توطئة

راكم العرب في العصور الوسيطة، وحتى في العصر الحديث، زخما من النصوص الرحلية الثمينة. وعمل المحققون على تخريجها في حلل بديعة، وتم نشرها على نطاق واسع. غير أن الاهتمام بها على وفرته في كل الجامعات العربية، يظل محدودا ولا يرقى إلى مستوى ما تحقق من إبداع على مستوى هذا النوع السردي التراثي الذي انشغل به العرب وأبدعوا فيه، وقدموا من خلاله روائع خالدة للإنسانية، مستفيدين من هيمنتهم على العالم المعروف آنذاك، وسيطرتهم على البحار والطرق التجارية، وقوتهم الاقتصادية والعسكرية والمعرفية.

واجتهد الكثير من الباحثين على هاته النصوص دراسة وتحليلا وتحقيقا، مستفيدين مما حققته النظرية السردية من غنى مفهومي وتطور إجرائي، ومن قدرتها على الانفتاح على أنواع النصوص والأنماط السردية العربية والعالمية في شتى مظاهرها وتجلياتها! وبرزت أسماء عملت طوال عقود من الزمن على خدمة هذا النوع السردي أمثال: شعيب حليفي، المرحوم عبد الرحيم مؤذن، سعيد يقطين، عبد الله إبراهيم، المرحوم عبد الهادي التازي، قاسم الحسيني، محمد القاضي، وغيرهم كثير…

وجاءت مقاربة الفقيد إبراهيم الحجري في كتابه الجديد “الخطاب والمعرفة.. الرحلة من منظور السرديات الأنثروبولوجية” الذي نشره المركز الثقافي العربي، والذي أحاطه بضبط علمي آخر تمثل في اختيار نص ابن بطوطة متنا مركزيا للبحث في سرديات الرحلة العربية. فالحجري رحمه الله -الذي سبر من قبل خفايا السرد الروائي العربي أيضا- لم يكتف بنص ابن بطوطة، بل استعان أيضا بنصوص أخرى لرحالة آخرين بوصفها المحيط المعزز لبيانات النص المركزي مركزا على طبيعة المادة الإثنوغرافية الثرية التي تستضمرها النصوص، وخصوصيات الصوغ السردي في آن واحد. واعتمد، في محاولة النظرية السردية، مفاهيم ومقاربات منهجية وعلمية جديدة وخاض تجربة منفتحة على المنهج الأنثروبولوجي، وكانت المدونة الرحلية نموذجًا لكونها قوالب ذات سمات سردية تقترب من العمل الإثنوجرافي. ويعتبر هذا الكتاب ثمرة بحث وجهد شاق لسنوات طويلة. وقد جاء الكتاب في 527 صفحة صدر عن المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2016م.

مضامين الكتاب

تكمن خصوصية كتاب “الخطاب والمعرفة الرحلية من منظور السرديات الأنثروبولوجية” لإبراهيم الحجري في أنه حاول مقاربة هذا الخطاب بالانطلاق من كونه أولاً خطاباً سردياً. لذلك التمس السرديات، باعتبارها علماً للسرد، فسعى إلى البحث أساساً في تحديد سردية هذا الخطاب، فتوقف على جوانب تتطلب الشخصية، وصيغ الحكي، والتبشير، والفضاء.

وقد وفق الباحث في اختيار المتن موضوع الاشتغال بجعله رحلة ابن بطوطة محور دراسته، ولا جرم أن هذه الرحلة تعتبر من أهم الرحلات ليس العربية فقط، بل العالمية أيضاً، وخير دليل على ذلك ترجماتها المتعددة والدراسات الأجنبية الكثيرة حولها، ثم انطلاقا من رحلات مغربية واندلسية باعتبارها متناً محيطاً. لقد يسر له هذا التوجه معالجة الرحلة معالجة دقيقة ومتأنية.. (مقدمة الكتاب ص 5- 6)

انطلق إبراهيم الحجري من السرد بصفته الصيغة الأساسية تقديم العالم في الخطاب الرحلي. لكنه، وهو ينطلق في تحليله الرحلة باعتبارها خطاباً سردياً، يذهب إلى الأبعاد الأنثروبولوجية الكامنة في عمل الرحالة، فيرصد مختلف الجوانب التي يختص بها الأنثروبولوجي من خلال التقرير العلمي، رابطاً بین ما تشكل لديه من خلال تحليل السرد، وما يحبل به من تصورات وأبعاد أنثروبولوجية، وهنا تكمن خصوصية العمل الذي أقدم عليه الباحث في هذا الكتاب. (مقدمة الكتاب ص 7)

