المحتويات
توطئة
من رحم الأمة المغربية خرجت امرأة مشاكسة سماها الروائي مولاي أحمد صبير الإدريسي “المهرة الجموح” العصية عن التطويع، يحبها، ويشَهد لها القاصي والداني، من قرأ لها ومن لم يقرأ، من اتفق معها واختلف، ومن جايلها من مفكرين وسياسيين وفاعلين وأدباء وصحفيين في النضال والكفاح والوطنية، بأنها قامةٌ أدبية ووطنية يصعب تكرارها. تجول بك الرواية وبسرد محكم يشدك إليه شدا، ويجوب بك دروب فاس القديمة، وباريس، وتحلق بك في عوالم وأزمنة غير الزمان الذي نعيشه، بوح بقراءة المصاحبة لبطلة رسمت مسارا مغايرا لبنات زمانها، وتحدت كل معيقات وتمثلات مجتمع ذكوري أراد للمرأة أن تخرج مرتين، لبيت الزوجية والقبر. حكي عن حقبة تاريخية عانى فيها المغرب من الاستعمارين الفرنسي والإسباني، ووجها بمقاومة شرسة قضت مضجعه، وأرهقت جنوده، وفضحت المتواطئين معه. حكي بلسان الآخر، يشبه ما سمي في الأدبيات ب”السيرة الغيرية”. تأتي رواية “حومة باب الخوخة ” بعد صحبة، وقربة، ومعرفة بالمحكي عنها. معلمة وشامة، قالت عن نفسها: “أنا نخلة مغربية طالعة من تراب هذه الأرض، سامقة لا أستظل لا بظل أوروبا ولا أميركا، مع أني أعترف بأني تلميذة للفكر والإبداع الإنساني أينما كان”. رائدة في تاريخ الأدب العربي في المغرب، وتاريخ الأدب العربي المعاصر، هي امرأة وطنية حتى النخاع، ذات التزام سياسي واجتماعي وأخلاقي أعطاها مكانة خاصة داخل المشهد الأدبي والثقافي، وجعلها أيضا تمتاز بحظوة داخل الفضاء السياسي المغربي وبين العائلات السياسية وبالخصوص داخل حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي الذي كان يعدّ نفسه أباها الروحي.
مولاي أحمد صبير الإدريسي خبر الرواية وصعوباتها فكتب “المحجوب”، و”أضغاث يقظان”، و”عشاق الحرية”، و”رسائل السجن…“، ثم “حومة باب الخوخة” التي تقع في 165 صفحة عن دار الإحياء للنشر والتوزيع. الرواية تجلي بعض معالم شخصية تؤكد أنها “إنسانة مسكونة لدرجة المرض بحب الله والوطن والملك والمعرفة والعلم والثقافة وخدمة الإنسان”.
مضامين الرواية
نهاية الحكي:
كل الشخصيات التي نسج الراوي، وإن كانت من نسج الخيال، فتبدو حقيقية ﻷن صاحبنا قريب عمريا، ومواكب زمنيا لجيل الاستقلال، في بداياته، كانت بطلة الرواية تحلم بمغرب الحرية والديمقراطية، وبمستقبل طالما تمناه الآباء قبلهم، وكانت البكالوريا مفتاح التسلق الاجتماعي، والبحث عن عيش رغيد، ومكانة اعتبارية في مجتمع تنخره الأمية. خرجوا جميعا من رحم الحومة، سجلوا بطولاتهم وإنجازاتهم بالرغم من قلة اليد والمعاناة، رسموها بماء عيونهم، وبعضهم اغترب عن أهله، ولم تنصفه الرؤية الغربية المقيتة المنافقة، التي تميز الناس بحسب ألوانهم ومعتقداتهم، الفاطمي، الشافعي، الغرباوي، الكنوني، الحياني،… لكل واحد منهم حكاية فريدة متفردة لا تشبه الآخرين، جمعتهم الأقدار بثانوية ابن كيران، لمة مسائية بما يصاحبها من أحلام وآمال وخيبات، ونكهة تدخينية سيدها “السبسي” هم جلساء من دخان. (الرواية ص 53)
“خنتيتي” المروضة
