توطئة

الحوار والتعايش عمليتان مترابطتان أساسيتان لبناء مجتمعات مسالمة ومتماسكة، حيث يعزز الحوار التفاهم بين الأفراد والمجموعات المختلفة من خلال تبادل الأفكار والآراء، بينما يعني التعايش احترام وقبول التنوع الثقافي والديني والفكري. وتُعتبر هذه العمليات ضرورية لمواجهة الصراعات والتحديات، وتعزيز السلام العالمي، وحقوق الإنسان.

وتسعى دول العالم اليوم إلى تعزيز الحوار والتفاهم العالمي بين الثقافات والحضارات، من أجل بناء عالم جديد قائم على أساس التعايش ونبذ الاختلاف. فالحوار الحضاري هو مدخل التواصل والتفاهم بين الشعوب، ودلالاته عناصر أساسية في العيش المشترك وتقبل الحوار الثقافي مع الآخر المختلف دينيا وعرقيا ومذهبيا وثقافيا. وهذه الاختلافات الموجودة بين شعوب العالم شكلت نقطة التناحر والتعصب ونبذ الآخر، وشكلت مأزق الحداثة المعلن بالعديد من الآليات، وكانت العولمة أحد أهم آليات فرض ثقافة الدول الكبرى على العالم أجمع. وشكلت هذه الإرهاصات أزمة الحضارة المعاصرة، مما دفع بالعديد من دول العالم إلى البحث في تعزيز دور الحوار الحضاري ونشر ثقافة التعايش على أكثر من صعيد من أجل تعزيز المفاهيم الحديثة للتعايش وفقا للأطر السامية التي تكفل احترام الخصوصيات واحترام الاخر المختلف دينيا وعرقيا ومذهبيا، سواء على المستوى المحلي أو العالمي في جميع المجتمعات الانسانية .

ويسعى الكتاب الجماعي “الحوار والتعايش مداخل ورؤى” إلى التأسيس لفكر ومنهج التقارب بين الثقافات والحضارات،  وبناء ثقافة التعايش عن طريق الحوار وعلى قاعدة التفاهم المتبادل. وهو مؤلف جماعي صدر عن مختبر دراسات الفكر والمجتمع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، قدم له الدكتور عبد المجيد بوشبكة، ونسق أعماله الدكتور محمد موهوب، يقع في 208 صفحة، في طبعته الأولى لعام 2020م.

مضامين الكتاب

يقول الفيلسوف المخضرم، روجي جارودي بمناسبة حديثه عن أهمية الحوار، حاكيا شيئا عن جولته الفكرية حول العالم: “إن التحليق فوق الذرى والاستحمام في جميع مياه البحور والأنهار، واجتياز الأبواب كلها، والتأمل في جميع المرتفعات التي أبدعها الإنسان، كل ذلك إنما يرمز أيضا إلى ما رفدنا به، عندما نحسن الإصغاء يتواضع، أولئك البشر الذين يحيون ثمة اليوم، وما ينبئوننا عن المغامرات الإنسانية الكبرى المعاشة لديهم، وعن المشاريع الإنسانية التي يحلم بها البشر هناك بصدد المستقبل”.

لقد تأكد في حياة البشرية اليوم أن السنن الكونية تشهد شهادة مدوية على أخوة المخلوقات، ووحدة الخالق، ودعواته إلى الناس كافة عبر أنبيائه ورسله، المؤكدة لوحدة بداية هذا العالم الفسيح ونهايته مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ” (سورة الأنبياء 107\21).

ولعل الاختلاف الحاصل بين بني البشر، من أفريقيا إلى آسيا وعبر كل القارات ومن خلال كل الأجناس، يعد نتيجة طبيعية لاختلاف أصولهم ومكوناتهم ومؤهلاتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم. والعقلاء فقط من يؤمنون بأن كل تلكم الاختلافات تشكل عوامل تكامل تقوي مكانة النوع البشري في مواجهة تحديات الحياة اللامنتهية. الشيء الذي يعتبر شهادة حية ومستمرة، على تجربة كونية عمت الأرض كلها. إنها شهادة فرح بالغنى الإنساني، شهادة تتناول ما بحثت عنه، وما أعتقد أنني اكتشفته فى كل ثقافة من هذه الثقافات لدى كل إنسان من هؤلاء الناس، شهادة الطابع الإلهي”.

ولما كانت التربية في مفهومها الشامل تلازم الإنسان في كل المراحل والفترات التي يمر بها فى حياته، فقد كان فى لحظات ضعفه الملازم لبشريته، في أمس الحاجة إلى مصاحبة من يقوي ضعفه ويخفف ما يعانيه من تبعات جراء ذلك الضعف. من أجل ذلك احتلت قضية الصحبة والمصاحبة مكانة خاصة فى التوجيهات الربانية للناس أجمعين قبل توجيهات العلماء والصالحين، (وَالْأَخِلَّاهُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) سورة الزخرف 67\43.

