
المحتويات
توطئة
احتفظتْ مؤلفاتُ فخر الدين الرازي بتدرجاتٍ فكريّة مستْ بنيةَ فكره الاستدلالي من جهة؛ وبنيةَ القضايا المعالجة من جهة ثانية؛ حيثُ يلاحظُ، تطوراتٌ في فكره الكلامي ومواقفِه الفلسفيّة؛ كانَت نتيجة تفاعل عدّة موجِّهات ومؤثّراتٍ فلسفية ومنطقية وكلامية، بعضها يعود إلى معتزلةِ القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي؛ إذ غذّت هذه التقاليد الفِكريّة كلها نظرياتِ الرازي العقديّة والأنطولوجيّة، والأخلاقيّة.
وبتفحّصٍ سريعٍ لكتابِه: الإشارة في علم الكلام (ألف قبل: 579 هـ/1184م) يمكن للمرءِ أنْ يتلمسَ صورة الرازي الأولى، الصورة التي بدا فيها الرجلُ ’’أشعريًّا تقليديّا‘‘ على نحو كبيرٍ، ليس فقط بوسمه الشيخَ الأشعريّ بـ:«شيخُنا أبو الحسن».
ولكن ببناءِ الكتابِ وتنسيقه العام، إضافةً إلى تبنيه للآراء الأساسية، والتقليدية في الفكر الأشعريّ، والتي كانت مغايرةً إلى حد بعيدٍ للمنزع العقدي الفلسفي ’’العقلاني‘‘؛ وهي الآراءُ التِي لم يدقق الرازي النظرَ فيها بعدُ، حينئذٍ، كما في أعماله اللاحقة. ويمكن أنْ نسجل موافقة الرازي للأشعري في «كيفية تَرتّب العلم على النظر»؛ إذ يصحح كونَ النتيجةِ بعد سبقِ النظر حاصِلةً «بمجرى العادةِ» دون أن تكون ثمة ’’حتمية‘‘ بينهما مؤيّدا مذهب الأشاعرة ’’الظرفي”.
ويأتي كتاب “فخر الدين الرازي واستئناف القول الأشعري في العلية” لمحمد الصادق الصادر عن عقول للنشر والتوزيع بشراكة مع مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات، الذي يقع في 388 صفحة، ليقف بالتحليل والمناقشة، عند محاولة فخر الدين الرازي استئناف القول الأشعري في السببية والذي انتهى مع المتكلمين المتقدمين إلى إنكار الأسباب الطبيعية. هذا الاستئناف أفضى مع الرازي إلى الانفتاح على نظرية السببية للفلاسفة، ومفهوم التولد الاعتزالي، ونظرية الأحوال الأشعرية الاعتزالية، فأنتج أكبر تنظير من نوعه في هذه المسألة إلى حدود عصره.
مضامين الكتاب
إن السمة العامة لعلم الكلام الأشعري هي إثبات الفاعلية وإنكار العلية. أي إنكار القانون الذي تلزم عنه عدة مقتضيات، أهمها الإقرار بالتلازم بين العلة والمعلول، ومنع تأخرها عنه في الزمان، وتجريد العملة من القصد والاختيار واعتبارها فاعلة على سبيل الوجوب، والقول بصدور الآثار عنها على اللزوم؛ هذا مع الامتناع عن إسناد كل الموجودات إلى علة واحدة ووحيدة، وبالتالي القول بتعدد أجناس العلل بين عالمية وصورية وفاعلة وغائية. (مقدمة الكتاب، ص: 9/ 10)
ولا يختلف المعتزلة عن الأشاعرة من حيث موقفهم العام من قانون السببية كما عرض الفلاسفة مقتضياته؛ حيث أكدوا بدورهم على رد كل المخلوقات إلى الخالق، ولم ينسبوا لغيره من الكائنات الطبيعية فاعلية حقيقية، فلا نجد لديهم إقرارا بالقوى الطبيعية أو الهيولى أو العقول والنفوس الفلكية. وهكذا قاربوا السببية من زاوية الفاعلية وشددوا على التوحيد لدرجة إنكار الصفات الزائدة على الذات. غير أن مذهبهم في العدل أفضى بهم إلى مقتضيات مخالفة لمقتضيات التوحيد، فنسبوا أفعال العباد إليهم، وجعلوا الإنسان فاعلا مستقلا لما يصدر عنه مباشرة أو بالوساطة والتولد.