كما وفر إبراهيم الحجري لكتابه كل الشروط الضرورية لتقديم معالجة جديدة وعلمية الخطاب الرحلة المغربية – الأندلسية، فجاء كتابه متميزاً في تحليل الرحلة، وفي تطوير السرديات التي وظفها بتمثل دقيق لأهم منجزاتها النظرية والإجرائية، يجعلها منفتحة على الأنثروبولوجيا. فكانت السرديات الأنثروبولوجية منطلقاً جديداً في التحليل والتطبيق، وهنا تكمن خصوصية هذه الدراسة التي يمكن اعتبارها تطويراً للدراسة العربية الأدبية التي اهتمت بتحليل الرحلة، وفي الوقت نفسه يمكن عدها تجاوزاً للعديد من الدراسات التي ظلت بمنأى عن معالجة الرحلة من منظور علمي يسهم في تعميق نظرنا إلى الرحلة بالالتفات إلى جوانب ظلت مغيبة في قراءة الرحلة من جهة، ويمكن وصفها في الوقت ذاته، من جهة ثانية، يكونها مساهمة في تطوير السرديات بجعلها منفتحة على الأنثروبولوجيا. (مقدمة الكتاب ص 7)

لقد تبادرت إلى ذهن المؤلف وهو  بصدد إعداد بحث أكاديمي تحت عنوان “شعرية الفضاء في الرحلة الأندلسية”، فكرة مؤداها أن تناول هذا المكون السردي من خلال ما يقترحه مجال السرديات يقود، بالضرورة، إلى الاستعانة ببعض المفاهيم التي تقترحها باقي العلوم الإنسانية لأنها تساعد الباحث على استقصاء كل ما يفيض به من دلالات ورموز، بخاصة في نوع “الرحلة” الذي يرتهن، في بناء دلالاته، إلى الواقعي والمتخيل في آن واحد.

وبالنظر إلى حجم ما راكمته السرديات من اجتهادات علمية على مستوى خدمة النص أثمرت مفاهيم وأدوات تحليلية ساعدت كثيراً في معرفة آليات اشتغال الخطاب، وساهمت بقسط وافر في إعادة بناء الدلالة النصية. وطوال مراحل تطورها، أبدت السرديات نجاحاً مهماً في تطويع المفاهيم وتسخيرها لخدمة أغراضها دون المساس بجوهرها الأصلي. (مقدمة المؤلف ص 9)

فكر الحجري في أن يفتح نافذة للسرديات على الأنثروبولوجيا، من خلال اعتماد بعض مفاهيمها الملائمة لمكونات السرد، وكذا من خلال استلاف بعض أدواتها المنهجية التي تتيح للسرديات العربية أن تغني حقلها الذي حقق تراكماً جديراً باستثماره و تعزيز آلياته في تحليل النصوص، وكشف بناها التركيبية والدلالية والشكلية، ولم لا الإنسانية؟. (مقدمة المؤلف ص 10)

لقد راهن الحجري -رحمه الله، لأجل بلوغ المرمى المنشود، على مقاربة منهجية تنطلق من السرديات أساساً، لتخرج على مجال الأنثروبولوجيا، فقسَّم البحث إلى بابين: الأول (في سردية النص الرحلي المغربي الأندلسي)، خصصه لتحليل البنى السردية في الرحلات، مراعيا خصوصية المتن المدروس؛ وميزات نوع الرحلة الذي حقق، على مستوى التدوين، تراكما مهما في العصور الوسطى خاصة، فتناولت عناصر السرد داخل هذه النصوص كلا على حدة: الشخصية، صيغ الحكي، التبئير، والفضاء، مبينا ما يميز كل عنصر عن نظيره في النصوص المتنوعة، ومركزا على هيمنة الخبر على السرد، ومبرزا تأثير ذلك على العالم السردي ككل.

وخصص الباب الثاني (أنثروبولوجيا النص الرحلي المغربي الأندلسي)، لمقاربة المادة السردية التي أفضى إليها الخطاب الرحلي، مقاربة تستند إلى المنظور الأنثروبولوجي من خلال توظيف بعض المفاهيم الإناسية في تحليل العالم الذي تقدمه لنا المتون الرحلية وفق الرؤية التي تحكم صاحب الرحلة، ومعرفة كيفية اشتغال نسق التفكير والقيم لديه. استفتح هذا الباب بعتبة فسر فيها كيفية الانتقال من السردي إلى الأنثروبولوجي بشكل يجعلهما يخدمان بعضهما، حيث إن “باب الخبر” سمح له باقتحام عالم الأسماء والأزياء والصحة والمرض والزواج والطعام وغيرها من الظواهر التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات. كما قادنا الفضاء السردي إلى تعرف عالم العمران بتجلياته المختلفة في عالم القرون الوسطى، وما يحيل عليه كل نموذج عمراني وفق ما يوحي به من رموز وجماليات وأشكال لها صلة وثيقة بالمتخيل الذهني البشري في كل مجتمع على حدة. في حين أن عنصر “التبئير” أحالنا على محاورة المتخيل الرمزي للمقدس والفلكلور والغناء والرقص والموت والسحر والألعاب وغيرها من البنيات الذهنية، وتعرف ردود الأفعال الواعية واللاواعية ضدا على عوامل الطبيعة، وكذا تجاه الظواهر القاهرة للإنسان، مما يدل على أن كل هذه التمظهرات ما هي سوى انعكاس وامتداد لثقافة المجتمع ورؤاه وتمثلاته للكون والطبيعة والحياة.