وقد ورد مصطلح الصحبة وتصريفاته، في القرآن الكريم حوالي 70 مرة، منها 49 مرة بالقرآن المكي. ولهذا الورود دلالات لا تخطئها عين المتأمل في هذا الكتاب المعجز، ذلك أن حاجة الناس إلى المصاحبة للتعاون على تجاوز التحديات التي واجهت الناس فترة نزول دستور البشرية الجديد القرآن الكريم. كما ورد هذا المصطلح حوالي 20 مرة بالقرآن المدني، وهو أمر يبرز أن الحاجة إلى الصحبة قد حققت جزءا من أغراضها الرسالية والسماوية والإنسانية والمتمثل في معرفة الناس لطريق الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والمتمثل في معرفة الله تعالى بصفاته الحسنى. إلا أن ذلك لا يعفي الناس من أهمية بقاء الصحبة والمصاحبة من أجل تقوية ضعف الإنسان، وتأهيله لاستمرارية البناء، وتبليغ الرسالة إلى كل أصقاع الدنيا، على منوال ما بينه النبي الكريم تمام البيان وأحسنه. (مقدمة الكتاب، ص: 8\9)

إن أمر الحوار وقضاياه في واقع الناس اليوم ليس ترفا فكريا ولا سياحة ثقافية، بل هو شيء تفرضه تحديات الحياة المتزاحمة، وقضايا الناس المتشابكة ومصيرهم المشترك؛ وهو ما يحتم على البشرية اليوم السعي الجاد للبحث عن الوسائل المثلى من أجل صناعة الحياة.

حول هذه القضية، وضمن هذا السياق، وفي خضم التحديات الخطيرة التي تمر بها الإنسانية، تهدف هاته الدراسة إلى بناء ثقافة الحوار والتعايش من خلال مقاربة المفاهيم، وتقريبها ومساءلتها، والتأصيل لها. وبيان التعايش والتآلف بين المسلمين وغيرهم في ضوء القيم الإسلامية والمشترك الإنساني، وطبيعة حوار الحضارات وتقييمه، والغوص في قراءة وثيقة المدينة وما رسخته من أسس العيش المشترك في ظل التعدد العقدي والقومي. وإعادة إحياء مفهوم الصحبة والمصاحبة وأثرهما في التربية والارتقاء بالمنظومة التربوية. وقد وقف الباحثون كل من وجهة نظره على زاوية من زوايا النظر والتحليل في هذه القضية الواسعة التي يزداد انشغال العالم بها يوما بعد آخر.

ويعتبر هذا الجهد الطيب حسب مقدمه، الدكتور عبد المجيد بوشبكة، باكورة جملة من أعمال مختبر دراسات الفكر والمجتمع الذي باشر عددا من الملفات والقضايا التي تهم البحث العلمي. وقد ارتأى المختبر  أن يجعل هذه الثمرة العلمية في محورين إثنين:

  • المحور الأول : الحوار والتعايش : مداخل ورؤى استشرافية، وتضمن ما يلي: جدل حوار الحضارات وثقافتها: قراءة في المدخل والمقدمات، لـ د. محمد جکیب. التعايش والتآلف الحضاري بين المسلمين وغيرهم في ضوء القيم الإسلامية والمشترك الإنساني، لـ د. فؤاد بلمودن. حوار الحضارات أم الحوار الحضاري، تقييم وتقويم، لـ د. علي زروقي. التواصل الحضاري المفقود: قراءة في كتاب “المتاحف وأفكار النهضة لمؤلفه  د. رضوان خدید”، لـ د. حسن مسكين. فكر الإصلاح بين نظرية المؤامرة والحس النقدي، لـ د. محسن بن زاكور.
  • المحور الثاني: الحوار من التأصيل إلى التفعيل، وتضمن ما يلي: وثيقة المدينة ومنظومة الإصلاح في ظل التعدد القومي والعقدي، لـ دة. سعاد رحائم.الاختلاف بين الصحبة والعلم، لـ د. عبد المجيد بوشبكة. الصحبة بين أصالة المفهوم وأبعاد التوظيف: صحبة أهل الأديان نموذجا، لـ د. محمد موهوب. الصحبة والمصاحبة وأثرهما فى تجويد الأساليب التربوية والطرق البيداغوجية، لـ د. عبد الجبار لند. تربية الإنسان بين الاطمئنان النفسي والأمن الاجتماعي، لـ د. الحسن صدقي.