توطئة

نَشَأَتْ علاقةُ وعْيٍ وانتماءٍ وحُبٍّ بين الأستاذ علال الفاسي وفلسطين منذ أواسط عشرينات القرن العشرين، فعايَش أحداثها الكُبرى يافعاً، وهَامَ بتاريخها ومعاناة شَعبها شابّاً وأباً، وناضَل عن حقوقها السياسية والتاريخية والجغرافية وناصَـرَ رجالَ المقاوَمة والتحرير فوق تُرابها شَيْخاً. ولم يتوانى طيلة مساره الحافل عن دعْم فلسطين ومنظّمة التحرير الفلسطينية دعْمًا عَينيا وماديا وفكريا بالمقالات والدّراسات والنّدوات والـمشاركات في المؤتمرات، وعَرّف بمأساة الشعب الفلسطيني في قصائد شعرية بليغة.

حَارسٌ على بُرج القدس

لما اندلَعت أحداث البُراق الشهيرة سنة 1929 في القُدس الشريف الواقعة حينَها تحت استبداد الانتداب البريطاني؛ كان علال الفاسي في طَليعة وَطنيِّي فاس الذين هَبّوا للتعريف بالوضعية الخطيرة التي أضْحى عليها المسرى والأقصى، وطافَ على أعيان المدينة وبعض الفقهاء والسياسيين والشّباب الـوطني الـمتحفِّز يُناشِدهم التوقيع على عريضة مدنية احتجاجية على السّياسات البريطانية في الأراضي الفلسطينية.

ساهمَ الانخراطُ المبكِّرُ في تِلْكُم الأحداث في تَشَكُّلِ رؤيةٍ وانتماءٍ لدى علال تجاه فلسطين، قوامها النِّضال والمبدئية. ومع مرور الوقت؛ اتَّسَعَت دائرة معارفه بالوطنيين والمقاومين الفلسطينيين، وامْتَدّتْ أَمداء نضاله على الساحة العربية، في مصر والمغرب والجزائر وإسبانيا وفرنسا؛ محاضِرًا عن فلسطين، ومُنْذِرا بإرهاب دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومنبّها على أخطاء ساسة العرب ورؤيتهم للصّراع العربي-الإسرائيلي، وفي “أوائل الخمسينات، ذهب الثائر علال الفاسي وأخْرَجَ عددا مِن الطلبة الفلسطينيين [كانوا قد] اعتُقِلوا بسبب التظاهر، [مِن] بين أولئك؛ كان الطالب ياسر عرفات”[1]، الذي سيصير صديقا حميما لعلال، وسيُشركه معه في لحظة الإعلان عن انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها الثوري، بل وسَتَمُدُّ قيادة منظمة التحرير جريدَة “العَلم” الاستقلالية بخبَر عملية قوات العاصفة، وستكون بذلك أوّلَ جريدة عربية تتبنّى أعمال المقاومة الفلسطينية وتُدافع عنها، وبتوجيه من الأستاذ علال بطبيعة الحال، الذي كان يُلَقِّبُه قادة فتْح بــ”الوالِد”.

مُحصِّلَةُ تفاعُل مغربي مع الشأن الفلسطيني

استَنَد كتابُ “القضيةِ الفلسطينية والقُدْس في الفِكْر والوجدان” إلى بعْضِ ما خَلّفه الراحل علال الفاسي من إرْث علمي مكتوب أو مداخلات أو خُطَب أو رسائل تُعبِّر عن تفاعُله الفكري والوجداني والأدبي مع القضية الفلسطينية ومحنة الأقصى والشّعب الفلسطيني منذُ تَفتَّح وعْيه الوطني والسياسي إزاء هذه القضية وإلى أن غادَر دار البقاء أواسط سبعينات القرن العشرين، حينَ كانت المقاومة الفلسطينية تعيش جَوْلتها الميدانية والسياسية والدبلوماسية ترافعاً وتَدافُعا مِن أجل استقلال فلسطين.