وحدها “خناتة” كان لها من الجرأة ما يكفي لترويض الأستاذ “بنسالم” مدير الثانوية، وضمن حصص الترويض تلك، جرأتها على دخول ساحة الثانوية ممتطية عربة يجرها حصان في زمن كانت العربة تقوم مقام سيارة الأجرة (الرواية ص 56). من أين امتلكت للا “خنتيتي” هذه الشخصية القوية؟ خناتة العاشقة للحرف التي كانت تدمن عليه إلى درجة غضب وسخط أمها “يارب رد لي بنيتي ونجيها لي من سحر الكتاب والقراء” (الرواية ص 29). “لا أحد يذكر متى تبتلت “خناتة” وتحنتت في محراب القراءة، وﻻ كيف صارت القراءة عندها طقسا يوميا ﻻ يلغي ولا يؤجل، وﻻ يذكر أحد ممن حولها كيف صارت القراءة معراجها اليومي إلى ملكوت التفكر والتأمل والإبداع، وﻻ كيف صارت تطوي عبره فواصل البعد بينها وبين عوالم شتى وكائنات ما بين الأرض والسماوات، فتهبط الستائر والحجب وتفيض إشراقات الجمال، وفيوضات الجلال، وتتجاوز ما حولها لتعيش حالات صحو وجداني لا حدود لروعته وﻻ منتهى لرقيه وسموه (…) لأجل القراءة ضحت “خناتة” بالصديق والرفيق، ومن أجل أنس بالكتاب، استغنت عن السمير والخدين، ما عاد شيء يغريها، وﻻ شيء من لعاعتها يستهويها سوى كتاب تخلو إليه” (الرواية ص 28- 29).
ثورة ثقافية:
أحدثت “خناتة” ضجة كبيرة بالمؤسسة التربوية وفرضت رؤيتها للتدريس وحببت التمدرس لتلامذتها الذين رأوا فيها زعيمة تبشر بمستقبل زاهر، “إننا في مفترق الطرق، إما أن نكون أو لا نكون، إننا في حاجة إلينا، نحتاج إلى بمعايير عصرية، إلى مجتمع متماسك، نحتاج إلى وطن عربي قوي وموحد، قادر على الانعتاق من شرنقة الماضي والخروج من نفقه، والرهان عليكم أنتم، أنتم أمل هذا الوطن، أمل المغرب الكبير، أمل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ﻻ نرضى أن نكون مجتمعا من البقر المعدة أو التيوس المهيأ للنطح (…) من هذه الثورية المتطلعة إلى مغرب ما بعد الاستقلال؟ لقد نجحت هذه المهرة الجموح المجنحة في الارتقاء بهم إلى مرتفع شاهق ليطلوا من هناك على مجتمعهم في ضوء عدد القناعات والأفكار والعادات والتقاليد، كان الانبهار عميقا بامرأة بدت على غير ما ألفوه، امرأة صداعة … جسورة ” (الرواية ص 47- 48).
هل أتاك حديث الاستقلال:
واجهت خنتيتي الاستعمار الغاشم بكل ما أوتيت من قوة، وبوعي كبير حيث استفادت من محيطها الأسري وبيئتها المقاومة، فهي تنتمي لأسرة تؤثر على نفسها ولو كانت بها خصاصة، وأسرة أسهمت في النضال الوطني وأدت الثمن لحما ودما وأموالا ورجالا ونساء وأطفالا. هنا حومة أزهرت مرتين، بل ثلاثا، بل أكثر، العلم منها فاح، والمال ساح، والمجد هاج على المدى، والبذل ماج فأطل بكبرياء على قابل الزمان… (الرواية ص 14). نهلت خناتة من المتنبي ودوستويفسكي، فامتلكت نفسا أبية تواقة، وكبرياء واعتزازا بالذات، كما استوعبت دواخل النفوس، فتحت “أعطاف هذين الساحرين، تفتقت أفانين هذه الفسيلة لتزهر على عجل” (الرواية ص 33). في حضن الوطن ترعرت خناتة، وتشربت مبادئ النضال “… حتى الأمهات وهن يهدهدن صغارهن صرن يغنين مواويل يحكين من خلالها ما لحق الفرنسيين من هوان، وما سطره “الوطن” في جنح الظلام، إنه يوم لا ينسى، سيظل حيا في ذاكرة حومة باب الخوخة وحي كرواة، بل باقي مدن المغرب وتاريخه وذاكرته، ما بقيت السماء والأرض والشمس والقمر…” (الرواية ص 137). إلا أن الفرحة لم تكتمل فقد “تحول الفرح بالاستقلال إلى رعب يركب عددا من الرجال الذين استرخصوا يوما أرواحهم لتحرير الوطن، ثم ما لبثوا، أن ضحوا بها، بعد أن صار الخصم غير الخصم، والجزاء غير الجزاء (…) حومة باب الخوخة ﻻ نهاية لحسرتها، ﻻ أفق لحيرتها، ﻻ شاطئ لخيبتها بعد أن كادت تتحول إلى “كَرنة” مفتوحة على الأسوء، تتساقط فيها الجثث دون أدنى تقدير لكرامتها وعطاءاتها وتضحياتها، ودون أن تراعي حرمة قبور شهداء الوطن الراقدين على مرمى حج ” (الرواية ص 144- 145).
