توطئة

يرجع العديد من الباحثين تخلف المجتمعات وأزمة الإنسان إلى ضعف منظومة القيم والأخلاق، ومن هنا بدأ الاهتمام بها في ظل التحولات الكبرى التي يمر منها العالم وتستهدف الإنسان في جوهره ولا تذخر جهدا من أجل إخراجه من عمله المعنوي باعتباره إنسانا، بل هي تهديدات أخلاقية في الغالب وفي المقام الأول. والمنظومة الدينية بإمكانها تقديم رؤية كفيلة بتوجيه السلوك الإنساني العام، والمساهمة في بناء وعي سلوكي جماعي عالمي، ينطلق من نكران الذات والتفاني في خدمة الصالح العام.

ويأتي كتاب “أخلاقيات التدبير الجماعي بين النصوص والتنزيل جماعة” الجديدة نموذجا للأستاذ لحسن مقبولي، الذي يقع في 210 صفحة قدم له الدكتور محمد جكيب، عن مطبعة رؤى برينيت الرباط، الطبعة الأولى 2023م. يقدمه للمهتمين بالشأن السياسي في علاقته بالقيم والأخلاق في الشأن المحلي، وفي الوقت نفسه للمتخصصين في مجال البحث العلمي المهتم بمجريات الواقع: اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ليعيد الاعتبار للمسألة الأخلاقية في مجال التدبير والحكامة. وغاية المؤلف الرغبة في الوقوف على بعض ما يعيق السير الطبيعي للشأن المحلي، الذي يسهم بصورة أو بأخرى، في إعاقة التنمية المحلية، ويؤثر سلبا على مختلف الجوانب الأخرى المرتبطة بالإنسان. (مقدمة الكتاب ص 11/10)

محتوى الكتاب

الحقل الديني وحقل الدراسات الإسلامية هو الإطار العام الذي انطلق منه الكتاب، وقد عمل المؤلف على تجاوز أو الخروج من هذا الأفق المحدود، كما قد يعده البعض، إلى الأفق الأوسع، وهو ربط الرؤية الدينية بالواقع بعيدا عن كل توظيف أيديولوجي، وجعلها رهن متطلبات الواقع، في ظل ارتباط المجتمع المغربي بخصوصيته الثقافية والدينية، وعمق تشبته بالثوابت الوطنية دينيا وثقافيا وسياسيا. وقد ركز المؤلف على المقاصد العليا لهذا الوطن، وكل ما هو أخلاقي وقيمي، والعمل على جعلها رهن اهتمام الشأن المحلي.

يؤكد المؤلف أن من مبررات اختياره للدراسة في هذا الموضوع، أن التدبير الجماعي ليس سوى صورة مصغرة لتصور الهيئات السياسية للتنمية، والذي تعبر عنه في برامجها التي تقدمها للمواطنين. كما أن التجربة المتواضعة التي حصلها من خلال الممارسة الميدانية في مجال تدبير الشأن العام، شجعته لكي يقتحم هذا الموضوع خاصة وأن بلادنا، على غرار باقي الدول، سنت أنظمة ومساطر تؤطر هذا المجال من خلال قوانين تنظيمية. ولتحقيق التنمية الشاملة للمواطنين عبر الجماعة الترابية، لا بد من مراعاة جملة قواعد، بتوفير حد أدنى من الأطر والكفاءات القادرة على فقه حيثيات ومضامين تلك النصوص المنظمة للتدبير الجماعي، بل ولتحقيق تنمية شاملة، في دولة إسلامية، لا يكفى الالتزام بالنصوص القانونية، بل لابد أن يتوفر حد أدنى من القيم المرجعية نظرا لأن الواقع أفاد بأن فقه النصوص وحده لا يكفي من تحقيق التنمية المنشودة خاصة في مجال حساس تكثر فيه المغريات، وتتزاحم فيه حاجات المواطنين ومصالحهم. لذلك فلابد من رصيد من الأخلاق لتدبير المرافق العامة خاصة التابعة للتدبير الجماعي. ومن هنا طرح إشكالية البحث على النحو التالي: لماذا لم تنجح كثير من المجالس الجماعية في تحقيق التنمية المنشودة؟. وحين التأمل في حيثيات وتبعات هذه الإشكالية وتبعاتها، واجهته أسئلة حقيقية في هذا الباب، منها: هل الأمر راجع إلى قصور النصوص ومساطر التدبير الجماعي وأخلاقياته؟ أو أننا في حاجة إلى محفزات أو تشريعات جديدة؟ (الكتاب ص 20/19)

