توطئة

قبل 48 سنة، وبالتحديد في 16 أكتوبر من سنة 1975، أعلن الراحل الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، التي مازالت تحظى بمصداقية كبيرة في الوجدان المغربي، بحيث تمثل ذاكرة الأجداد الذين ذهبوا في مسيرات سلمية وحضارية ليساهموا في مسار استكمال الوحدة الترابيّة وتطهير الأقاليم الجنوبيّة من بقايا الاستعمار.

قبل خوض المسيرة عمليا في 6 نونبر 1975 تم الإعلان قبلها بشهر ونصف، لتكون الثّمرة لاحقا مشاركة 350 ألف مواطن مغربي ومغربية متطوعين لخوض رحلة تحرير الصحراء المغربية، بحيث تجاوزوا “الخطوط الحدوديّة” المصطنعة التي كانت تفصل المغرب عن صحرائه؛ فبعد حصول البلد على الاستقلال، أكد عام 1958 على مغربية الأقاليم الصحراوية، وطالب بضرورة تصفية الاستعمار في هذه المنطقة.

إن مما أثار انتباه الدكتور الفقيد إدريس الكتاني إلى المسيرة الخضراء قصة رشيد نيني في جريدة «المساء» التي نشرها صباح يوم الأربعاء 2007/11/7 تحت عنوان: “موروس وكريستيانوس، عن احتفالات الاسبان الصاخبة والراقصة في الأسبوع الأخير من شهر غشت كل سنة بمناسبة طرد آخر من بقي من المسلمين في إسبانيا من طرف المسحيين”.

إنها قصة رشيد نيني الذي تابع هذه الاحتفالات في محافظة أليكانتي (اسمها العربي القنت) طيلة ثلاث سنوات كمهاجر سري بدون أية وثائق، والتي تروي باعتزاز وفخر تاريخ أجداده الذين حكموا هذه البلاد طيلة ثمانية قرون وأقاموا فيها حضارة تعتبر أم الحضارة الغربية، لا يزال سكانها الموريسكيون حتى اليوم، يفتخرون بدمائهم العربية، إنها نفس الأرض التي جئت لأعمل عند أصحابها. (الكتاب ص 5)

تقديم الكاتب

هو إدريس بن الإمام الحافظ سيّدي محمّد بن جعفر بن إدريس الكتّانيّ الإدريسيّ الحسنيّ الدّمشقيّ مولدًا، ثمّ الفاسيّ، ثمّ الرّباطيّ دارًا وقرارًا. ولد بدمشق عام 1922م. وتلقّى بفاس تعليمه الابتدائي في المدارس الوطنيّة الحرّة التي أسسها رجال الحركة الوطنيّة كرد فعل ضدّ المدارس الفرنسيّة، وانتقل إلى التّعليم الثّانويّ. ثمّ التحق بالتعليم العالي بجامعة القرويّين بفاس، وحصل منها على دبلوم الدّراسات العليا في العلوم الإسلاميّة بتفوّق، ويعادل يومئذ شهادة الدّكتوراه.
درس اللّغة والحضارة الغربيّة بفرنسا، ثمّ دخل مدرسة العلوم السّياسيّة والاجتماعيّة بجامعة لوزان. وتابع تخصّصه بكلّيّة العلوم الاجتماعيّة بجامعة لافال بمدينة كبك بكندا؛ فحصل منها على بكالوريوس العلوم الاجتماعيّة سنة 1960م. وتابع تخصّصه في الانثربولوجيّة الاجتماعيّة وعلم الإجرام، وحصل على دبلوم الدّراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة مع شهادة تخصّص في المادّتين. ثمّ حصل على الدّكتوراه في العلوم الاجتماعيّة من جامعة القاهرة.

العلامة  إدريس الكتاني، عالم دين انخرط منذ السنوات الأولى لاستقلال المغرب بفعالية دينية وسياسية وأكاديمية في المجال العمومي، إذ يعدّ من المؤسسين الأوائل لرابطة علماء المغرب، وأول رئيس لفرعها الاقليمي بمدينتي الرباط وسلا، كما كان عضوا بالمكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال، وبعد اعتزاله للعمل الحزبي في الستينيات من القرن العشرين بسبب ما اعتبره انحرافا للحزب عن القيم الإسلامية، تفرغ للعمل الفكري والثقافي من خلال ترؤسه لنادي الفكر الإسلامي بالرباط منذ تأسيسه سنة 1980.