عايشت خناتة لحظة توقيع عريضة وثيقة المطالبة بالاستقلال، وجرم ما أقدمه عليه السينغال والكوم بقتلهم لواحد وخمسين شهيدا وشهيدة واحدة، وقد تأكد للحركة الوطنية ضعف دولة الاستعمار التي انهارت في أيام ودخل الألمان عاصمتها باريس، فهي “أضعف من بيت العنكبوت” فكان قرار الانتقال بالعمل الوطني من المطالبة بالإصلاح في إطار الحماية إلى المطالبة بالاستقلال (الرواية ص 138).
ربطتها بالقضية الفلسطينية زيارتها للقدس مع أبيها أثناء طريقهما لأداء الحج وهي ابنة عشر سنوات. وفي تلك الرحلة وجدت كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون” وأثر فيها وشكل لديها وعيا نضاليا قوميا، وأعطاها دفعة قوية للمنافحة عن الهوية والدين والتاريخ والحضارة والماضي والحاضر والمستقبل.
قيم مغربية جامعة:
تحضر الأم بكل عنفوانها في الرواية تسكن الراوي، هي القديسة المقدسة، برها إيمان لا دخن فيها، وعشق أبدي؛ “أماه أجوع صباح مساء إلى لقياك، طيفك يقتحم علي خلواتي وينازعني صلواتي، يشاركني لحظات يومي، وعند الليل ينازعني قسطا معتبرا من غفواتي. أحن إلى أمي، وإلى كل شيء منك أو لك، ﻻشيء في فرنسا يغريني، ﻻ عطورها… ﻻ حلوياتها… ﻻ أطباقها… وﻻ ساعاتها اليدوية…” (الرواية ص 129). بر الوالدين على لسان رشيد النابغة المظلوم من طرف الغرب. ولعل من أهم القيم التي بين ثنايا الرواية التضامن والتماسك المجتمعي والذي جسده تجار حومة باب الخوخة “فكان أن قدمت حومة باب الخوخة أمثلة رائعة، وسطرت مواقف إنسانية خالدة في التضامن والتوادد والتراحم، كانت الدور دارا واحدة، والأعراس والأفراح أفراحا لهم جميعا والأتراح أحزانا لهم كلهم. ليت الأجيال حافظت على هذا الارث، ورعت هذه القيم، وخلدت هذه الأعراف والتقاليد” (الرواية ص 84).
خاتمة
باب الخوخة جوهرة أبواب فاس من الجهة الشرقية الوسطى، رمم وقوم وجدد مرات ومرات، آه كم عاش من أنواع الشرور وأشكال الخيبات، وكم شهد من ظلمات التحكم وطبائع الاستبداد… يتمنى المؤلف أن يتحقق حلمه، ولن ييأس وسينتظر اليوم الذي يعود للمسجد رونقه، وللمدرسة رسالتها، وللأسرة دورها الحضاري، لتعود الحومة واﻹنسان إلى سابق العهد، وسالف المجد (الرواية ص 163).
رواية نجد بين ثناياها بعضا من حياة رائدة قل نظيرها، خناثة بنونة صاحبة أول مجموعة قصصية تصدرها امرأة في المغرب سنة 1967 تحت اسم “ليسقط الصمت”، هذه النخلة الشامخة التي لا تزال إلى اليوم تمد الكتابة الصحفية والروائية والقصصية بوارف ظلها. آمنت بالفكر المقرون بالعمل. قال عنها الزعيم علال الفاسي: “هذه ابنتي وابنة المغرب وقرة عيني”، وطنية حقيقية في مشاعرها وتفكيرها وسلوكها وارتباطها بالآخرين.