بين يدي التقديم

تعلَّق المغاربة منذ قرون بالمذهب المالكي، فتبرعَم هذا التعلق على مراحل أفنانا ليصبح بعد حين  شعارا من شعارات الدولة المغربية، ورمزا من رموز وحدتها المذهبية الدينية، وقد ساعد على هذا التعلق ما اشتهر به المذهب من خصائص وميزات، تجلّت في سعة أصوله وشمولية قواعده، التي سعى فقهاء المذهب ورجالاته إلى العمل عليها والتصنيف فيها، لتكون النتيجة تراثا فقهيا لا حد لثرائه، ولا منتهى لغناه.

وقد ساهم فقهاء المغرب عبر العصور في ترسيخ أركان المذهب، وتعزيز مكانته من خلال عمليّتيْن اثنتيْن: التدريس والتصنيف، أما التدريس فقد ساهم في إنجاحه أساسا: جامع القرويين، والمدارس العتيقة، وجلّ المساجد. وأما التصنيف، فكانت حصيلته أشكالا متنوعة، منها: الأمهات، والموسوعات، والمختصرات، والشروح، والحواشي، والطرر والتقاييد، وكتب الأحكام، وكتب الفتاوى والنوازل، والمنظومات والأراجيز الفقهية…، وهي أعمال شكلت جميعها حركة تأليف رائدة أغنت المذهب بتراث هائل من الكتب والمصنفات تفاوتت حجما وقدرا، عملت جميعها على تبيين مسائله وأصوله وضوابطه.

وهكذا استتب أمر هذا المذهب ، بعد أن صار اختيارا أجمعت عليه إرادتان: إرادة السلطة، وإرادة مؤسسة العلماء الذين كانت أقوالهم وفتاواهم حافزا على بعث الثقة في المذهب، والحفز على الالتزام والاستمساك به، ويكفي أن نسوق هنا مقالة القاضي عياض الشهيرة: “وقـد نظرنا طويلاً في أخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا، فلم نر مذهبا من المذاهب غيره ألمّ منه… فالاستمساك به نجاة”[1].

والمتتبع لهذا التراث يبهره تنوعه وغناه، إذ لم يترك قضية من قضايا الناس في الدين والدنيا إلا لامسها، وكان له الرأي الحصيف فيها؛ فضلا عن التفنن في منهج العرض، والإبداع في سبل التناول. و”كتاب الخصال” واحد من درر التصنيف في الفقه المالكي في الغرب الإسلامي، وهو لأبي بكر محمد بن يبقى بن زرب القاضي القرطبي المالكي أحد صدور الفقهاء بالأندلس “ضمنه حصيلته الفقهية، واجتهاداته القضائية، فجاء جامعا لضروب الجودة، مستوفيا لأسباب القبول”[2].

التعريف بالقاضي ابن زرب

الفقيه القاضي أبو بكر بن يبقى بن زرب القرطبي، شيخ المالكية في وقته، ولد في شهر رمضان المعظم سنة 319ه، لُقب بابن القاسم لسعة علمه وورعه، قال الحسن بن محمد: “وكان أحفظ أهل زمانه للفقه على مذهب مالك وأصحابه، حليما، محتملا، صبورا، نفاعا لمن علق بحبله، جميل المنظر، سهل الخلق، حسن الصورة، طيب الرائحة، نظيف الملبس والمركب والطعام والفاكهة، سمحا صليبا في ذات الله، لم يحفظ عنه أنه قرع أحدا بسوط مدة قضائه، لا تأخذه في الله لومة لائم، تولى خطة القضاء وبقي فيها إلى أن توفاه الله سنة 381ه، وحمل علمه ثلة من خيرة العلماء، وترك إرثا علميا انتشر في مسائله وأجوبته وفتاواه …”[3].

تقديم الكتاب

الكتاب في سفر واحد من 370 صفحة، صدر ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 2005 عن مطبعة فضالة بالمحمدية، قدّمه واعتنى بنصه وعلّق على حواشيه الدكتور عبد الحميد العلمي، مع تقديم مقتضب لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق.

والكتاب واحد من مؤلفات كثيرة عنونت بالخصال، وإن اختلفت مواضيعها بين فقه وحديث وعقائد… وقد حلّى صاحب الديباج المذهّب “كتابَ الخصال” عند حديثه عن ابن زرب فقال: “ألف كتاب الخصال في الفقه مشهور على مذهب مالك، عارض به كتاب الخصال لابن كاديس الحنفي، فجاء غاية في الإتقان”[4] وقد نقل عنه بعض أعلام المالكية ممن جاؤوا بعده، منهم: القرافي في ذخيرته، والمواق في التاج والإكليل، والحطاب في مواهب الجليل، وغيرهم.