وقد حاول أن يعالج هذا الموضوع من خلال الاعتماد على المنهج الوصفي لعدد من الملفات ودراستها، ثم المنهج التوثيقي من خلال انكبابه على التحقيق في جملة من الوثائق المهمة المتعلقة بدراسة قضايا حساسة، خاصة بقسمي التعبير والممتلكات والأشغال التقنية، وقسم الشؤون المالية والإدارية والقانونية محل الدراسة، ثم المنهج التحليلي، بداية بعملية التفسير لعدد من الأمور، ومحاولة فهم منطلقاتها وأهدافها، مرورا بعملية النقد عبر الاحتكام إلى النصوص والضوابط القانونية والمسطرية في مجال تدبير الشأن العام. ثم استنباط ما يراه موافقا أو مخالفا للأعراف والقوانين والنصوص في هذا المجال. (الكتاب 21/20)

كما تطرق إلى بعض المواثيق والاتفاقيات الدولية والقارية والتي تناولها في الفصل الثاني من هذه الدراسة في حديث عن النصوص المرجعية، وقام بتوثيقها في ملحق خاص بها بعد الخاتمة. فبعد التمهيد والمقدمة، قسم البحث إلى فصلين؛ تناول في الفصل الأول أخلاقيات التدبير الجماعي، وبه، مبحث تمهيدي، الأخلاقيات، التدبير الجماعي، أخلاقيات المهنة (الحكامة – الشفافية) بقسمي التعمير والممتلكات والأشغال التقنية وقسم الشؤون المالية والإدارية والقانونية. أولا: التعريف بجماعة الجديدة. ثانيا: التعريف بالهيكل التنظيمي لجماعة الجديدة. ثالثا: تحديد اختصاصات قسمي الدراسة. الحكامة والشفافية: الحكامة من خلال قسم التعمير والممتلكات والأشغال التقنية، الشفافية من خلال قسم الشؤون المالية والإدارية والقانونية، الرسوم المدبرة من قبل الخزينة الإقليمية للضرائب بالجديدة، الضرائب المديرة من قبل مصالح جماعة الجديدة، الباقي استخلاصه وأثره السلبي على مالية الجماعة، التدبير الجماعي والأهداف التنموية/جماعة الجديدة الدولية: أهداف التدبير الجماعي، مقاصد التدبير الجماعي، وسائل التنزيل التي وفرتها جماعة الجديدة لتحقيق التنمية المحلية. وفي فصل ثان تناول النصوص المرجعية لتنزيل أخلاقيات التدبير الجماعي، مبحث تمهيدي، العلم والعمل، فقه التنزيل، النصوص الدينية، النصوص القانونية: (الحكامة – الشفافية بقسمي الدراسة؛ أولا: الحكامة بقسم التعمير والممتلكات والأشغال التقنية، ثانيا: الشفافية بقسم الشؤون المالية والإدارية والقانونية، وخاتمة، وملحقات.

ولإنجاز هذه الدراسة، حاول الاستناد إلى جملة مصادر مهمة في الموضوع، كبعض المعاجم، وكان لابد من الوقوف على عدد من النصوص القانونية المنظمة للتدبير الجماعي. كما حاول أن يجمع عددا مهما من الوثائق المتعلقة بتدبير القسمين بجماعة الجديدة محل الدراسة وتسييرهما. ومن جهة ثانية اعتمد المؤلف على عدد من النصوص الدينية التي تسند قضاياه بدءا ببعض ما ورد في القران الكريم والسنة النبوية المشرفة، وكذا بعض الآثار في تاريخ أمتنا التي كنت مازالت تشكل محل فخر لكل الأجيال، وختم الكتاب بجملة من النتائج والخلاصات. (الكتاب 22/21)

خاتمة

اجتهد الكاتب في التوفيق بين حديثه عن القيم والأخلاق وبين الزوايا العملية المرتكزة على البحث الميداني المباشر، من منظور أخلاقي. ومن المواطن القوية، هو ذلك الحرص الذي أبرزه المؤلف من خلال دعم بحثه برصيد وثائقي مهم.

وخلص إلى أن النجاح في تدبير الشأن العام، هو ضمنيا تحقيق لأحد أهدافه، وغاياته التنموية. وأن التدبير الجماعي، هو تلك السياسة التي تتخذها الجماعة الترابية وتختارها لتسيير أمورها وفق البرامج والمخططات التي حددتها الجماعة، حسب القانون التنظيمي الخاص بالجماعات المحلية. ومما تجب الإشارة إليه، أن الالتزام بقيم الإسلام وأخلاقه السمحة يسهم بشكل فعال في تحقيق التنمية الشاملة المتوخاة من التدبير الجماعي، نظرا لأن التقيد بحيثيات القوانين المنظمة غير كاف لتحقيق تلك الأهداف.

وبناء على ما سلف، فلا مناص من المزاوجة بين النصوص القانونية والدينية لتسيير شؤون الجماعات المحلية لما لها من العناية الفائقة التي يوليها التشريع الإسلامي لمجال الأخلاقيات. ولكونه تشريعا شاملا، فقد وجدنا تلك النصوص قد غطت كافة أنشطة الإنسان وحاجاته. كما تبين أن تحقيق مقاصد التدبير الجماعي النموذجي، لا يكون إلا بالانفتاح على القطاع العام والخاص، وبعقد شراكات واتفاقيات في مختلف المجالات الحيوية.