المحتويات
مقدمة
اقترنَ بُروز الدّولة المرابِطية في القرن الخامس الهجري بالمغرب في أعقاب ثلاثة قرونٍ من الانقسام السياسي وتَوزُّعِ البلاد بين إمارات متفرِّقة؛ بشخصية فذَّة ستَدخُل بالمغرب وبدولة المرابِطين السِّجِل الذَّهبي لتاريخ أقوى دُول الغرب الإسلامي؛ إنه العالِم العامِل المجاهد عبد الله بن ياسين الجزولي.
ليس ثمَّة تاريخٌ محَدَّد على وجه الدِّقة لميلاد الشيخ عبد الله بن ياسين بن مكوك بن علي، إلا أنّ الراجح من الأقوال، ازديادُه بــ”تمنارت” في ببلاد سوس مَطْلَع القرن الخامس الهجري حَسَب رواية الإخباريين،[1] منتسباً إلى جَزولة من جِهة أمّه. تربّى الصبي النَّجيب في أكناف أسرة مسلمة، وأخَذ العلم من حَلقاتِ شيِخ المنطقة وَجّاج (وكَاكَ) من زَلّو اللّمطي، وفي قُرطَبة كذلكَ مدَّةَ سَبْع سنين، تَشرَّب فيها أصولَ المعارف والعلوم، وتَشبَّع بروحٍ تجديدية وعقلية إصلاحية مُتنوِّرة وروح وحدوية.
ترتيبات الأشياخ الكبار تصبُّ في صالح الشيخ الصغير
سيكون الفقيه المغربي المقيم في القيروان أبي عمران الفاسي (تــ 1038م) دَوْرٌ _ وإنْ بطريقة غير مباشرة_ في تعريف المغاربة وقبائل الصحراء بالعالم النّجيب عبد الله بن ياسين. ذلك؛ أنّه وبَعْد أنْ عَرَّج وفدُ الحجيج المغربي على إفريقيةَ/تونس بعد انتهاء مناسك الحج قاصدا لُقْيا العلّامة أبي عمران للتبرك بعلمه، ولتقديم طلبٍ إليه، موضوعه؛ انتداب شيخٍ عالِـمٍ لتعليم أبناء الصحراء وَسَاداتها دِين الإسلام وسنّة محمد عليه الصلاة والسّلام. فاقترح عليهم الفقيهُ أبو عمرانَ أحدَ أنجب تلامذته المقيمين في المغرب، الشّيخ وجّاج بن زلّو اللّمطي أبرز فقهاء الجنوب الغربي المغربي، وكَـتَب إليه برسالةٍ مع رئيس وفد الحجّاج يطلب منه مرافقتَهم إلى الصحراء لتعليمهم أحكام الإسلام، بَعد انصرام أربعة قرون ونصف من إسلام المغاربة.
تَسَلَّم الشيخ وجّاج الرسالة؛ وأَوْكَل بالمهمة الجليلة لنابغة تلامذته وشيخ سوس مِن بعده عبد الله بن ياسين، الذي “كان مِن حُذّاق الطَلبة ومن أهل الفضل والدين والورع والسياسة، مُشارِكا في العلوم”، حسب عبارة أحمد الناصري في “الاستقصا”[2]، فقَـبِل بالأمر، وانتقل مِن بلاد سوس إلى تخوم الصّحراء، ليبدأ رحلةً دعوية ورباطا تربويا أثمر دولةً مِن العيار الثقيل، وأعْطَت لاسمه إشعاعا وطنيا وإفريقيا وعربيا.
