمها، حسب تعبيره، أمام محكمة الجنايات ” لاسين” ، حيث ظل منذ 1966 أدافع عن وجهة النظر نفسها.
ولتفصيل ما جاء في الكتاب من خلال إطلالة على فهرسه، يتبين لنا أنه وبعد المقدمة توقف عند لقاءاته بالحسن الثاني والمهدي بن بركة، حيث خصص الجزء الأول للمقاومة المغربية في عهد الحماية 1912 ـــ 1956، تعرض فيه للتاريخ منذ السلطان محمد بن يوسف، وعزله، والشهور الأولى للنفي، وتحدث عن الفرنسيين الأحرار والترافع عن الوطنيين، وبداية تأسيس نقابة مغربية الاتحاد المغربي للشغل، ومخلفات الحماية حيث تفاقمت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية، وأبرز عودة الملك إلى عرشه، ولم يفته الحديث عن أول حكومة مغربية بقيادة البكاي.
وفي الجزء الثاني الذي عنونه بسنوات الرصاص بين فيه أسباب اختفاء بن بركة، ومؤامرات مولاي الحسن، والسنوات الأولى من الاستقلال، وأولى قرارات القصر، والقوات المسلحة الملكية، وجيش التحرير وقضية عباس المسعدي، وعدي أوبيهي، ودور بن بركة في مستهل 1957، وولاية مولاي الحسن، وطريق الوحدة، وحكومة بلفريج، وانتفاضة الريف، وجيش التحرير المغربي، وصعود اليسار إلى السلطة وسقوطه، وعودة المهدي إلى المغرب، والحركة الشعبية 1962 ، وتصفية الوزراء الاستقلاليين، وما حدث في انتخابات 17 ماي 1963م ، ومآسي صيف 1963 “القمع”، والاختطافات، وتصفية شيخ العرب، والأشهر الأولى من 1965 ومحادثات الحسن الثاني مع الأحزاب، وحالة الاستثناء.
وفي الجزء الثالث خصصه لقضية بن بركة الدعوى الأولى من 1965 إلى 1975، واختفاء بن بركة، والمحاكمتان، والسنوات الأولى بعد المحاكمة 1967 ــ 1974، وما هو مصير “المرتزقة” النقطة الثابتة 3، وماذا وقع للمهدي بن بركة؟ وماذا عن اختفائه؟ ثم الحديث عن المغاربة، والفرنسيين، ودور الإسرائليين والموساد، ودور الولايات المتحدة الأمريكية “وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية” وختم بشكر وتنويه.
خلاصة
الكتاب في مجمله محاولة لتفكيك العلاقة بين مؤثرين في الحياة السياسية المغربية، واحد مستعمر وعقل مدبر ومنفذ لمخطط ما سمي بالحماية، والثاني معارض شرس، والثالث ملك عبقري وما صاحب المرحلة من أحداث أغلبها حول طبيعة النظام، والمؤلف لم يكن غريبا عن أغلب مجريات الأحداث، وإن من أهم مّا جاء في هذا المؤلف، محاولة تحليل بوتان لشخصية الملك الراحل الحسن الثاني، حيث يكتب عنه: “سيمرّ وقت طويل قبل أن ألاحظ أن التربية التي تلقاها الحسن الثاني في طفولته ستظل دائما تتحكم في شخصيته، ففي عصره، كان هناك في المغرب، هُو و’الآخرون’ “. كما يكتب عنه ” ينعم بذكاء خارق ومواهب فذة، كما تجذبه السلطة.. هو بالتأكيد ليبرالي حتى النخاع.. ولكن لصالحه !.. في الواقع، إنه أحد أكثر الملوك الذين اعتمدوا على نظام حكم فردي مطلق في تاريخ المغرب، منذ السلطان المولى إسماعيل” .كما برزت علاقة تقدير عظيمة تجعل بوتان بالراحل المهدي بن بركة، حيث يكتب عنه:” ليس ثمة شك أن المهدي بن بركة يُعد أنجب تلميذ تخرّج من المدارس الفرنسية في عهد الحماية. وأفهم أيضاً لماذا كان يعتبر في نظر مسؤولي تلك الفترة، والمقيم العام جوان وبعده غيوم، عدو فرنسا الأول، قبل أن يصبح كذلك بالنسبة إلى الحسن الثاني”.