يعالِجُ علال في هذا الكتاب الأبعادَ التاريخية لاغتصابِ الصّهاينة أرضَ فلسطين، وترابُطات ذلك مع الحرب العالمية الأولى، فالوَعد البيلفوري،[2] واندلاع الثورة البلشفية وتحوّلات موقف الاتحاد السوفياتي، وانهيار السلطنة العثمانية، ثم الحرب العالمية الثانية، وبدايات الهجرة اليهودية صوب فلسطين ومواقف الدّول منها في إبانها، وتصريفهُ للمواقف التي أدانَ من خلالِها الإفراطَ في التّسامح إزاء هجرة اليهود مِن المغرب، وكتَب بعبارة صارمة “إنّ للتسامح حدّا” (الكتاب، ص: 53).

يأتي الكاتِبُ على ذكْر أَسْبَاب النّكبة الفلسطينية في لحْظَتَيْها التاريخيتين العَصيبتين (1948 و1967) ويَبحث جذورَها ويَدْرُس مواقِف العرب منها، ساسةً وأحزاباً. ويَرى أنّ الفضيحةَ التي لحقَتْنا جَرّاء تلك النكبة “الـمُخجِلَة والمؤلِمة” (الكتاب، ص: 08) مَرَدُّها إلى الاستعمار الفكري (الكتاب، ص: 16) الذي تَعرّضت له فئاتٌ مِن نخبنا، وفَوْضى التّنسيق العربي لمواجهة إسرائيل، وضُعْف القادة، واعتمادهم عل عقيدةٍ غير عقيدةِ الشّعب الذي يُريدونَ قيادَتَه صوبَ النصر. ويرْبط بين حدوث النّكبة وحاجة الأمة العربية إلى فُرصة تقرير مَصيرها باختيارِ مَن يحكُمها ويُدْخلُها في نضالٍ واحد. ففلسطين التي “تُمثِّل أعظَمَ مأساةٍ أصابت المسلمين” (الكتاب، ص: 10) نتيجةَ المؤامرات الصّليبية الصّهيونية –أيضًا-؛ لن يُخفِّف مِن حِدّة مأساتها إلاّ سَريان روح الوحدة الإسلامية الجامعة للقوى، الـمُعِينة على التحصُّنِ من الضّعف، الحالّة مَحَلَّ القومية الضّيقة الفاشلة.

وبالنّظر لاطِّلاعه الواسع على الأوضاع العامة في المغرب العربي وإفريقيا، وصداقاته السِّياسية والمدنية الـمُمتَدّة في قارتيْ آسيا وإفريقيا؛ رَصَد في الكتاب مواقِف الدّول الإفريقية والآسيوية مِن القضية الفلسطينية وإدْراكِها الهدفَ من الصّهيونية في المنطقة والـعالَم، ورصَدَ مَظاهر النّضال العربي والـمغاربي من أجل فلسطين، وعَدّد الدول والحكومات التي سحَبت اعترافها بإسرائيل وتلك التي قاطَعَتْها.

وهو بين هذا المعطى وذاك التّحليل؛ لا يَفْتَأ يُذكِّر بأبرَز مواقف وجُهود حزب الاستقلال في دَعْم النضال الفلسطيني، واستضافة كبار رُموز الكفاح الفلسطينيين، والافتخار بالعلاقات القائمة بين قيادات الحزب وكثير من القيادات الحرة في العالم الـغَربي، والأنشطة والفعاليات التي نَظّمها الحزب (الكتاب، ص: 87) لتبقى قضية فلسطين حَيّة وحاضرة في الذاكرة المغربية، ووصْفِه الكفاح مِن أجل فسلطين، سواءً أتَمّ بعناصر ومُقاومي حركة فتْح، أو المنظمات الأخرى، بأنه “جهاد مُقَدَّس” (الكتاب، ص: 37) غايتُه إنقاذ القُدس وفلسطين والعروبة مِن وحْشية الـمتَعَنِّتينَ الصّهايِنة.