ابن ياسين ومساعي توحيد الأتباع وإنهاء نزاع الأشياع
بعد مُقامٍ كريم وتقلُّباتٍ وصعوبات مع الأتباع الجداليين (الكداليين) واللّمتونيين (صنهاجة)، ومَساعِي حثيثة لدعوة زناتة المغراويين؛ آتَت جهود عبد الله بن ياسين التربوية والدعوية والتعليمية أُكْلَها، فَجَمَع حَوْلَه قبيلة جْدَالة (كدالة)، ولــمْتونة، وعلَّمهما أصول الدّين والاحتكام إلى المذهب المالكي[3]، والدَّفع بأثَرِ حركته الدّعوية الإصلاحية على الواقع، وتكوين عَصَبِـية قبَلِية قامت على أساس الوحدة بين كَدالة ومسّوفة ولمطة، بقيادة قبيلة لمتونة “التي ستلعَب في النّظام المرابطي دَور قُريش في الدولة الإسلامية الأولى بعد فتح مكّة”، فيما سيلعب عبد الله بن ياسين دور “المرشد الـمُصلِح” بتعبير المؤرِّخ عبد الله العروي في “مجمَل تاريخ المغرب”[4].
استقامت أحوال القَبيلتين الكبيرتين وصارتا قوّتين تربويتين وجهاديتين خاض بهما ابن ياسين حملات عسكرية على القبائل الصّحراوية الـمخالِفة، إلى أنْ تَـمّت له السيطرة على كافّة الربوع الصحراوية؛ فأسَّس بالمجاهدِين والمسلمِين الجدد في الصحّراء حركة “المرابطين”، التي وطّدَ بها عملاً دعوياً منظَّماً هدَف لنشر الإسلام وتصحيح الانحرافات العقدية والسّلوكية، ثمَّ انطلق في دعوته وحَـمْلَـتِهِ شَـمالاً؛ مُعلِّما ومربٍّيا ومُصلحا وموحِّدا سياسيا.
من رباط العِــبادة إلى ترسيخ الوحدة وتوسيع السِّيادة
لقد كان الانطلاق مِن حلقة منقطِعة للعبادة والتعلم والتديُّن، إلى حركة جهاد صغيرة ضدَّ المخالِفين من قبائل صنهاجة، فالتَّوجه من سوس إلى بلاد شنقيط، ومنها إلى صحراء المغرب، فالعودة إلى سوس، ثم الرجوع إلى الصّحراء، والتوجه إلى سجلماسة والاستيلاء عليها سنة 1053م، وصولا إلى نَفيس، بما يُناهِز عشرين عاما مِن الدّعوة والإصلاح والجهاد ومَساعي التوحيد؛ الطوّرَ الأوّل الممتدَّ من محاولة التوحيد والـمَغْرَبة النّاجحة.
ثاني محاولات المرابطين بقيادة ابن ياسين لنشْر الإسلام وتوحيد القبائل؛ كانت في سجلماسة ودرعة اللّتان ضمّهما لدعوته وحركته سنة 445ه-1053م، ثمّ انتقل إلى سوس، فقاوم الشيعة الـبَـجَـلِـيِّـين الذين “كانت ديارهم برُودانة، وبقيت هذه الرافضية إلى قريب من سنة 450 هجرية، حتى غزا ديارهم يوسف بن تاشفين فقاتلهم، ولم يقبل منهم إلا الإسلام من جديد، وبذلك طهّر البلاد من الرافضية، ولو يبق لهم وجود يُذكر”[5]، وضَمَّ القبائِل والتُّراب لنفوذ حركة المرابطين، ومنها اتَّـجَه صوبَ الأطلس الكبير وبلاد تامسنا، وأخْضَع أغمات عاصمة حُكم إمارة مغراوة منتصف القرن الخامس الهجري 1058م لنفوذ المرابِطين.
بعد مَسعى التوحيد السياسي ضدّ التفرقة والتّجزئة السياسية والجغرافية والربط الإستراتيجي بين العمق الصحراوي وشمال المغرب الذي تَمّ بتوفيقِ الله على يد هذا الرجل الـمُصْلح؛ سيُضافُ لهُ مسعى آخَر تكلّل بالنجاح، ويُحسَب في مسيرة ابن ياسين وفي سِجلِّ ابن تاشفين وقادة الدولة المرابطين من بَعده؛ ألا وهو ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب، وإرساء الاختيارات الدينية والمذهبية التي ما يزال المغرب مُستَمْسِكاً بها إلى زمننا هذا، و”إحياء الوحدة الصّنهاجية على أسس جديدة تجمع بين الروحي والمادي”[6].
