
المحتويات
مقدمة
يسطع اسم العالم والمجاهد عبد السلام بن مشيش القطب في سماء التصوف بالمغرب وخارجه، بما قدّمه هذا العالم العَلَم من إرشادات سلوكية اهتدى بها المتصوفون في باب تزكية النفوس، كما كان من العلماء العاملين، صداحا بالحق، فجمعت سيرته بين العلم والعمل، والفعل والقول، ليخلّف بمناقبه هذه سيرة حسنة، وذكرا طيّبا، ومكانة هي الأعلى من بين الشخصيات العلمية في شمال المغرب.
نسبه ونشأته
هو أبي محمد سيدي عبد السلام بن مشيش بن أبي بكر بن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام بن مزوار بن علي بن محمد بن إدريس دفين فاس بن إدريس دفين زرهون[1]، ولد بقرية الحصين أسفل جبل العلم التي تقع داخل حدود قبيلة بني عروس الجبلية بين مدينتي تطوان وشفشاون. ولا يعرف تاريخ ميلاده تحديدا، إلا أنه يرجح ما بين 559هـ/1163م و563هـ/1167م. نشأ بقريته ودرس فيها مبادئ العلم، وحفظ القرآن الكريم صغيرا، ويتبيّن من المصادر أنه تردد على ثلّة العلماء في المناطق القريبة من قبيلته على رأسهم سيدي سليم والحاج أمد الملقب أقطران “العسلاني”[2]. وتؤكد هذه المعطيات أمرا هاما بخصوص مسار تكوين عبد السلام بن مشيش، وهو أن “علومه كانت كسبية خلافا لمن يزعم أن علومه كانت وهبية، كما طريقته في المعرفة بالله كانت سلوكية لا جذبية”[3].
ويُستشف من الأقوال والأدعية التي تنسب إلى عبد السلام بن مشيش أنه كان عالما متمكنا من اللغة، والعلوم الشرعية، إلا أن شهرته وأثره كانا في باب التزكية الروحية أكثر منه في الاجتهاد الفقهي، وذلك نابع من حرصه على التربية السلوكية التي أخذ مبادئها عن عبد الرحمن بن الحسن الشريف دفين تارغة، حيث يعرف بفقيه مولاي عبد السلام.
أما فيما يخص حياته الأسرية فيذكر ابن عجيبة أن عبد السلام كان له أربعة أولاد: محمد وأحمد وعبد الصمد وعلال[4]، وتضيف إليهم بعض التراجم أختا تدعى فاطمة، وجميع هؤلاء الأبناء من زوجته خديجة بنت عمه[5].
حياته ومناقبه
عاش بن مشيش في منطقة ريفية نائية، واعتمد على عمله في الفلاحة ليعيل زوجته وأولاده[6]، فضلا عن ذلك امتاز عن غيره منذ بواكير حياته بالإقبال على العبادة والنسك[7]، إلا أنه لم يقم زاوية رسمية، ما دفع بعضهم إلى القول: “إن عبد السلام رضي الله عن له طريق، وليس له طريقة”[8]، ولا جمع حوله أتباعا على طريقة محددة المعالم، حتى أن معظم العلماء والمؤرخين الذين عاصروه لم يشيروا إليه أو يترجموا له، ذلك لأنه كان يعيش في جبل العلم بعيدا عن العمران والقرى فضلا عن المدن والحواضر[9].
وجلّ ما وصل عن الرجل من أخبار كان عن طريق تلميذه أبي الحسن الشاذلي (1258-1196م). يقول ابن الكوهن في كتابه طبقات الشاذلية: “كان علاوة على همته وحاله: عالما فاضلا جليل القدر، لا ينحرف عن جادة الشريعة قيد شعرة، متحمسا للدين، عاملا على نشر فضائله، وهو رجل من آل البيت”[10]، ومن مناقبه أيضا أنه كان “مبتعدا عن الناس، لا يعطي عهودا، ولا يكلّف أورادا، ولا أحزابا، فلم يؤسس طريقة، وإنما كان يرسم في كلّ لحظة من لحظات حياته الطريق، وطريقه هو الطريق الشرعي”[11].
وقد تفرّد الشيخ عبد الحي الكتاني بخبر يفيد أن عبد السلام بن مشيش شارك في الجهاد بسبتة إلى جانب الموحدين[12]، وهو أمر مستبعد لكون سبتة في تلك المرحلة كانت تحت حكم الموحدين، ولم تتعرض لخطر خارجي، اللهم ما كان من صراعات داخلية يأتي على رأسها ثورة ابن أبي الطواجين على الموحدين في بلاد غمارة شمال المغرب.
أقواله المأثورة
تنسب إلى عبد السلام بن مشيش أدعية وأقوال يُلتمس فيها فكر الإقبال على التعبد والزهد في الدنيا، كما تعبّر هذه الأدبيات عن المستوى اللغوي والعلمي الرفيع الذي تميّز به.