مواقِف علّال مِن الكيان المـحْـتَل واقتراح معالم الـحَل

بِقَدْر ما واصل الأستاذ علاّل دفاعه عن فلسطين وتعريفه بحقوقها، بقَدْر ما انخرطَ بجدية في دراسة العقلية الصهيونية وتتبُّع ما يُنشَر من مقالات وتحليلات وقُصاصات إخبارية عن الكيان، ومُقابَلة الشخصيات الفكرية والثقافية ومحاورَتها في الوضع العام بالشرق الأوسط، وترْجَمة بعض المواد التي كانت تُنجِزها مجلات أو جرائد بريطانية أو أمريكية أو فرنسية، ومُراسَلة الهيئات الحزبية في فرنسا وإسبانيا لـحثّها على التفاعُل الأمثَل مع المطالِب الفلسطينية المشروعة. وقد مَكَنته ثقافته الواسعة ومواكَبَته الدائمة للأحداث من معرفة مُجريات الحالة الاستعمارية في المنطَقة، فَوَصَف إسرائيل بــ”الحاجز البَشَري الغريب” (الكتاب، ص: 40) في القلْب من القارتين الناهضتين؛ آسيا وإفريقيا، ويتَمَوْقَفُ منها موقِفاً سلبيا وحاداً مُعِدّاً إياها دولةَ “شُذّاذِ الآفاق”. (الكتاب، ص: 81)

وفي تحليله الخاص؛ اعتَبَر أنّ “إسرائيل لا تَرى في الغرب غيرَ رفيق طَريق فقط” (الكتاب، ص: 23)، رغم أنَّ هذا الأخير زَرَعَها في قَلْب العالم العربي والإسلامي لتَكون قنطَرة للاستعمار الغربي، وهي قَبِلت في البَدء بذلك؛ بحثا عن وُجودها، لتتمكّن لاحقا مِن التوسّع على “حساب الغرب”، وعلى حساب ضُعفِنا وتفكّكنا كذلك.

ومَرَدّ اعتبارِ الكيان الصّهيوني الغربَ مجرّد رَفيق طريق حسب الأستاذ علال؛ هو كَون تأسيس دولة إسرائيلية عالَمية ليست فِكْرة “وليدةَ الغرب ومصالِحه” (الكتاب، ص: 23)، بل فكرة يهودية سابقة في الزّمن عن الكشوفات الجغرافية وظهور أمريكا وبعض دول الاتحاد الأوروبي. وهو ما يُفَسِّر في تَقديره رَفْض أمريكا لحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية تَبَنّي وعْد بلفور، وعَدَم مُشارَكَتها في تَطبيقه وبقاء موقفها مِن إسرائيل مُعتدِلاً، ولكن “موقف الاتحاد السوفياتي وضَعها في موقف حائر، بين أنْ تتبنّى قضية إسرائيل وبين أنْ تقاوِمها، فتضطَرَّ إلى اتّخاذ تدابير داخلية ضدّ العديد من يهود أمريكا، الذينَ أَخَذُوا يَصْغُــونَ للدّعوة الرّوسية” (الكتاب، ص: 32)، وما إنْ وَصَل هاري تْرومان للرئاسة حتَى مَدّ يديه للمنظَمات الصهيونية “لِيُبْعِدَها عن الاتحاد السوفياتي، ويَتّخِذَها أداةً مُعاكِسة، تخدُم مصالح أمريكا في الشرق وفي أوروبا”. (الكتاب، ص: 33)

ويُؤكّد الأستاذ علال أنَّ هذا الحُلم الصهيونيَ الخبيثَ إذا تُرِكَ يتَحقّق دونَ “مقاومة فَسَيتّسعُ اتِّساع رقعةِ الزّيت” (الكتاب، ص: 24) إلى أنْ يقضي على الجسْم العربي كله لا سمح الله، في أُفُق السيطرة المادية والمعنوية على العالَم أجمَع كما يدّعونَ في نُبوءاتهم وأحلام أطروحاتِ زعمائهم، و”الناسُ سيَعرِفون ماذا جَناهُ قيام دولة إسرائيل، وتَرْكُها تُهاجِمُ جيرانها، وتَبُثّ سموم دِعايتها في العالَم بأسْره”. (الكتاب، ص: 89)