وسيشهد الكلام المتأخر مع فخر الدين الرازي (ت. 606 هـ / 1210م) مرحلة مهمة في تحولات مفهوم السببية، وسيجتهد المؤلف في محاورة ومساءلة هذه الرؤية الرازية ويقف مع أكبر وأعمق حوار من قبل علم الكلام تجاه المنظور الفلسفي للسببية؛ وهو منظور كان يقدم نفسه باعتباره تجسيدا لأحد مبادئ العقل الأساسية التي يقوم عليها التفسير العلمي للموجودات.
وعلى ضوء النقاش الكلامي والفلسفي السابق، وجد الرازي نفسه أمام المفارقة التالية: إما الوفاء لقوانين هذا المبدأ في صيغته الفلسفية، مع ما يلزم عنه من مقتضيات مذهبية مخالفة لثوابت الأشاعرة خاصة والمتكلمين عامة، خصوصا إدخال القوى الطبيعية والنفوس الفلكية والعقول المفارقة كقوى فاعلة في الطبيعة، جنبا إلى جنب مع الفاعلية الإلهية، وهذا هو الحال مع أغلب فلاسفة الإسلام؛ أو إنكار هذا المبدأ انتصارا للعقائد، وهذا الاختيار بدوره لا يسلم من مخاطر، لأنه قد يُظهر علم الكلام في تناف مع الرهان الذي لأجله قام، ألا وهو نصرة العقائد بالأدلة العقلية الصحيحة كما تقررها العقول السليمة، ومن شأن ذلك أن يقدم أصول العقائد كما لو أنها في تناف مع صحيح المعقول.
وقد تحدث الرازي عن العلية في كتبه المختلفة، الفلسفية والكلامية والأصولية والجدلية، وبطريقة يغلب عليها أحيانا كثيرة الأسلوب النقدي الجدلي، وربطها بمواضيع مختلفة مثل ذات الله وصفاته وفاعليته في العالم، وتطور تفكيره فيها عبر مراحل حياته الفكرية.
ففى المرحلة الأولى من حياته الفكرية لم يخصص للعلمية فصلا مستقلا داخل كتاب “الإشارة في علم الكلام”، وذلك يعود ربما إما إلى طبيعة الكتاب المختصرة، أو لمنهجية تأليفه التي سار فيها على منهج متقدمى المتكلمين، حيث لم يقدم على خليط كبير بين الكلام والفلسفة ولم يخصص مباحث مستقلة للأمور العامة كما سيفعل في كتبه اللاحقة؛ فاكتفى بتخصيص فصلی مختصرين للعلم والنظر.
وفي المرحلة الموالية عرض لها باقتضاب في “الرسالة الكمالية في الحقائق الإلهية”، وبتفصيل وتدقيق في “المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات”، حيث خصص لها ما يزيد على المائة صفحة، مستلهما في عرضه الروح السينوية، لدرجة أن كلامه قد يلتبس أحيانا على القارىء. إن كان يتعلق بعرض لموقف الشيخ أم لموقفه الخاص؛ لكن دون أن يمنعه هذا العرض من توجيه انتقادات عميقة للشيخ الرئيس. (مقدمة الكتاب، ص: 14)
وفي شروحه على كتب ابن سينا (ت. 428 هـ / 1037م) مثل شرح “الإشارات والتنبيهات” وشرح “عيون الحكمة” سيميل أكثر إلى عرض تصور المشائين عامة وابن سينا خاصة، مع إضافة بعض التعليقات النقدية أحيانا، دون الإفصاح عن موقفه النهائي،… وفي “الكاشف عن أصول الدلائل ” و”فصول العلل والمحصول في علم أصول الفقه”، فميز في العلة بين عقلية وشرعية وعادية.