اشتهر ادريس الكتاني على المستوى الأكاديمي بتدريسه للعلوم الاجتماعية والحضارة الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وبإصداراته المتنوعة المهتمة أساسا بالفكر الإسلامي، والدفاع عن اللغة العربية، ونقد النفوذ اللغوي والاقتصادي الفرنكوفوني بالمغرب، ومن أبرز مؤلفاته نذكر:

  • المغرب المسلم في مواجهة اللادينية (1958).
  • استراتيجية الدفاع عن الأمن الإسلامي من خلال أربعين حديثا نبويا، (1997).
  • التفسير الإسلامي لسقوط العالم العربي المعاصر، (1999).
  • ثمانون عاما من الحرب الفرنكوفونية ضد الإسلام واللغة العربية، (2000).

كما سبق للراحل الكتاني سنة 1989 أن أعاد طبع ونشر رسالة والده الشيخ محمد بن جعفر الكتاني للسلطان عبد العزيز المؤرخة سنة 1908، والموسومة بـ”نصيحة أهل الإسلام بما يدفع عنهم داء الكفرة اللئام”.

وعلى الرغم من مرضه وتقدمه في السن أصدر سنة 2009 خمسة إصدارات وثائقية تضمنت في حيز هامّ منها أرشيفه الشخصي ومذكرات من حياته الحافلة بالعطاء. و قد عكست هذه المذكرات من عناوينها طبيعة المعارك الفكرية والإعلامية التي خاضها طيلة مساره الحركي كعالم للشريعة، من قبيل قضايا: تعريب التعليم والتطرف اللاديني والازدواجية اللغوية في المغرب، ورسالة استقالته من قيادة رابطة علماء المغرب، ورفضه لحضور وزير الأوقاف والشؤون الدينية الكويتية في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بزعامة الشيخ يوسف القرضاوي.

وفي سنة 2001 تزعم الراحل الكتاني ثلة من العلماء والفاعلين الدينيين في إصدار الفتوى الشهيرة “حول عدم جواز دخول المغرب في حلف التي دعت إليه أمريكا ضد الإرهاب، وبحرمة صلاة أي مسلم في كنيسة نصرانية أو بيعة يهودية بممارسة طقوسها الدينية”، في معارضة فقهية لحضور وفد رسمي يمثل الدولة المغربية في القداس الذي نظمته كاتدرائية “سان بيير” بالرباط يوم 16 شتنبر سنة2001 تضامنا مع ضحايا أحداث 11 شتنبر بالولايات المتحدة الأمريكية.

مضامين الكتاب

كتاب “المسيرة الخضراء تاريخ ملحمة مغربية لم يكتب” للدكتور إدريس الكتاني، من الحجم الصغير يقع في 109 صفحة صدر عن منشورات نادي الفكر الإسلامي بالرباط سنة 2009م، وهو الملف الثالث من ملفات وثائقية في تاريخ المغرب العربي الإسلامي المعاصر. والكتاب في مجمله مجموعة مقالات، بعضها لإدريس الكتاني وأخرى للدكتور عثمان إسماعيل. تضمن بعد التقديم في الذكرى العشرين لاستقلال المغرب، المسيرة الخضراء طليعة تحرير الصحراء المغربية، خصائص ظاهرة الاستمرار في المجتمع الإسلامي من خلال المسيرة الخضراء ، تجاوب العالم العربي والإسلامي وتأييده القوى للمسيرة الخضراء في عناوين موجزة، لائحة الشرف بعدد المشاركين في المسيرة الخضراء وتجمعاتهم وتجهيزاتهم وخدماتهم، ثأر قديم بين مسلمي الصحراء ونصارى الإسبان، العبور الأكبر للشاعر محمد الحلوي، ثم البحث الاضافي الأول: دور “الهجرة النبوية؛ في بناء مبادئ وقيم الدين والدولة والحضارة الإسلامية الجديدة”، والبحث الاضافي الثاني: “دور المذهب المالكي في بناء الشخصية العربية الإسلامية لسكان افريقيا الشمالية وموريطانيا”.

خاتمة

لقد عادت بنا المسيرة الخضراء عشرة قرون إلى الوراء لتقدم لنا نموذجاً حياً على الطبيعة الصورة الجهاد الإسلامي الذي غير خريطة العالم في نصف قرن من الزمان، واستطاعت أن تذكر الاسبان مرة أخرى بأن هؤلاء المشاة هم حفدة طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين فانسحبوا مكرهين.

ومرة أخرى أدرك الغرب الاستعماري أن الشخصية المغربية لا تزال في أعماقها تملك أسلوباً للتعبير عن نفسها غير أسلوب الفنون التشكيلية أو المهرجانات الفولكلورية التي يحاول جاهداً أن يجعل منهما ثقافة المغرب الجديدة.