لم يَتَردّد الأستاذ علال في وصْف الحالة القائمة على الاحتلال المباشِر للأراضي الفلسطينية بأنه “استعمار مُرَكّب، صهيوني، إسرائيلي، ديني، غربي؛ يَسْتَعْمِل إسرائيلَ والصّهيونيةَ أداةً مُسَخّرَةً لخِدمتِه مُقابِلَ إسنادِها وتأييدِها” (الكتاب، ص: 35)، وبناءً على هذا الوضع، نادى الأستاذ علال بوجوبِ اعتبارِ “قضية فلسطين قضية دينية، إسلامية ومَسيحية”، وأنْ لا حَلَّ إلا بما أسْماهُ “عَودَة الكيان لفلسطين”، كيان وطني ديمقراطي حُرّ ومُستقِل، تَعَدّدي من الناحية الدينية، متعايش اجتماعيا، مُحتَضِن للاجئيه ومَنْفييه.

أما وُجهة نَظره في الحلول الـممكنة للنزاع؛ فمِن التعقيد بمكان _ حَسْبَهُ _ الحديث عن حَلّ لإزالة الخطر الإسرائيلي من الشرق الأوسط وإقرار السلام، ولكن مع ذاك، يؤكد الزعيم علال على أمور أساسية:

  • الأول: أنّ بقاء إسرائيل كدولة دينية سُلالية غايتها إعادة بناء الهيكل في القُدس، وتأسيس الإمبراطورية اليهودية العالمية؛ لا يُمكن أنْ يَقبَله العرب والمسلمون ولا غيرهم مِن دُول العالم الواعية، وأنّ العالَم الإسلامي لا بُدّ أن يَستعيدَ قُوّته يوما ما، ويُصفّي الحساب ولو طال الزّمن.
  • الثاني: أنّ الغربَ لا بُدّ أنْ يَنتَبِه من غَفلته، ويَتَقَدّمَ لمقاومة السلالية النّازية في شكْلها الإسرائيلي الجديد.
  • الثالث:أنّ وضْعَ العرب الحالي -يَقصد ستّينات القرن العشرين– لا يَسمح بَسَحْق إسرائيل بالقوة، وإجلائها عن الشرق الأوسط، وكثير مِن العرب والمسلمين لا يحملون أيّ عَداء لليهود، ولا لأيّ جنس آخَر، إنما “لا يَرَونَ مُوجِباً لأنْ تَتَكَوّنَ دولة يهودية مَبنية على الدّين والسُّلالة، ما دام اليهود مواطنين في كل بلد يُوجَدُون فيه، يَتَمَتّعون بالحرية والحقوق التي يتمتّع بها أهل الطوائف الأخرى”.
  • الرابع: الضّرورة غير المؤجّلة لعودة اللاجئينَ العرب إلى ديارهم، وتأسيس دولة لا دينية في فلسطين، وإعطاؤها اسم الجمهورية الدّيمقراطية الفلسطينية (الكتاب، ص: 27)، دستورها وِفاقي بين الديانات والطوائف، وتُقبَل الجمهورية عُضوا في الجامعة العربية وفي المؤسّسات المنبثِقة عنها إذا رِغِبت في ذلك.

منذ 1956 تَوقّعَ الأستاذ علال الفاسي انسحابَ الكيان الإسرائيلي من قطاع غَزّة (الكتاب، ص: 62)، وتنبّأ بالقولِ بأنّ الجُزء الـمُحَرَّر من فلسطين “سواء في غزّة وفي الأردن، لا يُمكن أن يَكونَ إلّا نَواةً لتحرير القسم الـمُحتَل، ولو طالَ الزّمن” (الكتاب، ص: 73)، وهو ما تَمّ سنة 2005، وينفرد في الكتاب بإيراد معلومة تُفيد احتضانَ قطاع غَزّة للمؤتمر الإسلامي الفلسطيني الذي انعَقَد تحت رعاية الجامعة العربية وأَسَّسَ “جمهورية عُموم فلسطين” (الكتاب، ص: 70) برئاسة حِلْمي باشا.