لقد حرر المؤلف سطور هذا الكتاب( ص 386 وما بعدها) وصورة غيثة بناني زوجة المهدي بن بركة لا تفارق ذهنه، فهي التي لم يهدأ لها بال ولم تستقر على حال، فحياتها توقفت تقريبا قبل أكثر من أربعين سنة.
سطر بوتان كما جاء في نهاية الكتاب هذه الكلمات وهو يفكر في أبنائها الأربعة البشير وفوز والتوأمين سعد ومنصور، وفي ابني عبد القادر اللذين ربَتهما بهيجة وخالد، وفي أخويها عثمان وعلي، وأختيهما وعائلاتهم. ويتذكر أنهم عاشوا كالبنيان المرصوص، وأصابع اليد الواحدة، لم يتسرب اليأس إلى نفوسهم، وهم يسعون إلى معرفة الحقيقة رغم الأسرار التي يصطدمون بها أينما ولوا وجوههم: “دبَج سطور هذا المؤلَف وذهنه متجه إلى كل أصدقائي المغاربة، ومنهم أحمد بلحاج والهادي مسواك وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد عواد ويحيى بن سليمان وأحمد الشاوي ومحمد الطاهري وغيرهم كثيرون. بعضهم فارق الحياة، ولكن أبناءهم وأحفادهم ما زالوا على قيد الحياة.
كتب هذا المؤلف وهو يفكر أيضا في مستوى أعم في كل ضحايا النظام الحاكم في المغرب، ممثلا في شخص الحسن الثاني، عاشق الديموقراطية والمتغني بها في خطبه ل “شعبه العزيز”، ولكنه في أفعاله لم ينفك يدوسها بقدميه. وكان يفكر كذلك في ما تكبَدته عائلات الضحايا من ويلات ومعاناة، بسبب اعتقال قريب لها واحتجازه دون وجه حق وتعريضه لشتى صنوف التعذيب الوحشي؟.
وقد اعتبر المؤلف أن عمل هيئة الإنصاف والمصالحة كان سيبلغ تمامه لو لم يُحاصر في طريقة تصوره نفسها بمجموعة من القيود.
صحيح ان المبادرة المغربية تشكل سابقة في العالم العربي الإسلامي، ونقطة مضيئة في تاريخ البلد وملكه الشاب. بيد أن تجربة إفريقيا الجنوبية في هذا الصدد تكتسي في نظر بوتان أهمية أكبر وسيكون أثرها أعمق وأبقى. فلجنة الحقيقة والمصالحة برئاسة الأسقف ديسموند توتو desmond Tutu التي استحدثتها الجمعية التأسيسية، قامت على مبدأ واضح لا لبس فيه: “سيُمنح عفو فردي خاص بكل حالة على حدة لمرتكبي الخروقات الفظيعة في مجال حقوق الإنسان، مقابل اعترافهم الكامل بجرائمهم المرتبطة بأهداف سياسية”. كان إذن على الجلادين أن يعترفوا في جلسة مفتوحة بجرائمهم، كي يقبل ضحاياهم العفو عنهم، مما يجعلنا أمام عملية “أخذ وعطاء” حقيقية. هكذا، بفضل الاعتراف بالحقيقة، لم تعد العدالة شكلا من أشكال الانتقام.
ولنستمع إلى صاحب الجلالة محمد السادس نفسه وهو يصرح[3] بعد صدور تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة قائلا: “لقد أقدمنان بكل شجاعة وحكمة وثبات، على استكمال التسوية المنصفة لماضي انتهاكات حقوق الإنسان، التي أطلق مسارها الرائد، منذ بداية التسعينات، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، قدس الله روحه”. ولنتمعَن في لفظة استكمال، أمعناها أن صفحة “سنوات الرصاص” قد أصبحت جزءا من الماضي؟ ولكن ما قولنا عن “القضية” وقضايا أخرى عديدة من حالات “الاختفاء” التي لم يُكشف عنها الستار بعد؟
المراجع
[1] موقع هسبريس- إسماعيل عزام 22 نونبر 2014.[2] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، حوارات مع إيريك لورانت Erik Laurent، بلون، 1993، ص 100.
[3] في خطاب موجه إلى الأمة بتاريخ 6 يناير2006.