في معنى الخصال:

الخصال مفرده خصلة، ويراد بها معاني منها: الفضيلة والرذيلة تكون في الإنسان، إلا أن دلالته على الفضيلة أعلى. كما تطلق على الخلة والحالة والشعبة والفطرة. واستوعبت في استعمال ابن زرب المعاني الموضوعة لها، إلا أن توارد الأبواب وتزاحم التراجم استدعى تنوع دلالاتها، ومن ذلك:

  • استعمالها في ترجمة الكتب الفقهية كقوله: كتاب الوصايا ثلاث خصال.
  • استعمالها بمعنى الحكم من حيث حجيته ومستنده كقوله: الحكم خصلتان.
  • استعماله بمعنى الحكم الدال على الفرض كقوله: وفرض الوضوء أربع خصال.
  • استعماله بمعنى الركن كقوله: النكاح ثلاث خصال.
  • استعماله بمعنى الواجب الذي يجبر بالدم كقوله: خصال إذا تركها المحرِم تم حجه، وعليه دم…
مواضيع الكتاب:

إن افتقار الكتاب إلى الخطبة، ضيّع فرصة الاطلاع على سبب التأليف ومنهج عمل المؤلف فيه، ولأن موضوعات الكتاب من مرويات ابن زرب، فقد ارتأى الدكتور عبد الحميد العلمي “عرض الموضوعات كما وردت في تراجمها الكلية، المنتظمة في كتبها الفقهية” دون الوقوف عند الأبواب الفرعية، “لأنها في الكتاب من قبيل المسائل الجزئية”. وقد بلغ مجموع الكتب التي ضمنها ابن زرب مؤلفه الخصال نحو ستين كتابا فقهيا، أولها الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والاعتكاف والحج، وآخرها، الغصب والسرقة والمحاربين والحدود والديات.

قيمة الكتاب:

سبقت الإشارة إلى ثناء ابن فرحون على كتاب الخصال بقوله: (…فجاء غاية في الإتقان) وهو بتعبير الدكتور العلمي “مدونة جامعة لفروع المذهب، مستقصية لأقواله ورواياته. حيث لم يكتف القاضي في مجموعه بنقل المحفوظ، واختصار المبسوط، وإنما سلك فيه: ردّ الفروع الجزئية إلى تراجمها الفقهية، وعمل على حصر ما تناثر من تلك الفروع، في أصول عديدة، الشيء الذي أهّل كتاب الخصال مكانة الحضور في مؤلفات السادة المالكية”.

ومما يمكن استنباطه على مستوى المنهج، أن صاحب الكتاب اكتفى بإيراد أحكام العبادات والمعاملات، واقتصر على المشهور من أقوال السادة المالكية دون أن يخوض في اختلافاتهم، أو يرجّح بين آرائهم، فأورد مرارا أقوال ابن نافع، وابن القاسم، وعلي بن زياد، وأشهب، وابن عبد الحكم، وابن الماجشون، وآخرين. كما حرص على أن يعزّز رأيه – عند الحاجة – بأدلة شرعية من القرآن الكريم أو السنة النبوية، ليبني عليها ما قرره من المسائل الفقهية كقوله: “وفرض الوضوء أربع خصال، قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ) [ المائدة الآية 7]”، وقوله في منع الضرر: “والنبي ﷺ قال: لا ضرر ولا ضرار” [رواه ابن ماجه وأحمد]. هذا وقد شبه عدد من الدارسين الكتاب برسالة أبي زيد القيرواني ومختصر الطليطلي في منهجه واختصاره.

على سبيل الختم

إن الغرض من تقديم كتاب الخصال لابن زرب، إنما كان بغرض الإشارة – ولو على عجل– إلى صورة من صوَر موقع المذهب المالكي في حياة المغاربة، وغنى التراث الفقهي المالكي وتنوعه، هذا التراث الذي كان ومازال وسيبقى مفخرة من مفاخر المغرب. ولعل من شأن التعريف بهذا التراث ونشر ذخائره والتعريف بأعلامه، لفت نظر إلى مذهب تحوّل عبر قرون إلى مدرسة ساهمت في تنشئة أجيال هذا الوطن، وبناء شخصيتهم الدينية بكل أبعادها ومميزاتها.

المراجع
[1]  القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، ج 1 – ص 22.
[2]  أبو بكر بن يبقى بن زرب القرطبي، كتاب الخصال، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2005، مطبعة فضالة، المحمدية –المغرب، ص 13.
[3]  أبو بكر بن يبقى بن زرب القرطبي، كتاب الخصال، مرجع سابق، ص 4  وما بعدها بتصرف.
[4]  ابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، 1 / 268.