الإهانة الإسرائيلية وحالة الذات العربية

لم يُكن الأستاذ علال بِدْعا من المغاربة والعرب والمسلمين والوطنيين الذين آلَـمَهم ما حَلّ بإخوانهم، وهُم يُتابِعون فُصولَ “الإهانة اليومية المتكرِّرة”[3] للذات العربية في شَخْصِ العدوانِ الإسرائيلي على فلسطين منذ عُقود، في شاشات التلفاز وعلى صفحات الجرائد وفيما يَتناقَلُه الناس من أحاديث فيما جرى، فاعتَصَر وُجْدانَه ما اعتَصَر الأحرارَ في كلّ مكان وهُم يَلْمسَون تنامي حَجْم الـوهَن العربي والعجْز الإسلامي عن مواجَهة القوى الغربية الـمتوحّشة الداعمة للكيان الـمُحتَلّ بكل ما تملك.

إنّنا تُجاه هذه الحالة العربية الألمية الـمستمِرة في الزمن، التي عانَاها جيل إثْرَ جيل، وبالرغم مِن كل أخطائنا وحماقاتنا وضعفنا وعدم انكبابنا على الأخْذ بأسباب القوّة، وممالأةِ بعض حُكّامنا للغرب، وتَشتُّتِ كلمَتِنا؛لا يَنبغي علينا أنْ نَتّخِذَ من النّقد الذّاتي السّلبي سبِيلا للانهزامية، والشّعور بأحقِية ما وقع بنا. وهَـبْ أنّنا مسؤولُونَ ومُستَحِقّونَ لـمُعاقَبةِ اللهِ تَعالى لنا على أعمالِنا وتَفْريطِنا، فهل يَسْتَحِقّ الصّهايِنةُ الـمُلحِدونَ أن يَكونوا أدَاةَ العقاب الرّباني لنا -يتساءَل الأستاذ علّال-؟، حتْماً؛ إنَّ هذا التفكيرَ والشّعور لا يَخْدُمنا، ويَزيدُ مِن الفَتِّ في عضُدِنا.

فالإحساس بأنَّ قُدْسَنا وشعبنا العربي المسلم في فلسطين ونحن مَعهم- تَعَرَّضْنا للظُّلم وأننا مَظلومون، وأنّ “الـمُعتَدينَ علينا ظالمون غاصِبونَ؛ لَجديرٌ بأنْ يُعيدَ إليْنا عَزْمَنا، فنَعْمَل على أنْ نُصْبِحَ أقوياء حِسًّا، كما أنّنا أقوياء أخلاقاً ومَعْنًى”،[4] فُنُرابِط على ثَـغْرِ صيانة الذات العربية من الآفات والتمزّقات والـجَلْدِ الـمُوهِنِ للقُدرات.

الإبداع الشّعْري في خدمة الكفاح الفلسطيني

كعادته في كثير من مؤلّفاته؛ ضَمّن الأستاذ علاّل الفاسي كتابَه “القضية الفلسطينية في الفكر والوجدان” قصائدَ نَظَمَها في حُبّ القدس ودفاعا عن الحقوق التاريخية للفلسطينيين، وأشادَ بالجهاد مِن أجْل التّحرير، ودَعا العرب إلى الوحدة والتّعاون والتّضامن، ونَبّه مِن مَخاطر الاختراق الصّهيوني.

فَعَقِبَ النّكبة الفلسطينية، وبعدَ تَعرُّضه لحادِثِ سَيْر أصابَه بالشّلل في يده اليُمْنى؛ نَظَمَ الأستاذ علال قصيدةً مُطوَّلَةً مِن ستّينَ بيتًا، على وَزْن البحر الكامل، وبَعث بها للنّشر في جريدة “العَلَم” المغربية. ومما جاء فيها مُفاخِراً بالعروبة قُدْرَتَـهَا على تَجاوُز محنة النّكبة، قوله:

  • حاشا العروبةَ أن تَخيسَ بأهلها

أو تَستَكينَ مَدى الزمانِ لِذِلّـــــةِ

  • وبَنُوا العروبةِ لا تَلينُ قَناتُهـــــــــــمْ

حتّى لو عُجِموا بأعظَمِ مِــحْنَـةِ

  • وطَنُ العُروبةِ لَمْ يَدِن في حِقْبــةٍ

لِسِــوى بَنِــيهِ حُمــاتِه في الشِّــــــدّةِ[5]