أول وأشهر هذه الأدبيات ما يُعرف بـ”الصلاة المشيشية”، وهي جملة من العبارات التي تتضمن الصلاة على الرسول (ص)، بمعاني ومباني فريدة، يقول في مطلعها: “الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صلّي على من منه انشقّت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق، وتنزّلت علوم آدم فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منّا سابق ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مؤنقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة…”[13].
كما تنسب إليه وصايا سلوكية عديدة، كان يوصي بها الناس عامة، وتلميذه أبي الحسن الشاذلي على وجه الخصوص، من بينها: “لا تصحب من يؤثر نفسه فإنه لئيم، ولا من تؤثر نفسك عليه فإنه قل ما يدوم، واصحب من إذا ذكر، ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، وينوب عنه إذا فقد”[14]. ويقول أيضا: “شيئان قلما ينفع معهما كثرة الحسنة: السخط لقضاء الله والظلم لعباد الله، وحسنتان قلما يضر معهما كثرة السيئة: الرضا بقضاء الله والصفح عن عباد الله”[15].
وفاته
خلال المراحل الأخيرة من حياته اختار عبد السلام بن مشيش المقام بالجبل، بعيدا عن القرية والعمران[16]، وظلّ على ذلك حتى توفي شهيدا سنة 622هـ/1225م أو 626هـ/1229م، في جبل العلم، بعد قُتِلَ على يد أتباع ابن أبي الطواجين الكتامي الساحر، الذي ادعى النبوة، وأثار فتنة كبيرة بشمال المغرب[17]، ولا توجد أسباب واضحة لهذا الصراع الذي كان بين الرجلين، وإن ذهبت بعض التأويلات إلى القول بأن ما تسبب في تحريض أبي الطواجين هو رفض عبد السلام بن مشيش لأفكاره وادعاءاته وتحذيره للقبائل من فساد دعوة هذا المتنبي[18].
هكذا انتهت مسيرة هذا الرجل الذي تظافرت الأخبار على صلاحه، وحملت قصته سرّا خفيّا حوّل اسمه لعلم من أعلام الزهد والتعبّد، فأدى دورا مهما في تجديد الشرف الإدريسي بالشمال الغربي يتجاوز حدود حياته، فعبد السلام لم تكتب له الشهرة كقطب صوفي إلا بعد وفاته، ولعل أهم ما تركه من أثر هو تلميذه أبو الحسن الشاذلي (1196-1258م) الذي ضمن له الاستمرار في سنده الصوفي الشاذلي – الجزولي[19].
كما أن شهرة عبد السلام بن مشيش قد عمت المشارق والمغارب، وضريحه من أعظم مزارات المغرب، ولا يخلو هذا الضريح من الزوار والوافدين عليه صيفا وشتاء[20]، حتى عاد هذا الضريح معلمة من معالم التصوف بالعالم.
المراجع
[1] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، دار الأمان، الرباط، 2003، ص، 90.[2] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص، 92.
[3] الطاهر بن عبد السلام اللهيوي، حصن السلام بين يدي أولاد مولاي عبد السلام، دار الثقافة، 1978، ص، 419.
[4] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص، 97.
[5] الطاهر بن عبد السلام اللهيوي، حصن السلام بين يدي أولاد مولاي عبد السلام، مرجع سابق، ص، 304.
[6] الطاهر بن عبد السلام اللهيوي، حصن السلام بين يدي أولاد مولاي عبد السلام، مرجع سابق، ص، 421.
[7] عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن مشيش، دار المعارف، ص، 17.
[8] عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن مشيش، مرجع سابق، ص، 36.
[9] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص، 106.
[10] عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن مشيش، مرجع سابق، ص، 17.
[11] عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن مشيش، مرجع سابق، ص، 36.
[12] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص، 101.
[13] عبد السلام بن مشيش، صلوات ابن مشيش، المخطوط رقم 892، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (المملكة العربية السعودية)، ص، 2.
[14] عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن مشيش، مرجع سابق، ص، 112.
[15] عبد الحليم محمود، القطب الشهيد عبد السلام بن مشيش، مرجع سابق، ص، 114.
[16] الطاهر بن عبد السلام اللهيوي، حصن السلام بين يدي أولاد مولاي عبد السلام، مرجع سابق، ص، 422.
[17] أبو حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري، مرآة المحاسن من أخبار الشيخ ابي المحاسن، منشورات رابطة أبي المحاسن ابن الجد، دراسة وتحقيق الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني، ص، 253.
[18] موسى المودن، ادعاء النبوة في جبال غمارة بين جدلية التواجد وتهويل التناول (أبو الطواجين الكتامي) نمودجا، أوراق نماء (149)، ص، 7.
[19] عمراني محمد، مادة العلمي، معلمة المغرب، ج18، الجمعية المغربية للتألفي والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2003، ص 6137.
[20] عبد الله بن عبد القادر التليدي، المطرب بمشاهير أولياء المغرب، مرجع سابق، ص، 104.