وقد ساهمت عمليات التوحيد المذهبي – الديني والسياسي “في وحدة الأمّة المغربية من خلال توحيد عقيدتها وشعائرها الدينية ومعاملاتها الدّينية. وهو ما يُفـسِّـر بالتالي القضاء التدريجي على المذاهب الـمعارِضة وتكريس المذهب المالكي، إضافة إلى انقراض الإمارات المسيحية والدين المسيحي بالمغرب، واقتصَرَت فئة غير المسلمين بالخصوص على اليهود الذين عومِـلوا معامَلة أهل الذّمة، وعلى مسيحيي الأندلس حينما توسَّعت الدولة المرابطية في شبه الجزيرة الإيبيرية”[7].
خصائص ومِـيزات في شخصية الإمام ابن ياسين
تميّزت حياة الداعية والمربّي والمجاهد عبد الله بن ياسين بالنبوغ في العلم والشريعة، والذكاء في تبليغ الرسالة وفي منهج التربية، وحُسْن التفاوض مع ضرورات وتقلُّبات الواقع، ولا سيما اعتماده التدرّج في مراحل التربية والتزكية والمرابطة، وبوعْيٍ سياسي مَبْنِيٍّ على إيديولوجية “الوحدة” إنْ جاز التعبير. فالرجل لَم يَرْضَ عن واقِع وحَصيلةِ قُرون مِن الشّتات القَبَلي وعدم الاستقرار السِّياسي وضُعف تطبيق التّعاليم الدِّينية وانتشار الإمارات الحاكِمة في كلِّ منطقة مِن مَناطق البلاد؛ فانتقَل مِن الدعوة إلى الدولة، ومن رِباط التربية إلى ساحة الأداء السياسي، بإعطاء دُفعة معنوية ومادية ومَجالية لحركة الـمرابِطين، قادَها بنفسه، عن طريق التفاوض مع بعض القبائل، واكتِساحِ أخرى بالحملات العسكرية، والقضاء على إمارةٍ هنا وإدماج أخرى من هناك.
ومَرجع هذا كله إلى توفيق الله وإرادته أوّلاً، وإلى مزايا ومؤهِّلات القيادة الدينية والسِّياسية في شخصية الإمام ابن ياسين، المتمثِّلة أساسا في الذكاء والشّجاعة حيث “كان شُجاعا عَظيمَ الاحتمال، مارَس أفضَل الشجاعةِ ألا وهي الصراحة في الحق (..) وفي ميادين القتال”، وكذا “المهابَة والأمانة والحياء والـحِلم والجاذبية الفِطرية والإرادة القوية والصّدق والقدرة على الفهم والاستيعاب والتّوصل إلى القرار الحاسم في الوقت المناسب، والشّعور بمعاني المسؤولية والتّعامل الجيِّد مع طباع الناس”[8].
تَفرَّد ابن ياسين أيضاً بالاستثمار الذّكي للفراغ السياسي “الذي أحْدَثه انسحابُ قوتين إقليميتين مؤثِّرتين في المجال السياسي المغربي وهما العُـبَيْدِيون وأمَويو الأندلس،”[9] وساهمَت تحوّلات المحيط الإقليمي والعالم الإسلامي وضُعف السلطة البيزنطية في الشّرق، وتَرَهُّل الدولة العباسية، وتخبُّط أوربا المسيحية في ظلامها، مما شكَّل قوة دَفعٍ لانطلاق الدّعوة والدّولة المرابطية لقيادة تجربة سياسية وحدوية قوية وعظيمة في غرب البحر الأبيض المتوسّط، عنوانها “مَلحمة الـمرابِطين”، وهي التجربة “الأولى من دُول المغرب ذات الأهمية العالمية”[10].
