بين يدي التقديم

حق للأمم أن تفخر برجالاتها الذين بصموا تاريخها، وحازت أعمالهم ومواقفهم تقديرا عاليا، بعد أن تخطت أسماؤهم حدود الوطن. هؤلاء يجب أن تكتب سيرهم، وتلقن للأجيال وفاء لعطائهم، واعترافا بتميّزهم. فالعظماء المتميزون قليل، ومن شأن تكريمهم أحياء وأمواتا، أن تنقش أسماؤهم في عقول الناشئة، ويفهموا: “متى يكبر الوطن برجاله ومتى يصغر بهم”، وينشّأوا على أن وطنهم يجب أن يظل كبيرا في عيونهم، كبيرا في عيون الآخرين، وأن بإمكان كل واحد منهم أن يسهم بعطائه على غرار من سبقوهم. وليس المفكر الدكتور المهدي بن عبود إلا واحدا منهم.

تقديم صاحب الكتاب

الطبيب والمفكر والدبلوماسي والوطني الأستاذ الدكتور المهدي بنعبود بن الشيخ محمد بن عبد السلام المكناسي الأصل، السلاوي المولد والمنشأ، من مواليد مدينة سلا سنة 1919م، في بيت علم ودين وصلاح، فوالده شيخ التربية في وقته الصوفي سيدي محمد بن عبود المتوفى سنة 1344هـ ودفين زاوية حومة بورمادة بسلا. وأخوه الأكبر زين العابدين بنعبود – السلاوي المولد والمنشأ، البيضاوي الموطن – من العلماء الأجلاء.

نشأ المهدي يتيما فوالده توفي وعمره سبع سنوات، فاعتنت به والدته وأخوه زين العابدين. تلقى المهدي تعليمه بجميع مراحله بمسقط رأسه بامتياز ملفت. وبعد حصوله على البكالوريا، التحق بالسنة التمهيدية للطب سنة 1940م، ثم سافر إلى فرنسا لمتابعة تعليمه العالي بجامعة مونبولييه، ثم ارتحل إلى باريس سنة 1945م للتدرب على الجراحة، ثم تخصص في الأمراض الجلدية والتناسلية. وفي سنة 1950م حصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس، وعاد إلى المغرب، وفتح عيادته الطبية بمدينة الدار البيضاء.

انخرط المهدي بنعبود مبكرا في العمل الوطني منذ 1944م، وساهم في النضال من أجل استقلال المغرب وشمال أفريقيا. وفي سنة 1951م سافر إلى الولايات المتحدة وساهم في فتح مكتب للدفاع عن القضية المغربية، وبعد استقلال المغرب سنة (1956م) عينه الملك محمد الخامس سفيرا للملكة المغربية بالولايات المتحدة الأمريكية، وبقي هناك إلى حدود سنة 1962م حيث تمت إقالته وعاد إلى المغرب لمزاولة مهنة الطب بمدينته سلا. وفي سنة 1966م عين أستاذًا بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، حيث درًس مادة علم النفس المرضي، ومادة المذاهب الفكرية المعاصرة، ومادة العقيدة الإسلامية.

للمهدي بنعبود  أعمال مطبوعة منها: رصد الخاطر أفكار ونظريات وخواطر في 3 أجزاء – أيها الجيل الصاعد: رواية فلسفية – ديوان العصر والنصر  – الواردات: حكم وأمثال – متفرقات (أحاديث صحفية وإذاعية).

توفي رحمه الله يوم 12 يونيو 1999 م، الموافق 27 من شعبان سنة 1420ه .

تقديم الكتاب

صدر الكتاب عن مطابع امبريال – الرباط في طبعته الأولى سنة 2005م، ضمن سلسلة “الأعمال الكاملة للدكتور المهدي بنعبود” التي سهر على جمعها وترتيبها ومراجعتها الدكتور محمد الدّماغ الرحالي. والكتاب في سفر واحد من 353 صفحة، توزعت على ما يلي”:

  • إيحاءات من وحي الذاكرة: وهي شهادة في حق المهدي بنعبود بقلم الدكتور عبد الكريم الخطيب.
  • شذرات من التاريخ: وهي ترجمة وافية كتبها الدكتور محمد الدماغ الرحالي، جمع فيها ما عرف من خصال وأخلاق ومواقف وسجايا وتضحيات، بدأها بفضل المهدي بنعبود عليه أستاذا ومربيا، ثم قدّم ترجمة وافية تعرّف بالمهدي التلميذ النابغة والطالب المتفوق، والمهدي الوطني المناضل المطارد، والمهدي السفير، والمهدي الطبيب، والمهدي الداعية.
  • مشاهد وصور: ويضم 32 صورة توثق لعدد من الأنشطة والأحداث الوازنة في حياة الدكتور المهدي بنعبود، بدءا بسنة 1940م وهو تلميذ بثانوية كورو.
  • الأعمال الكاملة للدكتور المهدي بنعبود وهي من ثلاث مجموعات:
    1. المجموعة الأولى: خواطر وأفكار حول أزمة الحضارة المعاصرة، وعددها سبع خواطر، أولها بعنوان: أسباب ومظاهر تدهور الحضارات، والباقي له صلة بالتحولات التي تعيشها الحضارة الغربية اليوم، مع حفر في قضايا تخبر بتراجع التيارات الفكرية والعقائدية المعاصرة، كل ذلك بأسلوب شيق أخاذ ونفَس فلسفي فكري يدل على عبقرية الرجل وتميزه.
    2. المجموعة الثانية: خواطر حول الصراع العقائدي في الوجود، وهي من ست خواطر، فيها تشخيص رزين لواقع ملتهب تعمه المجابهة بين الحق والباطل والخير والشر والجمال والقبح والصواب والخطأ، مبرزا أن الحكمة في هذا الصراع أنه “وسيلة للتدافع بين طرفين موجب وسالب قصد الإصلاح والمنفعة” ثم يحلل أسس وأسباب صراع العقائد، ويفضح الغزو الفكري، ويستشرف عقيدة المستقبل التي لا يمكن إلا أن تكون قائمة على قاعدتين هما: الإيمان والعقل.
    3. المجموعة الثالثة: خواطر حول التطلع إلى مستقبل الإنسانية، وهي من اثنتي عشرة خاطرة، كتبت برؤية استشرافية، يمهد لها بالحديث عن أزمة الحضارة المعاصرة وضرورة الاعتقاد، ليجعل من العقيدة الإسلامية عقيدة المستقبل، محذرا من خصوم العقيدة الإسلامية، فاضحا وسائلهم وخططهم لمحاربتها.

على سبيل الختم

لقد رزق المغرب بقامات علمية وفكرية جاءت في موعد أشدّ ما يكون في حاجة إليها، فكان منتصف القرن العشرين فترة مضيئة زاهية، تضافرت فيها جهود علماء ومفكرين وسياسيين أخذوا على عاتقهم مستقبل البلاد بعد الاستقلال، فكانت كتاباتهم مشاريع “إصلاحية” تتلمس سبل النهوض بمغرب خرج على التو من معركة التحرير مهيض الجناح، لكنه تواق إلى مغرب المؤسسات، مغرب الحرية، مغرب الأصالة، ولكن!!