خاتمة

خلص المؤلف من خلال سفره البحثي الذي يجمع بين السرديات والأنثروبولوجيا في رحاب التناول النصي لمسرود الرحلة المغربية الأندلسية إلى نتائج من أهمها:

  • بقدر ما تتوفر النصوص السردية الرحلية على وثائق تاريخية واجتماعية وعلمية وجغرافية واقتصادية متنوعة ومتداخلة، فهي أيضاً تزخر بمادة إثنوغرافية غنية تفيد في معرفة الإنسان في تلك المرحلة من كل الجوانب والتجليات.
  • تندرج النصوص الرحلية بوصفها خطاباً متخللاً من قبل أنواع أدبية متعددة ونوعا أدبيا ضمن جنس السرد، على الرغم من اعتماده على المشاهدات والمدونات السفرية والسير الذاتية والغيرية، في إطار النصوص الأدبية.
  • إذا كانت السرديات قد تناولت الجوانب الخطابية والجوانب الحكاية زمنا طويلاً، وحققت نجاحاً لافتاً في تحديد البني الحقيقة للصوغ الأدبي لجنس السرد، بما في ذلك الجوانب المشتركة، وكذا المميزة والفارقة، فإن الانفتاح بالخصوص على ما حققته الأنثروبولوجيا بتوجهاتها المختلفة، قادرة على منح السرديات آفاقاً أخرى تحقق امتدادها خارج النص بواسطة المكونات السردية نفسها.
  • تفيد المقاربة الأنثروبولوجية للنصوص الرحلية في الخلوص إلى أن الإنسان في شتى تمظهراته وتجلياته يصدر عن عنصرين أساسيين، هما عبارة عن حاجتين أساسيتين في حياة الإنسان الحاجات البيولوجية المتعددة التي تؤمن له الاستمرار كاللباس والحجام والشراب والسكن والانتظام والزواج والتوالد بالتطبيب وغيرها، ثم الحاجة إلى الحماية عير اللجوء إلى عبادة إله يقيه هول ظواهر وقوى قاهرة يظل عاجزا إزاءها عن التصرف.
  • تشكيل النصوص السردية، فضلاً عن مكوناتها التخييلية، بيانات حول السياق السوسيوثقافي الذي تنبثق عنه، إذ لا يمكن للكاتب، وهو يحكي مروياته إلا أن ينهل مواده من الواقع الذي ينتمي إليه، سواء من حيث اللغة بمستوياتها كافة، أو من حيث الشخوص وهيآتها ورؤاها ولباسها وملامحها وحواراتها، أو من حيث الهموم والموضوعات والأسئلة والمطامح التي تشغل بالها، أو من حيث التاريخ والجغرافيا المحددات الزمان والمكان السرديين.
  • تعرف المكونات السردية من فضاء وشخصيات وتبشير وزمن وأحداث بكونها محطات قدمت من خلالها السرديات خدمات كبرى للنص السردي وحققت عبرها نجاحات فائقة. وبحكم ما تحقق من تراكم بحثي حول هذه المقومات التي تميز جنس السود بكافة أنواعه وتجلياته من طرف نقاد السرديات وباحثيها، يمكن اتخاذها منافذ العبور من المحكي السردي بوصفه بنية مغلقة تشتغل وفق ديناميتها الخاصة، إلى العالم الإنساني بكافة مظاهره الواقعية والمتخيلة.
  • أصبحت الحدود بين العلوم الإنسانية ومجالاتها لاغية، لا بحكم تمحورها حول موضوع واحد هو الإنسان، ولا بحكم نظرة القصور إلى المنهج التخصصي الخالص، بل لكون المقاربة كلما كانت تشتغل داخل وعي نسقي بالتحام كل العلوم وتضامنها وتحالفها؛ كانت النتائج التي تتوصل إليها أفضل على المستوى الإجرائي، وكلما نظر الباحث إلى منهجه وموضوع بحثه في استحضار واع لتموقع تخصصه داخل بنية الكل الحاضنة للتقاطعات والتداخلات بين علوم الإنسان؛ كان مسار تحليله للظواهر، وانتقائه لبيانات موضوعه، وخلاصات نتائجه أكثر شمولية وانسجاماً ودقة.