خاتمة .. استشهاد الشيخ الأكبَر وبقاء الأثَـر
بَعد حياةِ تربيةٍ وجهادٍ؛ وفي أثناءِ قيادته للمرابِطين في حملتهم العسكرية على إمارة برغواطة، ارتقى شَهيداً إلى ربّه في المعركة التي دارت رَحاها سَنة 451ه-1059م، فدُفِنَ بمنطقةٍ كريفلة بين مدينة الرباط الحالية والرّمّاني..، فخلفه الشيخ سليمان بن عدّو، غير أنه قُتِل، كما استُشهِدَ الأمير يحيى بن عمر اللمتوني ليَفْتَح برحيله عهداً آخَرَ لحركة المرابِطين، أجمعوا فيه على تولية الأمير أبي بكر بن عمر الذي توفَّق في حُسن اختيار ابن عمّه يوسف بن تاشفين وإنابته عنه في تَدبير شؤون البلاد ومصالح العباد، وكان بذلك ظهوره الأول على مسرح الأحداث بالمغرب الأقصى، وبالتعاون مع إخوانه وعَصبيته تَمكّنوا مِن تأسيس أوّل دولة قوية مترامية الأطراف مُهابَة الـمكانة في محيطها الإقليمي والإفريقي والإيبيري.
وبذا تحتفظ الذاكرة التاريخية والتاريخ الوطني بمكانة رمزية ومعنوية عالية للإمام القائد المجاهد عبد الله بن ياسين، وتَـحفظَ له إسهامه الكبير في انتشال المغرب من التمزُّقات الدينية والتصدُّعات السياسية، وتُخلِّده عندها في مَصاف العظماء.
المراجع
[1] ابن خلدون عبد الرحمن، كتاب العِـبر وديوان الـمبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، تحقيق الأستاذ درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، طبعة 2011./ ابن أبي زرع علي الفاسي، الأنيس المُطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، الطبعة الأولى، 1972.[2] الناصري أبو العباس أحمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، القسم الأول، الجزء الأول، تحقيق الأستاذَيْن جعفر الناصري ومحمد الناصري، ، دار الكتاب للطباعة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1955، ص 100.
[3] كافي أحمد، الإمام مالك والمذهب المالكي، سلسلة الاختيارات المذهبية المغربية، منشورات حركة التوحيد والإصلاح، مطبعة سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى فبراير 2020.
[4] العروي عبد الله، مجمل تاريخ المغرب، الأعمال الكاملة التاريخية، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2018، ص 274.
[5] (التوراتي) عبد الله، الهوية السنية للمجتمع المغربي عبر أزمانه ودوله، منشورة ضمن: الطائفية وتفكيك الأمة، إعداد وإشراف أبو زيد المقرئ الإدريسي، منشورات مؤسسة الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، فبراير 2016، ص 158.
[6] محمد ياسر الهلالي، مجلة زمان، النسخة العربية، عدد ماي، رقم 100.
[7] غزييل سعيد، الحريات الدينية في النسق القانوني والسياسي المغربي، بين ثوابت الأمة ومتطلّبات التحديث، أطروحة دكتوراه نوقِشت بكلية الحقوق، جامعة عبد المالك السعدي – طنجة، سنة 2016، تحت إشراف الدكتور محمد العمراني بوخبزة، ص 121.
[8] الصلابي علي، تاريخ دولَتي المرابطين والموحّدين في الشمال الإفريقي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة 2009، ص 29 – 42.
[9] جبرون امحمد، المغرب الأقصى؛ من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، منشورات منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، قطر، الطبعة الأولى 2019، ص 184.
[10] العروي عبد الله، مجمل تاريخ المغرب..، مرجع سابق، ص 268.