والسؤال الذي ينتصب أمام المؤلف هو كيف جمع هذه المتقابلات في مذهب واحد؟ وإلى أي حد حافظ على البروج الفلسفية في مسألة العلية؟ وما نوعية التعديلات التي أدخلها على الإرث الفلسفى في هذا المفهوم حتى ينسجم مع مذهبه الكلاسيكي الأشعرى، خصوصا وأن الأشاعرة يرفضون العلية جملة عند البن في الموجودات، ويثبتون الفاعل المختار؟ وباختصار هل اعتمد أم منطق الفاعل المختار؟ وباختصار، هل اعتمد في بناء نسقه الفكري الكلامي والفلسفي على منطق العلمية الموجبة أم منطق الفاعل المختار؟
وللإجابة عن التساؤلات ومحاولة مقاربة إشكال الكتاب عمل المؤلف على استحضار المتن بأكمله، وتحليل النصوص والإشارات التي تكلم فيها الرازي في العلية، مع الجمع بين المنظورين الكلامي والفلسفي الذين اعتمدهما طوال مساره الفكري؛ وذلك لأجل الخروج بتصور تركيبي ومتكامل لمنظوره للعلية في المعقولات، وهذا هو موضوع الكتاب، هذا، دون الفقهيات بطبيعة الحال.
وقد خصص المؤلف لكل مبحث من مباحث هذا المفهوم فصلا مستقلا، فجاءت محاور الكتاب على الشكل الآتي: الفصل الأول عنونه بـ”العلية ومكانتها من علم الكلام والفلسفة”، وعنون الفصل الثاني بـ: “العلة الفاعلة”، أما الفصل الثالث فكان تحت عنوان: “وجود وفاعلية العلتين المادية والصورية”، فيما أعطى للفصل الرابع عنوان: “العلة الغائية: وجودها واستقلاليتها”، كما عنون الفصل الخامس بـ : “العلاقة بين العلة والمعلول بين الضرورة والعادة”، أما الفصل السادس فحمل عنوان: “نظرية الفيض: مقاربة نقدية”.
خاتمة
لقد اتسم الإطار العام لنقاش الرازي لمفهوم العلة والمعلول بطابع نقدي جدلي؛ حيث رفض إثبات الفاعلية المستقلة لكل الموجودات عدا الفاعل المختار تعالى، فأنكر صراحة القوى الطبيعية وشكك في وجود وفاعلية العقول والنفوس الفلكية ورفض بشدة نظرية الفيض وقانونها الأساس القائم على الوساطة بين الله وباقي المخلوقات، وعلى امتناع صدور الموجودات كلها عنه مباشرة من غير وساطة العقول والنفوس الفلكية.
ورغم هذا الانحياز إلى الأشاعرة، خصوصا على مستوى تجريد الأسباب من الفاعلية الذاتية، فإنه ظل حريصا على السببية كقانون عقلي لفهم كيفية انتظام الموجودات وحدوثها، مؤكدا على علاقة الضرورة بين الأسباب والمسببات، ومتساهلا مع المعجم الفلسفي في هذا المجال.
كما ثمن الرازي المسار الذي سار فيه ابن سينا الذي عدل فاعلية العلة، من اعتبارها مجرد سبب لحركة الأشياء الموجودة مسبقا كما كان الشأن مع أرسطو، إلى اعتبارها مصدرا لوجودها بعد عدمها؛ وسلم بالأساس الذي أقام عليه ابن سينا تعريفه للعلية، بأنها ترشد إلى ما يحتاج إليه الشيء في وجوده أو ماهيته؛ وأخرج، معتمدا أصول الفلسفة السينوية ذاتها، المادة والصورة والقوى الطبيعية من دائرة العلية، بأن رفض التصور المشائي للهيولى والصورة، ثم حول المادة بعوارضها إلى مجرد شروط الفاعلية الفاعل، وليست عللا مستقلة عنه؛ كل هذا أقدم عليه غير مبال بالخلاف اللفظي. وأعاد صياغة مفهوم العلية ذاته ليصير هو الشيء التي يوجد غيره، لا الشيء الذي عند وجوده يوجد غيره،… ولما كان الفاعل لا بد أن يكون قاصدا في ما يفعل، وجب أن يكون منبع فاعليته هي ذاته مع صفاته. فلا فاعلية إذن إلا للذوات العالمية والمريدة، التي تنحصر عنده في الإله والإنسان وسائر الموجودات الروحانية، وفاعلة الموجودات الروحانية تقف عند حد الكسب، أما فاعلية الإيجاد فهي امتياز الواجب الوجود وحده. ولما كان واجب الوجود فاعلا مختارا خالقا للوجود والماهية لم يكن للقواعد التي بنيت عليها نظرية الفيض من معنى.
لقد تتبع المؤلف محاولة الرازي التوفيق بين الموقف الأشعري الذي يرد كل الآثار إلى فاعل وحيد، والفكر الفلسفي الذي يعتبر السببية أساس كل عقلانية علمية وتساءل عن حدود نجاحها.