وفي أبياتٍ أخرى يُوجِّه تَعبيرَه الـمُفعَم بالنُّصرة والمحبّة لفلسطين، ويَحُضّ الشّعبَ الفلسطينيَّ على المقاومة والممانعة، يقول:

  • لَبّيكَ إنّا مُجمِعونَ على الفِدا

ومُصَمِّــمون على اقـتِــحـــامِ العَودَةِ

  • لا بُدَّ مِـــن يَومٍ يَرِفُّ لواؤنـــــا

بالقُدْسِ في المسْرى وعندَ الصّخْرةِ

  • آمِن وقاطِع ثُّم قـــاوِم إنـــــــــها

سُبُــل النّـــجــاةِ لَـــنَـا وأجْـــــدَى عُـــدّةِ

  • قاطِعْ عَدُوّكَ في المرافِق كُلِها

واصْبِر على تِـلكَ الطّريقةِ واثْبُــــتِ

  • قاوِم عَدُوّكَ لا تُرِحْهُ فإنّمــــــــــا

يَــطْـغَـى بِـراحَــتِــه التي لَـم تَــفْــــــلِـــــتِ

  • واثْبُت بأرْضْكَ لا تُفارِقْها فما

يَقضي علينا غيرُ تلْك الـفُرْقةِ

  • إيهٍ فلسطينُ الحبيبةُ إنّــنا

أبناؤُكِ الأحرارِ أهْلُ الـعَزْمَةِ

  • سنَخوضُ فيكِ معاركاً موصولةً

تَقْضِي بنَصْرٍ للعُروبةِ صَيِّتِ[6]

ومنَ الشِّعر الحُر الذي أبْدَع فيه الأستاذ علال الفاسي قصائِد مسبوكة، أَهْدَى منها لفلسطين قصيدته “مسيرةُ القُدس”، وهي مِن الـمُطوّلات، نَظَمها في فبراير من سنة 1971. مما جاء فيها:

  • هيّا بنا ننشِق عبيرَ الجنّة

مِن أرْضنا وزَهْرنا

ومِن جراح الشّهداء الأوّلين

هناكَ في سيناء وفي غزّة

وفي الجولان والـمَزّة

هناك في نابُلْس والقُـلَيْقِلَة

وفي خيامِ مُشَرّدِينَ عَربِ،

يُحميهم تاجِر بؤسٍ مُرْبِح

مِن دَمْعِهم يَكتَسبون

مِن دَمِهم يَرْتَزِقون

وفي نَقْده للدّور الأمريكي السِّيء تُجاه القضية الفلسطينية ولتُـجّار السلاح الطُّغاة، كَتَب الأستاذ علال قائلا:

  • والعَمُّ سام يَلْعَبُ الأدوارَ

يُعطي السلاح، يَبيعُ الدولارَ

يَسْقُطُ حيثُ الطّيرُ مِن وَكْر الـحِمى

يَلْقُطُ دولاراً ويَسْفِكُ دَما

دَمُ الفدائي،

دمُ المواطن،

العربيُّ القُحُّ.[7]

وفي قصيدة أخرى بعنوان “الصّفحة الأخيرة من مُذكّرات شهيدٍ عندَ النّكسة”[8]، من الشّعر الحُر أيضا، نختار أبياته التاليات:

  • سيروا بنا نحنُ الجنودُ القادرونَ

سيروا بنا فإننّا مُعَبّأونَ

  • للحرب، للعدُوِّ اصْلُوهُ بنا

وللبناءِ هاكُم ساعِدَنا

أما قصيدَتَه التي صاغها على وزْن البحر الكامل في الذكرى الثامنة لثورة فلسطين الـمجيدة؛ فجاءَت لُغَتُها فخمة وتعبيرها قَوي وروحها متدفِّقة، عَمودية جزِلةً ومناضِلة، منها قوله في نَقْد الصهيونية:

  • إنَّ الصهاينة الذينَ تألّبوا

متآمرينَ بنا تآمُر جاحِدِ

  • حِلف الصّليبِيينَ يُسنِدُ ظَهْرَهم

وَهُمُ للاستعمارِ أعظَمُ رافِدِ

  • إسْفينُ إسرائيلَ يفصِلُ بَينَنا

ليَكونَ قَنْطَرةَ العَدُوِّ الوافِدِ[9]

وافتخاراً بالمجاهدين، وتنويهاً بِدَوْرهِم وكفاحهم وآمال الشّعوب العربية عليهم، كَتَب الأستاذ علال:

  • الثّأر نأخُذُهُ ونحن جُنودُهُ

سَيَـرَى العَدُوُّ بنا أشَدَّ مُطارِدِ

  • فَلَسَوْفَ نُصْليهم جزاءَ فِعالِهِم

ببلادِنا وبشَعْبِنا الـمُتَسانِدِ

  • والقُدسُ نَدخُلُه نُحَرِّرُ أهْلَهُ

والمسجدَ الأقصى ورُكنَ السّاجِدِ

  • وبِداخِلِ الأرض الحبيبةِ أُمَّةٌ

تَلْقَى العَدُوَّ بكلّ شَهْمٍ حاصِدِ

  • سيروا إلى الميَدانِ نحن وراءَكم

نحوَ النّضالِ إلى الـمصيرِ الواحِدِ[10]

خاتمة

لقد جَسَّد علال الفاسي بفِكره وسلوكه وكَسْبِه النضالي والتأليفي والشّعْري لصالح القضية الفلسطينية نَموذَجَ المثقف المغربي والمناضِل الوطني الـمَبْدئي، الذي حاوَل جُهْدَه التوفيقَ بين الوفاء بمقتضيات الدّفاع عن الوطن والتعريف بحقوقه،والاستماتةِ في خِدْمة قضايا المجتمع المغربي والثقافة المغربية، والوفاء بواجِبات الانتماء للأمة العربية والإسلامية والقيام بمسؤوليات الدّفاع عن فلسطين، دونَ الانحصار في الـمعادَلة الموهومة “الوطن قبل الأمّة/المغرب قَبْل فلسطين، أو فلسطين قَبْل المغرب”.

نعم؛ لقد استطاعت نخبة الحركة الوطنية المغربية ومَن امتَدَّ عُمْره إلى سبعينات وتسعينات القرن العشرين فعايَش مآسي ومآلات الحالة الفلسطينية، (استطاعَت) ردْمَ التناقُض الذهني والنفسي والفكري القائم على أكْذوبة “تازة قَبْل غَزّة”، فأعْطت لفلسطين وقضيتَها ونضالَ شعْبِها الكثيرَ من الجهد والوقت والترافع والمواقِف، دونَ أن تتنازَل أو تَخْفِض ِمن سَقْفِ الدّفاع عن المغرب وقضاياه ونِضالَ شعبه.

أَكّدَ الأستاذ علال الفاسي بما أُوتِيَه من رجاحة عقْل واستيعابِ أحوال الأمة العربية وتربية وطنية صَلْبة وقيَم إنسانية رَفيعة؛ (أكّدَ) بِما لا مَزيد عليهِ أنّه يَتَحفّظ تحفُّظا شديداً “إزاءَ كلّ تنازُل عن حَقّ الفلسطينِيِّينَ الطبيعي والتاريخي، وعن حقّنا جميعا في استِرجاع بيت الـمَقْدِس ومَدينَـتِه، ورَفْض أيّ تَدَخّل أو تَدويل بشكل من الأشكال”[11] لهذه القضية الشائكة.

المراجع
[1] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس في الفكر والوجدان"، منشورات مؤسسة علال الفاسي، إعداد وترتيب المختار باقة، الطبعة الأولى 2018، ص: 124.
[2] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 30.
[3] انظر: (المنجرة) المهدي: "الإهانة في عهد الميغاإمبريالية"،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة 5، ص: 9.
[4] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 41.
[5] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 98.
[6] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 100.
[7] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 105.
[8] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 113.
[9] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 118.
[10] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 120.
[11] (الفاسي) علال: "القضية الفلسطينية والقُدس.."، مرجع سابق، ص: 41.